جَوِّع كلبَك حتى يأكل كعكك

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

تجلس فوق أريكتك مُتعَباً تداعب شعر الفراغ، وتنظر ذاهلاً لكأسك وقطعة من الكعك المُحَلَّى هي آخر ما تبقّى من وجبتك الدسمة … ثم تتناول في بطء شوكتك الفضّية وسكيناً ينعكس فوقها نور الثريا التي تعلوك. تشطر الكعكة نصفين، وتُمزِّق النصفين أنصافاً كثيرة. ثم ترفع في تؤدة أنصافك، وتتباعد بين شفتيك لتضع حمولة لذيذة بين أضراسك النخرة، ثم تضع الشوكة جانباً، وتمسح شفتيك. وبعد دقيقة … وربما دقيقتين، ترفع الشوكة نحو فمك في فتور، ولا تعبأ بعينين تراقبانك في نهم وأنت تمارس طقوس مَلَلِك.
وحين لا تجد في فضاءات بطنك مُتَّسعاً للمزيد، ترفع الطبق ونصف الكعكة فوق رأسك لتضعها في دولابٍ نصف مفتوح. وتوارب جفنيك قليلًا فلا ترى إلا يسيراً من الموجودات حولك. لكنك تنتبه فجأة إلى مواء قطة قفزت فوق كرسي مقابل، لتصعد في حركة بهلوانية فوق الطاولة، ومنها إلى خزانة الطعام نصف المفتوحة. وقبل أن تتمكن من فتح عينيك على مصاريعها، تمدّ القطة فمها لتلتهم ما نجا منك. وفي تلك اللحظة، ينقض عليها غراب طويل، لم تنتبه لسواد أرياشه فينتزع من بين مخالبها قطعة الكعك، لتدور بينهما معركة يختلط فيها المواء والعقعقة.
تنتبه من فتورك، وتقرّر التدخل للحسم … فتحرك يدك يمنة ويسرة، فتطرد المتصارعين حول وليمة ليست لهما، وتمسك الطبق بكلتا يديك، ثم تضعه في حزم أمام كلبك الوفي الذي لم يبارح مجلسه بين ركبتيك، ولم يرفع قائمة لينتزع قطعة الكعك من طبقك أو من فم المتخاصمين بين يديك رغم قدرته ومسغبته. كنت تسمع قرقرة بطنه، وترى سيل لعابه يتدفق بين قدميك، لكنك كنت تتجاهل حاجته وصبره. والآن، لا تجد خيراً منه يصلح لحراسة ما إشتهى وإشتهيت. تضع الطبق في بطء بين قدميه، وتغمض عينيك في إنتظار إغفاءة تشتهيها. وبعد ساعة أو ساعتين، تفتح عينيك وتتثاءب كالعادة، وتنظر بين قدميك، فتجد الصحن فارغاً، والكلب في سبات. فتهزّه بشدة وتشدّه من ذيله، وتركله بأقصى ما تستطيع من حنق، فينبح الكلب قليلاً، ثم يعود للنوم.
كان الكلب وفياً بقدر عجزه، لكنك لم تلمح ذلك بين عينيه. ولم يمدّ قوائمه لينازعك طعاماً تشتهيه، لأنه يعلم كما تعلم أنت عقوبة من يتجرّأ عليك. ولم يقفز الكلب فوق مائدتك لأنه لا يستطيع الوصول إلى خزانتك العالية، ولأن جسده أثقل من أحلامه، ولأن عصاتك الغليظة أقرب إليه من حبل الوريد. لهذا، إكتفى بالصمت والقرقرة. كنت تظن صمته عجزاً وسكونه أمانة، لهذا تجاوزت في ظلمه والإستخفاف بمخالبه وأضراسه.
كيف يستطيع كلب أن يتحمّل قرصة الجوع في حين يراك لا تتحمل تخمة الشبع؟ وكيف يصبر على قرقرة لا تهدأ، وهو يرى من لم يحرث أو يحرس شريكاً في وليمة صنعها على عينيه؟ جوّعت كلبك أيها السمين الشره كي يتبع ظلك، ويجلس طوال حفل الشواء بين قدميك، من دون أن تمد يدك المغلولة إلى فيك بعظمة أو فك، ونمت مطمئناً إلى حكايات العجائز عن وفاء المضطر وولاء المعوز. واليوم يصدمك فراغ الأطباق وفراغ الكون حولك من المخلصين. جوِّع كلبك أو لا تُجوِّعه، فلن يتبعك حتى يرى خيطاً غير هلامي يربط مصيرك بمصيره، ويضمن له حق البقاء.

• أديب وكاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى