إن في التاريخ لعبرة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

يَحكي التاريخ سيره من دون أن يدلك بأطراف أصابعه الخشنة فروات رؤوسنا، ولا يهتم إن أسدلت قصصه ستائر جفوننا التي أضناها السهر. يَحكي التاريخ من دون أن ينتظر شهقة المفاجأة أو زفرة اليأس من حلوقنا اليابسة، ويمر من دون أن يلتفت إلى وجوهنا المُكفهِرّة أو جباهنا المُقَطَّبة. يَحكي التاريخ لأن القصَّ صنعته، ولا يهتم كثيراً إن إستوعبنا الدرس، لأنه يكرّره في أوراقه الصفراء المغضنة مرة ومرة وألف مرة. ودرسنا اليوم من ألمانيا التي سبقتنا إلى التضخم بآلاف الفراسخ ثم عادت من هناك أقوى آلاف المرات.
لم تقتفِ إلمانيا أثر الأعداء، فلجأت على عكس اللدود فرنسا إلى سياسة الإقتراض لتغطية نفقات الحرب العالمية الأولى بالكامل. كان “فيلهلم” الثاني واثقاً من النصر، وكان يعوِّل على مغانم الحرب لتغطية ديونه، ولم يستمع إلى نصيحة الخبير الاقتصادي الشهير “غالمر شاخت” الذي حذّره من إنهيار محتمل للعملة المحلية (المارك). ولما جاءت الحرب بما لم يشتهِ “فيلهلم”، لجأ إلى حلول إقتصادية عاجزة أفقدت المارك ما تبقى لديه من عافية.
كان الدولار قبل الحرب يساوي 4.2 ماركات، ثم إرتفع ليعادل 7.9 ماركات بعد إندلاعها. وفي أعقاب الحرب، وبعدما خرجت إلمانيا من ساحات المعارك تجر أذيال النكسة، لم يستطع “فيلهلم” أن يُسدِّد ديونه التي تجاوزت حدود المعقول، فلجأ إلى حيلة العاجز بالإفراط في طباعة أوراق نقدية لا تجد لها من الموارد ظهيراً. وبعد معاهدة فرساي، ترنّح المارك، وأصبح الدولار بثمانية وأربعين ورقة إلمانية لا قيمة لها، وذلك بحلول 1919 ميلادية.
وظل المارك يتراجع أمام الدولار حتى صارت الورقة الخضراء بتسعين ماركاً في العام 1921، ثم إنهار المارك تماماً ليشتري الدولار ثلاثمئة وثلاثين ورقة منه. كانت الديون المُستحَقَّة على ألمانيا حينها خمسين ملياراً. وكان عليها تسديد ديونها بالعملة الصعبة، وهو ما إضطر الحكومة الفاشلة إلى طباعة المزيد من الأوراق التافهة لتتمكن من شراء البنكنوت الأميركي، وهو ما عجّل بدخول المارك غرفة إنعاش وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.
وهكذا، ظلت إلمانيا تدور في فلك خبيث، من طباعة أوراق نقدية لا قيمة لها إلى شراء عملة غير موجودة إلا في أسواقها السوداء، حتى حدث التضخم الجامح الذي لم تُجدِ معه كافة الجراحات الإستئصالية المُعقَّدة. وهكذا، وجد الإلماني نفسه على رصيف واقع مؤلم، لا تطعمه الأناشيد الحماسية ولا تسقيه خطابات القائد اللاهبة. فجأة، أدرك المواطن المسكين أن محفظته المنتفخة عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من الأمان المادي، فضلاً عن الرخاء الذي لطالما وعد به الإمبراطور فيلهلم. كان فقراء الألمان ينامون فوق أسرة من بنكنوت، لكنهم لم يكونوا قادرين على شراء رغيف خبز يُهدّئ من ثورات بطون أطفالهم الجوعى.
ولما عجزت الحكومة الإلمانية عن تسديد ديونها نقداً، إضطرت إلى إستخدام منتجاتها المحلية مثل الفحم بديلاً من الورق، لكن ذلك كله لم يُجدِ نفعاً، مما حدا بفرنسا وبلجيكا إلى إحتلال الروهر، وهي منطقة صناعية في غرب إلمانيا لضمان مستحقاتهما. وما زاد الطين اللازب بلة، قيام بعض المواطنين الإلمان في المنطقة الصناعية بالإضراب الجماعي عن العمل، مما سبّب شللاً تاماً في مفاصل الإقتصاد الإلماني، إضطرت معه الحكومة إلى طباعة مزيد من الأوراق المالية، وهو ما أدى إلى وفاة حتمية للمارك، وإنتشار نظام المقايضة لإتمام صفقات البيع والشراء بين المواطنين.
كانت فرنسا عدو ألمانيا اللدود وقتها أكثر حكمة، فلم تشتط في ثقتها بخوذات جنودها الصفر، ولم تلجأ إلى صناديق نقد أو لدول صديقة مادة يدها، وفضّلت فرض ضرائب على الدخل لتغطي نفقات الحرب، ولما خرجت من أتون المعركة منتصرة، إستطاعت أن تحقق رخاء غير مكذوب لم تعد به، لكنها كانت تخطط له في صمت. صحيح أن إنتصار الفرنك على المارك لم يكن نهاية المطاف، إلا أنه كلف المواطن الإلماني عقوداً من الهوان كان بإستطاعة حكومته تجنيبه إياه لو أنها إتبعت سياسة نقدية أكثر رشداً.
تتكرر دروس التاريخ، لكنها ليست أبدا مملة. لكن الكثيرين ممن يهمهم الأمر قد إنشغلوا ببرامج “التوك شو” والمسلسلات الهندية والتركية عن تقليب وجوههم في سموات الوعي، وتركوا مصائرهم نهباً للوساوس والمخاوف والقيل والقال. شغلتنا أموالنا وأهلونا عن النظر إلى الخلف أو التطلع نحو أي مستقبل، فصرنا مجرد تروس في آلة جهنمية تقودنا جميعاً نحو هلاكٍ محتمل وشيك. وتبقى خلفية المشهد ترسم حلولاً للمُخلصين الباحثين عن الشعاع في النفق، لكن أين هم؟

• أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى