هل يتّجه العالم العربي إلى التقسيم؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

قبل مئة عام عرف المشرق العربي التجزئة الأهم في تاريخه، حيث أُنشئت بلدانٌ، وزُرعت دولٌ غريبة عن الجسم، وسقطت دولة الخلافة التي يسعى رجب طيّب أردوغان رئيس تركيا إلى إحيائها.
وكان المغرب العربي إنتهى أمره وقتها، فنالت فرنسا تونس والجزائر وإستكملت الأمر بالمغرب الذي وقع تحت الحماية في 1912، أي 4 سنوات قبل إتفاقية “سايكس بيكو” التي أعطت سوريا ولبنان للفرنسيين، والعراق والأردن وفلسطين لبريطانيا، ومصر رزحت آنذاك منذ سنوات قليلة تحت الإنتداب البريطاني، أما ليبيا فكانت من نصيب الإيطاليين.
بعد قرن على ذلك، ما هي الخريطة التي يُراد رسمها للعالم العربي الآن؟ وتحت أي ظروف؟ علماً أنه ليس في العير ولا في النفير، حيث أن قواه باتت خائرة كما كانت عندما خرج من تحت نير الإستعمار التركي، وصار اليوم بلا حول ولا قوة.
مصر التي قدّمت أكبر التضحيات نيابة عن العرب، وأعطت أفواجاً وأجيالاً من الشهداء والمعاقين في حروب متوالية خاضتها عن العرب ولم تنل جزاءها فتحوّلت من أغنى دولة في المنطقة العربية إلى دولة فقيرة، بينما جيرانها يرفلون في نعيم البترول، لم تعد تلك القوة التي وقفت في وجه نابليون ولا في وجه الإنكليز، وكانت أول دولة في العالم العربي وإفريقيا تنال إستقلالها منذ 1923، وتخطو خطوات عملاقة على طريق الحضارة والقوة المعززة … مصر باتت شبحاً لنفسها.
القوى الثلاث الكبرى اليوم في المنطقة ليست بينها دولة ولا مجموعة دول عربية.
وإذا تركنا إسرائيل التي ما زالت تحلم بالدولة الكبرى الممتدة من النيل حتى يثرب، فإن المنافسة تقوم اليوم بين تركيا وإيران. الأولى الحالمة بعودة الخلافة إليها وبإمتداد يصل إلى شمال إفريقيا إنطلاقا من العراق، والثانية التي يراودها حلم العودة الساسانية قبل الإسلام و الصفوية الشيعية منذ ثلاثة أو أربعة قرون. وهما القوتان الأعظم خلال القرون الأخيرة، فيما إستكان العرب وقتها، لولا النهضة الحقيقية التي إنطلقت على يدي محمد علي في مصر في بدايات القرن التاسع عشر، وأحمد باي في تونس بعد ذلك بنصف قرن، وبين هذا وذاك كانت النخب غالباً من المسيحيين التي برزت في المشرق العربي وخصوصاً لبنان.
حَيَّدت مصر نفسها وقوّتها، ليس فقط الديموغرافية بل حتى العسكرية والإقتصادية، رغم فقرها المالي، بعد أن أصابها اليأس من العرب، الذين قدمت لهم خيرة شبابها دفاعاً عن شرف الأمة، فلم تجد منهم إلا الجحود. سوريا الحصن الحصين أصابها الأعراب في صميمها وشجعتهم القوى الدولية المتآمرة، فيما تآكلت حصونها بسبب الديكتاتورية. أما العراق القوة الأخرى المفترضة ولكن الحقيقية وحارسة البوابة الشرقية للعالم العربي فإنه لم يعد إلا شبحاً لنفسه بعد مغامرات صدام حسين.
واليوم فإن العالم العربي شرقاً وغرباً تتنازعه إنقسامات داخلية، وتتربص به قوى خارجية عاتية. وإذا كانت مصر تستمرئ اليوم عزلتها مع إحساس شديد بالمرارة بأنها لم تلقَ جزاء ما بذلته من تضحيات، فإن الأخطار مُحدقة بكل من ليبيا وتونس والجزائر التي تتهددها جحافل القادمين إليها بفكر ظلامي ينتسب للوهابية، إنتعش بمدد أميركي – غربي، ويسعى اليوم بعد هزيمة مشرقية في سوريا والعراق التمدد إلى الشمال الإفريقي. فيما يمكن القول أن العراق قد إستكمل خضوعه لإيران الشيعية الصفوية، إلّا مناطق في الشمال ينازعها الأتراك وتدعي أنقرة أن الموصل تركية تاريخياً، ومناطق أخرى أفلتت للواقع من يد الدولة المركزية العراقية، وباتت تحت إستقلال كردي فعلي لم يُعترف به دولياً بعد، وإن بلغ التعامل معه حدود الإعتراف الدولي الذي لا لبس فيه.
ما يعني أن العراق بات مُقسَّماً، وأن أطرافاً منه باتت خارجة أو ستكون خارجة عن سلطة الدولة المركزية الخاضعة بدورها لطهران.
أما سوريا فالوضع أكثر تعقيداً بفعل سنوات الحرب الخمس التي أتت على الأخضر واليابس، فحوّلت بلداً مزدهراً إقتصادياً وإن كان محكوما بالحديد والنار، إلى ركام يقتضي إعادة اعماره حقبات طوال وأموال طائلة لا يدري أحد من أين سيكون مصدرها.
وإذا كان العراق قد إستقر تحت نير الحكم الفارسي بإستقلال ظاهري، فإن سوريا تبدو مهددة بالتقسيم. فهي من جهة آيلة لحكم تركي أخذ يغمز شمالها ومناطق السنة والمسيحيين فيها، فيما ستؤول المناطق الغربية المطلة على البحر للشيعة العلويين المعتمدين على “حزب الله” الشيعي بحيث يكون الأمر فيها في يد إيران وأنصارها من الشيعة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد .
لكن تجزئة المُجزّأ لن تقف عند هذه الحدود فماذا سيكون مصير منطقة الخليج كلها والبحرين بالذات؟ وأيضاً إلى أين سترسي حرب اليمن التي لا ينبغي أن يغفل المرء على أنها حرب سنية شيعية، قطب الرحى فيها : من سيسيطر على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وكانت دوما في يد السنة، فيما يعتقد الشيعة أنها ينبغي أن تكون في يد “أهل البيت”، وهم أحق بها لأنهم من نسل النبي، والشيعة يعتبرون أنفسهم من أهل البيت.

• كاتب وصحافي تونسي، ورئيس التحرير الأسبق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى