“غادسر” .. الأرض مقابل الوَلاء

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

حرٌّ أنت أيها العربي في لون خوذتك وإتجاه السلاح، وحرٌّ أنت في زيِّك العسكري ولون العلم، لكنك لن تستطيع أن تلوِّن التاريخ بدمك الأصفر البارد لتطمس آخر ما تبقى من آثار وعي. يوماً، خرج الطغاة على الحسين بالسلاح وإدّعوا أن قلوبهم تخفق بحبه، فليتهم وضعوا السلاح وكرهوه. ماذا تفعل الراقصة بخصرها عند الحدود الباردة؟ وكيف يواري عربي سوأته في زيٍّ عسكري إسرائيلي وإن توارى خلف كل حجاب؟ أسئلة لم يعد التاريخ قادراً على إستيعابها، ولم تعد الذاكرة العربية الرخوة تجد لها إجابات غير إنتهازية وغير محايدة.
عند مفترق الطرق، وبين المدن المحتلة في الضفة، لم يعد مُستَهجَناً أن يشهر عربي بندقية عبرية في وجهك العتيق، ليطالبك بإثبات هوية لم يعد يعترف بها. وحين تنظر في عينيه من علٍ، يباغتك بكعب بندقية فظّ ليخرجك من كتب التاريخ إلى جغرافيا فظّة لا تحترم مقدّساً وإن كانت تُقسم عليه. “غادسر” كتيبة عربية بإمتياز، قوامها خمسمئة جندي يحملون تاريخ حزنك وتباريح هزيمتك، لكنهم لا يديرون ظهورهم نحوك وهم يطلقون الرصاص، فأنت أيها الحسين الأخير هدف مُحتمَل لإصاباتهم التي لا تُخطئ فلسطينياً عند كل حدود. فإن قاومتَ قبضاتهم الغليظة وهم يديرون وجهك نحو سيارتك المتهالكة ويعبثون بجيوبك وأشيائك بحثاً عن آثار مقاومة، ستسمع منهم بلسان عربي مبين أبشع السباب، وترى منهم ما لا عين رأت ولا خطر على قلب مواطن.
عند حدود غائمة، إختلطت عندها الحقيقة بالفنتازيا، يقف محمود متأبطاً سلاحه، ليخطب بملء شدقيه: “أعتبر نفسي فلسطينياً ومُسلماً، لكنني أيضاً جزء من هذا البلد، ومن واجبي أن أرد الجميل لمن يقومون بحمايتي”.
لم يقل محمود تحديداً من أي خطر يحميه الإسرائيليون أو ممن يحمونه، لكن الذين رأوا آثار النعمة بادية عليه وعلى والديه من أبناء القرية يعلمون يقيناً أنه قبض ثمن دماء الحسين قبل أن يقطف رأسه.
في أقل من ثلاث سنوات بائسة، تضاعف عدد المتطوعين العرب في جيش الإحتلال عشر مرات، وهذا العدد مرشح للزيادة في السنوات المقبلة بفضل الفقر والجوع اللذين يعانيهما الفلسطينيون الشرفاء، والوجاهة والسؤدد التي يرفل فيها الذين غيّروا لون العلم وبوصلة البندقية. “مهمتنا تجنيد أكبر عدد ممكن من العرب،” يقول العقيد وجدي سرحان رئيس وحدة الأقليات في جيش الدفاع الإسرائيلي، ويضيف: “لدينا بضع مئات منهم، لكننا نطمح أن يتضاعف هذا العدد بحلول العام المقبل”.
في الضفة المحتلة، لم تعد الأرض مقابلاً تفاوضياً للسلام، لكنها حق لكل عربي أدّى الخدمة العسكرية في جيش الإحتلال. لا تثريب على محمود إن إحتفل وذووه بمناسبة إرتدائه زيه “الوطني” الجديد، فقد سبقه عشرة متطوعين من القرية عينها إلى خطوط التماس، لهذا لم يعد الشاب يشعر بالحرج وهو ينظر في عيون مواطنيه البؤساء، كما لم يعد يحفل بصيحات الرفاق التي تطارده حيثما ذهب، “رآني بعض الشباب في زيي العسكري، ووصفوني بالخائن، فقلت لهم أن هذا شأني وأنني لا آبه لقولهم”.
“العرب الذين يلتحقون بالجيش الإسرائيلي يحصلون على مكانة متميّزة ويتمتعون بالعيش الرغيد”، يقول سرحان، “فالجيش يدعمهم، ويمهّد لهم سبل الحياة (الكريمة). ونحن من جهتنا نسعى جاهدين إلى ضم الأقليات لإعادة التوازن الديموغرافي إلى الدولة العبرية”. السبيل إذن أمام من سُدَّت في وجهه سبل المواطنة الشريفة أن يأكل بثدييه وأن يرفع في وجه التعساء الذين تتجاوز نسبتهم أربعة وخمسين في المئة من سكان الضفة رأس حربته وحذاءه.
الدمج هو الحلّ إذن لا المفاوضات، وصَهر الهوية فوق نيران الفقر والحاجة حلّ هو الأخير في معادلة تتقلص فيها الخيارات كل صباح. فلتقسم أيها الفلسطيني التعس على حماية الغزاة بالروح والدم. ضع يدك المغلولة إلى سلاحك فوق مصحف لا تفقه حرفاً فيه، وأقسم يمين الولاء لمن إغتصب أرضك وهويتك ذات تاريخ. أو إقبض على جمر هويتك ولا تنتظر دعماً من أحد، فإخوة الأمس كلهم يصوِّبون اليوم نحوك فوهات مدافع لا تتورّع عن القصف.

• أديب وكاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى