صعود الخليج العربي الجديد: الطفرة الإقتصادية التالية

على الرغم من إنخفاض أسعار النفط والغاز الذي أدى إلى عجز في موازنات دول مجلس التعاون الخليجي فهناك طفرة تالية آتية إذا إستطاع قادة هذه الدول تحويل منطقتهم إلى محور دولي رئيسي كما يشرح التقرير التالي:

قادة مجلس التعاون الخليجي: تحويل دول مجلسهم إلى محور رئيسي عالمي هل يتحقق؟
قادة مجلس التعاون الخليجي: تحويل دول مجلسهم إلى محور رئيسي عالمي هل يتحقق؟

الدوحة – روري ميلر*

مُتحدِّثاً في برنامج تلفزيوني مباشر خلال زيارة قام بها إلى القاهرة في وقت سابق من هذا العام، أعلن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز عن خطط لبناء جسر بين مملكته وشرم الشيخ، على طرف شبه جزيرة سيناء المصرية. هذا المشروع المعماري والهندسي الطموح، الذي سيُطلَق عليه إسم جسر الملك سلمان، يمثّل “خطوة تاريخية لربط أفريقيا وآسيا”، كما أوضح الملك الزائر. ولم يذكر تفاصيل، لكنه لو فعل لكان يمكنه ان يقول أن هذا المشروع هو واحد من المظاهرات الأكثر أهمية في سعي مجلس التعاون الخليجي إلى تحويل المنطقة إلى محور بين الشرق والغرب في القرن الحادي والعشرين.
خارج المنطقة، لم يتلقّ هذا المسعى كثيراً من الإهتمام أكثر من إعتباره من جملة المحاولات الجارية للتنويع الإقتصادي والتحرك بعيداً من النفط، على الرغم من أن تحويل المنطقة لكي تكون محوراً منافساً عالمياً يمثّل مكوّناً أساسياً لطموحات القادة الخليجيين. وهو أيضاً السائق لكثير من النجاحات التي حققها الخليج العربي في الآونة الأخيرة في قطاعي السفر والخدمات اللوجستية، والتي دفعت إلى التواصل العالمي. بل إنه قد يكون المفتاح لتحديد ما إذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي تستطيع الإستمرار في توطيد وتوسيع إستقرارها في الداخل ونفوذها في الخارج، كما فعلت بنجاح على مدى العقود الأربعة الماضية.
هناك عاملان أثارا وأنعشا الطموح لكي تصبح المنطقة الخليجية محوراً عالمياً و”طريق الحرير” الجديد وفقاً لإحتياجات القرن الحادي والعشرين. الأول هو الجغرافيا. يعيش ثلث سكان العالم على الأقل ضمن رحلة أربع ساعات طيران من منطقة الخليج، والنصف الآخر من سكان العالم، البالغ عددهم سبعة مليارات، ضمن رحلة تستغرق ثماني ساعات.
والعامل الثاني يتمثّل بعائدات النفط غير المسبوقة التي تدفّقت إلى خزائن الدول الخليجية بين عامي 2003 و2008. وقَدّرت دراسة ل”مجلس العلاقات الخارجية” (الأميركي) أنه في العام 2008، فيما كان الكثير من دول العالم يهرع نحو أزمة إقتصادية، فإن منتجي النفط في الخليج العربي كانوا يجمعون في جيوبهم ما مجموعه 300 مليار دولار من عائدات النفط. وكانت تقديرات من مصادر أخرى أعلى من ذلك، حيث وضعت عائداتها النفطية في العام عينه بمبلغ مذهل قدره 575 مليار دولار، والتي كانت تزيد 400 مليار دولار على عائدات العام 2003. وقد سمحت هذه الثروة لدول الخليج تسريع وتوسيع برامج تطوير البنية التحتية المحلية الضخمة أصلاً، والإستثمار في الأسواق المتقدمة والناشئة في جميع أنحاء العالم.
لقد ساهمت الإستثمارات في ترويج سمعة المنطقة كمحور عالمي، وهو شيء كان القادة الطموحون سريعين للإستفادة منه من طريق عملية تسويق باهظة، وإعلانات، وحملات رعائية. إضافة إلى هذا المزيج كانت هناك أحداث رياضية دولية كبرى وفتح العشرات من المتاحف العالمية وصالات العرض – فرعان لمتحفي اللوفر وغوغنهايم من المقرر إفتتاحهما قريباً في أبو ظبي – كما أن هناك إهتماماً غير مسبوق بالمنطقة كلاعب عالمي رئيسي.

التحليق عالياً

السفر عبر الحدود هو واحد من أسرع القطاعات نمواً في الإقتصاد الدولي. في العام 2012، تجاوز عدد المسافرين في العالم المليار للمرة الأولى. ولأنها تضم أقدس المزارات الإسلامية، لا تزال الأولوية في المملكة العربية السعودية تكمن في تلبية إحتياجات ملايين الزوار الذين يتوافدون في موسم الحج. وقد إستخدمت جميع دول الخليج الأخرى مواقعها ومواردها المالية الضخمة لإلتقاط وجذب أكبر قدر من سوق السفر التي تتوسع. وقد إعتمدت قطر والإمارات العربية المتحدة على شركات طيران وطنية لقيادة المسار.
ناقلة دبي الرئيسية، طيران الإمارات، تم تأسيسها في منتصف ثمانينات القرن الفائت على وجه التحديد لتسريع عملية تحويل وإنتقال مطار دبي الدولي من إقليمي إلى لاعب سفر دولي. منذ ذلك الحين، إستهدفت شركة الطيران الأسواق في آسيا وأفريقيا، وحتى أميركا اللاتينية، التي كانت تعاني من خدمات سيئة من قبل شركات النقل الدولية الأخرى التي كانت تركّز على طرق جوية أسهل وأكثر رسوخاً وربحاً. وقد كانت نتيجة هذه المقاربة الطموحة لربط العالم عبر دبي بإتجاه آخر مثمرة. بين عامي 2000 و2015، لقد مثّلت دبي، جنباً إلى جنب مع تركيا والصين، ما يقرب من 30 في المئة من نمو السفر الجوي في الأسواق الناشئة. وفي إستطلاع للرأي العام في وقت سابق من هذا العام، تم التصويت على أن “الإمارات” هي شركة الطيران الأولى في العالم. كما أنها تُعتبَر واحدة من أكبر شركات الطيران في العالم عندما تُقاس بمؤشرات أخرى أكثر علمية – الإيرادات، وأميال سفر الركاب، وعدد المسافرين الدوليين المسافرين على متنها، وحجم الأسطول. ويرتبط صعود شركة طيران الإمارات بوضوح بصعود دبي. في دراسة إستقصائية أجرتها في العام الفائت شركة “ماستركارد” وضعت المدينة في المرتبة الرابعة، وراء لندن وبانكوك وباريس، من بين 132 مدينة في العالم الأكثر زيارة من حيث الزوار الدوليين الوافدين بين عشية وضحاها (14.26 مليوناً) والإنفاق عبر الحدود (11.68 مليار دولار).
“الإتحاد للطيران” في أبوظبي والخطوط الجوية القطرية هما أصغر عمراً وحجماً من “طيران الإمارات”، لكنهما ليستا أقل طموحاً. لقد شرعت كلّ منهما بإستراتيجية نمو عالمية والتي ليست مُصمَّمة ببساطة فقط لزيادة أعداد المسافرين والإيرادات بقدر إرتباطها بشكل واضح برؤاهما لأبو ظبي والدوحة كأفضل محورين للسفر والعبور (الترانزيت). ولتحقيق ذلك، فإن الخطوط الجوية القطرية، التي قد حصلت على المرتبة الأولى كأفضل شركة في العالم في العام 2015 والثانية هذا العام، قد أضافت بقوة طرقاً جوية دولية جديدة على أساس شهري تقريباً. وهي تقدم الآن رحلات مباشرة من الدوحة إلى أكبر 10 مناطق حضرية في الولايات المتحدة. وخلال العام المقبل، تخطط الشركة إضافة 17 خطاً جديداً إلى خمس قارات. وفي الوقت عينه، إشترت ا”لإتحاد للطيران” حصصاً في شركات طيران خارجية، ودخلت في تحالفات مع شركاء إستراتيجيين في جميع أنحاء العالم. وبفضل شراكتها مع “جت إيرويز”، فإن “الإتحاد للطيران” هي الآن أسرع شركات الطيران نمواً في الهند، مما يجعل أبو ظبي رابطاً حيوياً بين السوق الهندية الواسعة وبقية العالم.
بأخذها معاً، فإن السياسات المُبتَكَرة والطَموحة لهذه الشركات قد غيَّرت الطريقة التي يفكر فيها العالم بالسفر الدولي – وبالخليج. في الوقت الراهن على الأقل، وبعيداً من الرحلات الجوية التجارية، فإن دبي هي المكان الوحيد العالمي حقاً في منطقة الخليج. وفقاً لدراسة حديثة أجرتها شركة الإستشارات “ماكينزي”، فإن دبي هي واحدة من أكبر ستة محاور دولية في العالم من حيث السلع والخدمات والأموال والأشخاص والبيانات والإتصالات. والمدن الأخرى هي لندن وسنغافورة وهونغ كونغ ونيويورك وطوكيو. في العام 1980، لم يكن ميناء جبل علي في دبي حتى بين أكبر 25 ميناء للحاويات في العالم. الآن هو واحد من أكثر الموانىء إزدحاماً من أي مكان. كما تحتل دبي المركز السادس عالمياً من حيث حجم حركة الشحن الجوي. وليست هناك أي علامة على التباطؤ في هذا القطاع الحيوي. عند إكتماله،، فإن “دبي وورلد سنترال” (Dubai World Central)، وهو قاعدة لوجستية بالقرب من المطار الجديد، سوف يكون مرتين أكبر من جزيرة هونغ كونغ.
إن موقع دبي الرائد لم يردع دول الخليج الأخرى عن السعي إلى الإستفادة القصوى من ميزتها ومواردها الجغرافية. من جهتها تركّز العاصمة القطرية الدوحة على بناء وضع قوي فعلي في مجال التمويل والإتصالات. وقد إلتزمت الكويت بإنفاق المليارات على مدينة الحرير، وهي منطقة إقتصادية واسعة النطاق في شمال البلاد، التي تهدف إلى أن تكون بمثابة منطقة تجارة حرة تربط بين آسيا وأوروبا.
تطلعات مماثلة تقود مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، التي تقع على ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية. منذ بدايتها في العام 2010، فقد قُدِّمت على أنها دولية بدلاً من مدينة سعودية. وعندما يتم الإنتهاء منها في العام 2030 (بتكلفة تقدر ب100 مليار دولار)، فسوف تسعى لكي تكون بمثابة مركز لوجستي وصناعي عالمي ونقطة بحرية رئيسية بين الشرق والغرب لإعادة الشحن التي تربط آسيا بأوروبا والبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس. إن مدينة جدة، التي تُعتبَر حالياً أكبر ميناء في المملكة، لديها خطط طموحة لتوسيع قدرتها لمجاراة ميناء جبل علي في دبي.
وفي الوقت عينه، فإن سلطنة عُمان، التي ركّزت طويلاً على خطط التنويع في مجالات الترف والنشاطات السياحية، والتجارة، والنقل البحري، فقد قامت ببناء ميناء عملاق للحاويات ومنطقة للتجارة الحرة في صلالة. وهي تعتبر واحدة من أسرع المناطق نمواً في غرب آسيا ومُنافِسة متزايدة الأهمية في المحيط الهندي لإعادة الشحن التجاري.

مستقبل النفط

النفط هو سلعة لا يمكن التنبؤ بها حيث تخضع لتقلبات شديدة في الأسعار خلال فترات قصيرة نسبياً. حالياً، إن إنخفاض أسعاره بسبب إستغلال المصادر غير التقليدية من النفط والغاز، بما في ذلك الصخر الزيتي، والمنافسة من منتجين آخرين للنفط والغاز، مثل الولايات المتحدة وأوستراليا، تسبب في إنكماشٍ في العائدات النفطية في منطقة الخليج. وقد جادل البعض بأن إنخفاض الإيرادات سيؤدي إلى إنهيار إقتصادي في المملكة العربية السعودية ودول الخليج المجاورة. ولكن منذ سبعينات القرن الفائت، فقد أظهرت دول مجلس التعاون الخليجي مرونة كبيرة وقدرة على التكيّف. لقد صمدت في وجه حرب إقليمية وغزو، وإنخفاض أسعار النفط، والركود الإقتصادي، والطفرات السكانية، والعلل الإجتماعية التي تأتي مع التحديث السريع وغير المتكافئ.
ولا ينبغي أن ننسى أنه على الرغم من الإضطرابات الأخيرة في أسواق الطاقة، فإن المملكة العربية السعودية لا تزال أهم قوة نفطية في العالم، وقطر لا تزال المُصدِّرة الأولى للغاز الطبيعي في العالم. وعلاوة على ذلك، لا تزال منطقة الخليج ككل موطناً لأكثر من نصف إحتياطات النفط العالمية، وأكثر من ثلث إحتياجات العالم من الغاز الطبيعي. وهذا وحده يضمن بأن دول مجلس التعاون ستبقى لاعباً عالمياً مهماً ومن أغنى الدول في أي مكان. لقد صنّف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالة الإستخبارات المركزية الأميركية قطر في المرتبة 2 أو 3 الأعلى في العالم من حيث نصيب الفرد من الدخل. وكانت الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة في المراتب العشرة الأولى، والبحرين والمملكة العربية السعودية في المراتب ال15 الأولى، فيما إحتلت عُمان المرتبة 25 في العالم.
وأبعد من القدرة الشرائية والجغرافيا، يمكن لدول الخليج أن تشير إلى العديد من العوامل الأخرى التي يمكن أن تساعدها على تحويل خططها لكي تصبح محوراً عالمياً. الأول هو الطموح الذي لا مثيل له لدى الزعماء المحليين. وقد تجلى ذلك أخيراً في الخطة السعودية، التي طرحها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لإنهاء إعتماد المملكة على النفط ورفع الإيرادات غير النفطية بنسبة أكثر من 500٪ في غضون عشر سنين. أمثلة أخرى كثيرة. حاكم دبي الريادي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تبنّى إستراتيجية عولمة لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم. وتهدف إلى جعل الإمارة مكاناً لأطول ناطحة سحاب في العالم (وهناك واحدة أخرى حتى أطول قيد التنفيذ) جنباً إلى جنب مع أكبر “المولات” (مراكز التسوق) في العالم، وحدائق داخلية، ومنتجعات سياحية. ثم هناك نجاح أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في تحويل إمارته الصغيرة إلى دولة مصدرة للغاز رقم واحد في العالم وأول دولة في بيع الغاز إلى أوروبا، وآسيا، وأميركا الشمالية في الوقت عينه، وذلك في أقل من عقد من الزمان، وهو شيء حققه قبل الموعد المحدد. هذا هو المحرّك، بقدر ما هي الثروة النفطية وربما حتى الجغرافيا، الذي وفّر الدافع الرئيسي لدفع المنطقة لكي تصبح مركزاً عالمياً رائداً.
يُمكن لدول الخليج أن تدّعي أيضاً تاريخاً طويلاً من المشاركة مع العالم الخارجي. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت المنطقة تعجّ بالفرس والهنود والأوروبيين والأفارقة، الذين أتوا لشراء وبيع السلع وأخذ عيّنات من العادات والثقافة المحلية. في الآونة الأخيرة، كانت دول الخليج من الأعضاءالحيوية لنظام الطاقة العالمي. وجاءت غالبية تقنياتها (مصدرٌ مهم جداً للنمو الإقتصادي) جنباً إلى جنب مع الخبرات المهنية، والعمالة غير الماهرة، والمواد الغذائية من الخارج. إن الإعتماد المُفرط على العمال الأجانب – الذين يشكلون في المتوسط بين 80 و90 في المئة من القوى العاملة المحلية في بعض الاماكن — غير مُستدام إقتصادياً، وقد أثار قضايا مهمة في مجال حقوق الإنسان، وقلّل من فرص التنمية المحلية. لكنه حوّل أيضاً المنطقة إلى شبكة أعمال متعددة الثقافات نابضة بحياة لا تُضاهى. يتكوّن سكان دبي البالغ عددهم أكثر من 2.5 مليوني نسمة من أكثر من 200 دولة. ويشكّل سبعة ملايين هندي الذين يعيشون ويعملون في الخليج أيضاً أحد الأسباب المهمة في المنطقة الذي جعلها لاعباً رئيسياً في جميع قطاعات الإقتصاد الهندي الناشئ. منذ بداية العقد الفائت كانت دول الخليج أيضاً من بين أكثر الإقتصادات إنفتاحاً من أي مكان في العالم المتقدم أو العالم النامي، وفقاً للصادرات والواردات كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
إن دول الخليج هي أيضاً مؤيدة بحماس للنظام التجاري المتعدد الأطراف. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، عُقد أهم مؤتمر حول التجارة الحرة الدولية منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية في منتصف تسعينات القرن الفائت في الدوحة. وقد عُرِفت السنوات العديدة من المفاوضات التي تلت بإسم جولة الدوحة، وعلى الرغم من أن المحادثات قد عُلِّقت في العام 2008، فإنها كانت بمثابة تذكير ثابت بإلتزام قطر (والمنطقة على نطاق أوسع) بالنظام التجاري الدولي الليبرالي. وقد أُكِّدت هذه النقطة في العام 2005 عندما أصبحت المملكة العربية السعودية آخر دولة خليجية تنضم إلى منظمة التجارة العالمية، بعد 12 سنة على طلبها الحصول على العضوية.
مع ذلك فإن شبه الإنهيار الذي هدّد دبي خلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة برهن على مدى ترابط الخليج العربي بما يحدث في العالم، وبالتالي تعرضه للخطر بسبب الأزمات التي تؤثر في أسواق الأسهم والأوراق المالية العالمية الرئيسية، والتكتلات التجارية، والمُقرضين. وفي الوقت عينه، سمح الإنهيار المالي العالمي أيضاً لدول الخليج الإستفادة من الإحتياطات النقدية الضخمة التي راكمتها في السنوات الست السابقة بسبب إرتفاع أسعار النفط – المُقدرة بأكثر من 1 تريليون دولار — لتعزيز مواقعها كلاعبة حاسمة في قلب النظام المالي الدولي وكأحد كبار المستثمرين العالميين في الخارج.
بإستثناء عُمان، فقد وضعت دول الخليج العربية أنفسها أيضاً في الطليعة في قطاع الصيرفة والتمويل الإسلامي المُتنامي بشكل سريع. إن العاصمة البحرينية المنامة هي موطن “السوق المالية الإسلامية الدولية”، وهي منظمة تروّج معايير التجارة المشتركة في صناعة التمويل الإسلامي. في العام 2013، أطلقت دبي أول قمة من نوعها للإقتصاد الإسلامي العالمي. تحت رعاية شخصية من حاكم الإمارة، كان الهدف من القمة منذ إنطلاقها تعريف العالم على إمكانات النظام البيئي الإسلامي العالمي مع دبي عاصمته. هذا المشروع يسير بخطى حثيثة على مجموعة متنوعة من الجبهات. في وقت سابق من الشهر الفائت (تشرين الأول (أكتوبر))، أعلنت حكومة الإمارات عن خطط لإطلاق أول بنك في دبي للتجارة الدولية المتوافق مع الشريعة الإسلامية وسيكون متخصصاً في التجارة الدولية وتمويل السلع الأساسية.
وقد سرّع كل هذا في إندماج المنطقة في الإقتصاد العالمي. عندما تُقاس كسوق واحدة بدلاً من ستٍ مُنفصلة فإن دول مجلس التعاون الخليجي هي تاسع أكبر إقتصاد في العالم، تشبه في الحجم كندا وروسيا وليس بعيداً من حجم الهند. إذا كان يمكنها الإستمرار في النمو بمعدل سنوي يبلغ حوالي 3 في المئة على مدى السنوات ال 15 المقبلة، وهو إنجاز يمكن تحقيقه في ظل الظروف الصحيحة، فإن الخليج العربي سوف يستطيع تحدي اليابان على بقعة في أعلى خمسة إقتصادات في العالم بحلول العام 2030.
وفقاً لمؤشر الترابط العالمي الأخير فإن دول الخليج العربية الست هي أيضاً من بين أهم 45 دولة في سهولة الإتصال في العالم. من جهتها تفتخر المملكة العربية السعودية وحدها بوجود حوالي 20 مليون مستخدم للإنترنت، أي أكثر من ثلثي مجموع السكان وإرتفاعاً من أقل من 500,000 في العام 2000. وتضم المملكة أيضاً عدداً ضخماً من مستخدمي الفيسبوك وأكثر من جميع الدول العربية الأخرى بإستثناء مصر، التي يبلغ عدد سكانها أكبر من ثلاث مرات تقريباً. وتتمتع المملكة أيضاً بأكبر عدد من المشاهدات على موقع “يوتيوب” (YouTube) في العالم قياساً لكل مستخدم إنترنت جنباً إلى جنب مع أعلى نسبة من مستخدمي تويتر في العالم. إضافة إلى السعودية، هناك دولة الإمارات العربية المتحدة أيضاً التي لديها هواتف ذكية بالنسبة إلى الفرد الواحد أكثر من أي بلد آخر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتمتع بأعلى نسبة إختراق في العالم في النطاق العريض (برودباند) من الألياف. وتحتل دولة الإمارات بالمرتبة الثالثة في العالم من حيث عدد أجهزة الإتصال التي يملكها المواطنون.
مما لا شك فيه أن التقدم المثير للإعجاب للمنطقة في جميع هذه المجالات قد زاد من المكانة والهيبة الدوليتين للدول المحلية. وهو أيضاً السبب المتزايد الأهمية، إلى جانب الموقع الاستراتيجي للمنطقة، بأن كافة القوى العظمى ترى في هذه الدول شريكة مهمة للمستقبل على الرغم من التغيرات العميقة في أسواق الطاقة التي يتنبأ بها الكثيرون. إن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تُولي أهمية كبيرة لدور دول الخليج منذ بداية الأزمة المالية العالمية في إستخدام “مخزون السيولة لديها”، كما وصفه وزير الخزانة الأميركي السابق جون سنو، لتحقيق الاستقرار في العديد من الاقتصادات في جميع أنحاء العالم النامي حيث لدول الخليج مصالح تجارية واسعة.
وفي الوقت نفسه، فإن النجاح المستقبلي لدول الخليج العربية في بناء المنطقة وتحويلها إلى محور عالمي يعتمد على قدرتها على السباحة والتنقل عبر الإضطرابات في العراق وسوريا واليمن إلى جانب الخطر الذي تشكّله إيران ووكلاؤها الشيعة والجماعات السنية الفاعلة غير الحكومية مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). إن الأحداث الأخيرة في اليمن هي مفيدة. في الأيام الأولى من تشرين الأول (أكتوبر)، أُصيبت سفينة إماراتية قديمة تملكها شركة الجرافات البحرية الوطنية في دولة الإمارات بأضرار جسيمة من جراء صاروخ مضاد للسفن في مضيق باب المندب الذي يشكل نقطة إستراتيجية بين القرن الأفريقي والشرق الأوسط. وإدّعى المقاتلون الحوثيون المرتبطون بجماعة أنصار الله في اليمن مسؤوليتهم على الفور.
إن دولة الإمارات هي الشريك الأكبر في الإئتلاف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في الحرب التي إندلعت منذ آذار (مارس) 2015، وكانت سفينتها في طريقها إلى ميناء عدن لتقديم المساعدات وإلتقاط ضحايا من القتال. وخلال الأسبوع التالي، أُطلق المزيد من الصواريخ التي وصلت إلى داخل الأراضي السعودية وبالقرب من سفينة حربية أميركية قبالة ساحل البلاد. واشنطن، التي دعمت التحالف الذي تقوده السعودية في الحرب وقدمت لها الدعم اللوجستي والإستخبارات والغطاء الديبلوماسي، قامت بالرد على أهداف في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين داخل اليمن.
الهجمات الصاروخية العشوائية على الأراضي السعودية لا تشكّل في حد ذاتها تهديداً كبيراً للمملكة السعودية الشاسعة، التي هي أربعة أضعاف أكبر من مساحة فرنسا. ولا الهجمات المتفرّقة على النقل البحري الدولي في الممرات المائية في الخليج تمثّل تصعيداً عسكرياً كبيراً في الصراع أو تهديداً للإقتصاد العالمي. خلال الحرب بين إيران والعراق في ثمانينات القرن الفائت هوجمت مئات من ناقلات النفط بصواريخ من دون أي أثر سلبي سواء على جانب العرض أو تكلفة النفط في الأسواق العالمية. ومع ذلك، إذا أصبحت هذه الهجمات أكثر شيوعاً، أو ما هو أسوأ من ذلك، شائعةً، أو إذا خرجت الأزمة في اليمن عن نطاق السيطرة، وتوسّعت بسرعة، وشملت أطرافاً آخرين في القتال، عندها يمكنها أن تبدأ إلقاء ظلالها على صورة الخليج العربي كواحة مستقرة في منطقة مضطربة لكنها حيوية. وهذا يمكن أن يشكل ضربة كبيرة لخطط زعماء دول الخليج لتحويل المنطقة إلى محور عالمي.
وقد فضّلت دول الخليج دائماً أن تفكّر بالأمن من الناحية الوطنية بدلاً من الناحية الإقليمية، والخوف من فقدانها للسيادة، جعلها متردّدة في التعاون في مجال الأمن والدفاع. لذا من الممكن أن يعمل تنامي المخاوف بشأن التهديدات لرؤيتهم المشتركة التي يمثّلها اليمن على تحفيز القادة المحليين لتحسين التعاون الأمني لحماية البنية التحتية الضرورية، ومحاور النقل والعبور الحيوية، والممرات المائية الإستراتيجية.
فيما تعمل القوى الخارجية على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بأكملها، فإن التحديات الإجتماعية والإقتصادية المحلية بدلاً من التهديدات الأمنية الخارجية هي التي تمثّل أكبر خطر على الخليج العربي. ومن الممكن، في ظل المناخ الحالي، أن يؤدي الإنشغال في الإصلاح الداخلي إلى تهميش الخطط لتطوير المنطقة وتحويلها إلى محور عالمي. ومع ذلك، فإن هذه الخطط يمكنها أن تقدّم مساهمة مهمة في المحاولات الجارية لإصلاح الإنفاق الحكومي، ونظام المحسوبية، والقطاع العام المتضخّم في جميع أنحاء المنطقة. كما أنها يمكنها أن تساهم في خلق قطاع خاص أكثر إنتاجية وفي التمكين الصوتي على نحو متزايد للشباب والشابات من خلال توفير فرص إقتصادية أكبر وحصة في المستقبل.
منذ سبعينات القرن الفائت، كانت دول الخليج العربي مُصدّرة صافية لرأس المال، فيما تدفقت كميات هائلة من المال إلى خارج المنطقة. إن تقلص عائدات النفط وبرامج التنويع المُكلفة الآن يجعلان من الضروري بشكل متزايد أن تعمل الدول المحلية على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة أكثر مما كان الوضع في الماضي. ليست هناك طريقة أفضل للقيام بذلك من الإستمرار في تطوير المنطقة لتصبح محوراً ديناميكياً للسفر والتجارة والسياحة والإتصالات. في الواقع، إن التحديات الإجتماعية والإقتصادية الصعبة التي تواجهها دول الخليج العربية الآن محلياً قد حوّلت ما كان سابقاً طموحاً إلى ضرورة. ليس لديها الآن خيار سوى مواصلة سعيها إلى تحويل المنطقة إلى محور عالمي. هل ستنجح في مسعاها؟ لا يبدو الأمر واضحاً بعد. إن الأحلام لا تصبح دائماً واقعاً، ولا حتى في الخليج العربي.

• روري ميلر هو أستاذ الدراسات الحكومية في جامعة جورج تاون في قطر. صدر له كتاب جديد عنوانه “من ممالك في الصحراء إلى قوى عالمية: صعود الخليج العربي”، والذي نشرته منشورات جامعة “ييل”.
• كُتِب هذا المقال بالإنكليزية، ونشر أولاً في “فورين أفيرز”، وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى