إنتعاش السينما اللبنانية رغم غياب الدولة

شهد لبنان خلال الحرب الأهلية كَمَّاً من الإنتاج السينمائي بدعم من جهات أوروبية خصوصاً من فرنسا وبلجيكا، فظهر عدد كبير من المخرجين المشحونين بأفكار ونظريات أرادوا التعبير عنها، فبرز مارون بغدادي وجان شمعون وبرهان علوية وجوسلين صعب ورندا الشهال صباغ من ناحية وسمير الغصيني ويوسف شرف الدين وغيرهما من ناحية أخرى. وبعد إنتهاء الحرب بسنوات، سارع بعض القيِّمين على الفن السابع الى إفتتاح شركات إنتاج سينمائي، وتأمين معدّات تصوير وتأسيس معاهد وجامعات تعلم التمثيل والإخراج. كما نشأت جمعيات عدة ساهمت في نشر ثقافة الصورة، ومن ثم إنتشرت المهرجانات السنوية. وعلى رغم النشاط والحيوية في هذا المجال، يشكو أهل السينما من ان الدولة تبقى غائبة عن المساعدة والدعم لإنتاج مشاريع سينمائية، وتشجيع الجيل الجديد وإعطائه الفرصة لإثبات مهاراته.

مهرجان "مسكون" السينمائي: أطلقته شركة "أبوط للإنتاج"
مهرجان “مسكون” السينمائي: أطلقته شركة “أبوط للإنتاج”

بيروت – جوزيف فهيم

يُعلِمنا التاريخ الطويل والمُضطرب للسينما اللبنانية بأنه كان واحداً محفوفاً بعدم الإستقرار المالي، والإمكانات المُحبَطة، والعوائق الإستعمارية. وعلى رغم هيمنة السينما المصرية عربياً، فقد قاتلت السينما اللبنانية طويلاً حيث إستطاعت التألق وإثبات ذاتها في ستينات وسبعينات القرن الفائت، وبلغت ذروتها مع سلسلة من الأعمال الشعبية الكبيرة التي شملت المسرحيات الموسيقية الشعبية للرحباني/ فيروز. لكن صعود لما كانت تُعتبَر سابقاً السينما العربية الأكثر إثارة في ذلك الوقت لم يدم طويلاً بسبب إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
على مدى السنوات الثلاثين التي تبعت، فإن الجهود الكثيرة التي تطمح إلى إنشاء بنية تحتية ملموسة للسينما قد فشلت، فيما نما جيل كامل من المخرجين الذين إعتادوا على شروط مُحدّدة من التمويل الأجنبي – الوسيلة الوحيدة للتمويل والإنتاج خلال وبعد الحرب. وبصرف النظر عن المُستثمرين ومؤسسات القطاع الخاص في بعض الأحيان، فلم يجرؤ أي منتج فيلم لبناني على المغامرة في سينما وطنية مريضة تعتمد على حفنة من الصالات ومن دون أي تمويل محلي أو إقليمي.
في العام 2003، كان الثنائي المشهور جوانا حاجي توما وخليل جريج يبحثان عن مصدر بديل لإنتاج فيلمهما الثاني، “يوم آخر”. فجاءهما الغيث من جورج شقير، أحد أقطاب العقارات الذي عاد إلى لبنان لتولي أعمال العائلة التجارية بعد دراسة الفن السينمائي في فرنسا. وقد كانت السينما شغفه وعشقه الدائم، لذا عندما إتصل الزوجان به، لم يُبدِ شقير إهتمامه فقط بالمشروع، لكنه قرر أيضاً نتيجة لذلك إنشاء أول شركة إنتاج محلية في البلاد.
بعد ثلاثة عشر عاماً، صارت “أبوط للإنتاج” الآن أهم مركز لإنتاج الأفلام في لبنان وأحد أبرز شركات الإنتاج السينمائية في المنطقة. ويشمل سجلها التسويقي الغني والمتنوع “أريد أن أرى”، من بطولة كاترين دونوف وإخراج حاجي توما وجريج، والذي شارك في مهرجان “كان” (2008)؛ وفيلم غسان سلهب “الوادي” الذي شارك في مهرجان “برلين” (2014)؛ وفيلم “رصاصة طايشة” لجورج هاشم الذي فاز بجائزة مهرجان دبي (2010) وكان من بطولة نادين لبكي.
أنشطة “أبوط للإنتاج” الواسعة النطاق تمتد إلى أبعد من الإنتاج السينمائي اللبناني. سعياً إلى التأثير في المشهد السينمائي المحلي والإقليمي، فقد بدأ شقير وفريقه مؤسسة توزيع جديدة، التي أطلقت أول مهرجان سينمائي من نوعه في العالم العربي، وغامرت في الإنتاج التلفزيوني، وفتحت شركة أسهم خاصة لعمليات الإنتاج المشترك الدولية، وقامت بمساعٍ هادفة إلى تعزيز السينما اللبنانية. “أبوط للإنتاج” ليست مجرد شركة إنتاج: إنها مختبر للأفكار التي يديرها فريق موهوب متورط بشدة في خلق كل مشروع يعتمده.
إن الوضع المشجّع الحالي في مجالي الإنتاج والعرض هو أبعد بكثير من الوضع الذي كان فيه عندما بدأ شقير في العام 2003. “كان معدل إنتاج الأفلام الروائية فيلماً واحداً كل سنة ونصف”، قال لي شقير في مقر الشركة في بيروت. “أفلام مثل “أشباح بيروت” و”أرض مجهولة” لغسان سلهب، نُفّذا بواسطة فرنسيين فقط. لم يكن هناك منتجون لبنانيون في ذلك الوقت؛ أو وكالات بيع وتوزيع؛ ولا مسارح محلية فنية. لم يكن هناك أي شيء”، أضاف.
“يوم آخر” وضع شقير كسيد الأفلام البديلة في البلاد. وقد تبع ذلك مزيد من الأفلام في أعقاب نجاح حاجي توما وجريج، وفي العام 2007، شارك في إطلاق “متروبوليس”، أول صالة للأفلام الجدية من نوعها في لبنان، إلى جانب هانية مروة.
التركيز على صالات للأفلام الجدية ليس مقصوداً، كما يشير المدير التنفيذي للتنمية أنطوان واكد: “نحن لسنا ضد الأفلام التجارية، ولكن حقيقة الأمر هو أننا لم نتلقّ نصوصاً تجارية”. وأضاف: “إننا لا نزال نعتمد على الأموال الأوروبية لأننا ما زلنا غير قادرين على تمويل مشروع تماماً من المال اللبناني. هذه الأموال لها شروط معروفة جيداً حيث أن صناع السينما يشكّلون مشاريعهم حولها. وهي شكل من أشكال الإستعمار الذي أدّى إلى تشكيل سينما يحركها مؤلفون يلبون جزئياً رغبات الجمهور الغربي. إن الأموال الأوروبية تسعى دائماً إلى الغرابة. أفلام الكوميديا أو الإثارة تُرفَض دائماً لأن المموِّلين يعتقدون أن هذه الأنواع من الأفلام موجودة بالفعل بكثرة في الولايات المتحدة وأوروبا؛. فهي ليست فريدة من نوعها بشكل كاف”.
“إننا نسعى إلى التنوع، ونود أن نشتغل مع أنواع مختلفة، ولكن لم نصل إلى ذلك بعد”، علّق شقير. مضيفاً: “على مدى السنين ال10 الماضية، بدأت سلالة جديدة من الفن الشعبي، الأفلام الكوميدية الشعبية السائدة، الظهور. إن أكبر مأزق نواجهه يكمن في الأفلام التي يحرّكها مؤلف يتوجه إلى الخارج، والتي لا تجني مالاً في شباك التذاكر، في حين أن الأفلام الكوميدية الشعبية تؤدي أداء جيداً في شباك التذاكر ولكن لا تشارك أبداً في المهرجانات. وقد نجح عدد من السينمائيين على الجبهتين مثل نادين لبكي (“سكر بنات” أو كراميل) وزياد دويري (بيروت الغربية)، ولكنهما لا يزالان إستثناء لهذه القاعدة. نحن ما زلنا نناضل لإيجاد القصص التي تصل إلى البقعة الجميلة بين الفن والترفيه”.
معظم النصوص التي تلقتها “أبوط” بصورة رئيسية تدور حول مواضيع لا تتغير: الحرب الأهلية، الحرب الإسرائيلية 2006، والنفي، والآن اللاجئون السوريون. وعلى الجانب التفاؤلي، فإن نوعية الكتابة قد تحسنت بشكل ملحوظ. “لقد أجرينا العديد من ورش العمل في متروبوليس وغيرها من المنظمات، بمشاركة مديرين مع منتجين وكتاب مخضرمين. لقد تطورت ثقافة السيناريو كثيراً، خصوصاً فيما بدأ المنتجون يساهمون في عملية الكتابة”، قال شقير.
وقد لعبت التكنولوجيا دوراً رئيسياً في تطور السينما اللبنانية. نما جيل ما بعد الحرب مع سهولة الوصول إلى مرافق تصوير تعلّم إتقانها في وقت أصبحت صناعة الأفلام ممكنة، وهو أمر لم يكن موجوداً من قبل. إن التوسع في الثقافة السينمائية وتوافر الموارد قد دفعا بالسينمائيين لشحذ حرفتهم، مما أدى إلى ظهور موجة جديدة من المخرجين البارعين في أمور التكنولوجيا مع رؤى مميزة.
“قبل خمس سنوات، كنا نتلقى نحو ثلاثة نصوص في السنة، وكانت معظمها فقيرة من حيث الجودة”، قالت المنتجة ميريام ساسين. مضيفة: “نحن الآن نتلقى ما يصل إلى 30 نصاً في السنة، نصفها جيد جداً. وهناك منتجون أكثر الآن، فنيون أكثر، وهناك بيوت أكثر لمرحلة ما بعد الإنتاج. يمكن للفنيين أن يحصلوا على لقمة عيشهم من العمل في السينما، التي كانت شبه مستحيلة سابقاً. وهناك مؤسسات سينمائية أكثر مثل مؤسسة لبنان للسينما ومنصة بيروت للإنتاج المشترك؛ وهناك تمثيل ثابت في المهرجانات السينمائية الأولى، ومزيد في صناعة الأحداث. لقد أصبحت الأمور أكثر تنظيماً، وهذا فقط بدأ يجري في غضون السنوات الأربع الماضية”.
مع ذلك فإن حلم إقامة صناعة لا يزال بعيد المنال. بالنسبة إلى سينما في مهد مثل لبنان، فإن دعم الدولة هو أمر أساسي لتنميتها. على الرغم من ذلك، حتى الآن، فإن الحكومة قد غسلت يديها بشكل غريب من السينما، وتوفير أي دعم مالي، أو إعفاءات ضريبية، وليست هناك مساحات للعرض.
“في أوروبا، يمكن للدولة أن توفر ما يصل إلى نصف مليون يورو للفيلم الواحد، بالإضافة إلى البيع المسبق. وفي لبنان، ليس لدينا شيء من ذلك. العمل في ظل هذه القيود العديدة يجعل من الصعب على صناعة حقيقية في الظهور”، تعلق ساسين.
على الرغم من هذه العقبات، فقد تمكّن لبنان من تعزيز مكانته في السينما العالمية المعاصرة. “أنا متفائل” قال شقير. مضيفاً: “حتى وقت قريب، كانت هناك أعمال قليلة ناجحة، مثل “كراميل” أو “أريد أن أرى” ولا شيء غير ذلك. السينما اللبنانية الآن هي أكبر، وأكثر تنظيماً، ولأنه ليس هناك حتى الآن أي دعم من الدولة، فنحن نتواصل مع البنك المركزي لملء الفجوة في صندوق الدولة، وهذا سيعطي دفعة كبيرة بالتأكيد للمشهد السينمائي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى