الطريق الإقتصادي الذي قد يُغيِّر المملكة العربية السعودية إلى الأبد

تتهيأ المملكة العربية السعودية للسير في مسارها الإقتصادي الجديد الذي شكّلته “رؤية 2030” مع برنامج التحوًل الوطني اللذين أُطلقا في وقت سابق من هذا العام. ولكن يرى الخبراء أن هذا المسار قد يقود إلى مملكةٍ سعودية حديثة ومُندَمِجة أكثر في المجتمع الدولي أو إلى إضطرابات لا يُحمد عقباها.

الأمير محمد بن سلمان: هل تُنقذ "رؤيته" السعودية أم تؤدي إلى إضطرابات؟
الأمير محمد بن سلمان: هل تُنقذ “رؤيته” السعودية أم تؤدي إلى إضطرابات؟

الرياض – راغب الشيباني

شرعت المملكة العربية السعودية بالسير على طريق تحوّل جذري. كان الحافز المباشر له إنهيار أسعار النفط لفترة طويلة والعجز في الموازنة الناجم من ذلك (تشير التقديرات إلى أنه سيقترب من 87 مليار دولار للعام 2016، أو حوالي 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي). وفي الوقت عينه، يلوح في الأفق الخلفي إنتفاخ ديموغرافي هائل الذي سيحمل نحو ستة ملايين سعودي إضافي إلى سوق العمل خلال السنوات ال15 المقبلة، مُضاعِفاً تقريباً عدد السعوديين في سوق العمل. في الواقع، إن التركيبة السكانية، وليست أسعار النفط، يجب أن يُفهم على أنها السائق الكامن وراء مبادرة المملكة للتغيير. إن النمو السكاني وصل إلى مستوى من من الضخامة حيث حتى لو عادت أسعار النفط إلى الإرتفاع، فإن النموذج الإقتصادي الحالي (حيث أن 80٪ من الدخل الوطني للأسرة يأتي مباشرة من الحكومة عبر رواتب القطاع العام والمعونات المتنوعة) سيكون غير مُستدام.
تعترف الرياض بالمشكلة، ولديها خطة لحلّها: “رؤية 2030” الطموحة وبرنامج التحوّل الوطني، وكلاهما تم كشف النقاب عنه في وقت سابق من هذا العام. ويقوم بالتوجيه والإشراف على عملية التحوّل ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وهي عملية من المتوقّع أن تُشكّل جميع جوانب الإقتصاد السياسي للمملكة في المستقبل المنظور.
وقد بدأت فعلياً تغييرات جذرية. لقد فرضت الحكومة حقبة جديدة من التقشف حيث قلّصت الدعم مرة أخرى، وخفّضت رواتب القطاع العام، كما أن مجموعة محدودة من الضرائب حالياً هي قيد النظر. وفي الوقت عينه، هناك جهود مكثّفة جارية لتعزيز القطاع الخاص. والهدف هو تحويل المملكة العربية السعودية من إقتصاد رعائي ورفاهي نفطي إلى سوق ديناميكية ومتنوعة وتنافسية لمجموعة واسعة من الصناعات: من التمويل إلى التصنيع إلى السياحة. ومثل هذا النمو للقطاع الخاص لا يساعد فقط على تنويع القاعدة الإقتصادية للمملكة ورفع الناتج المحلي الإجمالي، ولكن أيضاً (وربما الأهم من وجهة نظر إجتماعية سياسية) يخلق فرص عمل للسعوديين على نطاق غير مسبوق.
في وقت تكافح السلطات السعودية لضمان مستقبلها الإقتصادي، فإنها تواجه أيضاً مجموعة من التحديات الأمنية. على الساحة الدولية، فإن الرياض غارقة في حرب مُكلِفة ومثيرة للجدل في اليمن، الأمر الذي رفع حدة التوتر بينها وبين ايران في جميع أنحاء المنطقة، حيث تنتشر صراعات بالوكالة بينهما في سوريا والعراق ولبنان وغيرها، كما تستعر حرب مستمرة من الكلمات في الدوائر الديبلوماسية. أبعد من ذلك، فقد توترت علاقاتها مع الولايات المتحدة.
على الجبهة الداخلية، تواجه السعودية مجموعة من التحديات. لا يزال تنظيم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” يمثّل تهديداً هائلاً، وهاجم المقاتلون الحوثيون من اليمن مراراً أهدافاً داخل المملكة. وقام تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) ومؤيدوه أيضاً بضرب المملكة عبر وابل من الهجمات الإنتحارية خلال شهر رمضان، في تموز (يوليو) الفائت، وسلسلة من التفجيرات التي إستهدفت الأقلية الشيعية في البلاد. وأخيراً، شهدت المدن الشيعية في المنطقة الشرقية أعمال عنف متفرقة وتصاعد الإضطرابات في الآونة الأخيرة، وخصوصاً في الإستجابة والإعتراض على نفيذ الدولة حكم الإعدام بحق رجل الدين نمر النمر في بداية العام 2016.
عند تقييمهما جنباً إلى جنب، فإن التحديات الإقتصادية والأمنية في المملكة العربية السعودية تبدو صعبة بما فيه الكفاية. إلا أن واقع الحال هو أكثر خطورة، إذ أن الإثنين يرتبطان إرتباطاً وثيقاً في طرق لم يتم تقديرها بالكامل من قبل المراقبين.

مملكة حديثة

هناك أسباب للتفاؤل حول التحوّل الإقتصادي في المملكة العربية السعودية. وقد لا تتكشّف رؤية 2030 أو تتحقّق وفقاً للخطة، لكن المملكة قد وضعت نفسها على مسار تغيير إقتصادي أساسي كبير – وليس هناك عودة إلى الوراء. إن السعوديين يملكون الموارد، ولديهم الحاجة الملحة، والمواهب اللازمة لإحداث هذه التغييرات، وولي ولي العهد الشاب أقدم على خطوات مُشجّعة في حشد الرأي العام، لا سيما الشباب السعودي.
على هذا النحو، فإن التغيير الكاسح آتٍ إلى المملكة العربية السعودية، وهو لن يقتصر على الإقتصاد. فمن المرجح أن تُصاحب التغيير الإقتصادي تغيّرات إجتماعية وثقافية وسياسية. وهذه الأخيرة من غير المرجح أن تكون مفاجِئة أو كاسحة، ولكنها سوف لن تكون أقل تحوّلية، مُرسلةً صدمة في مجتمع حيث التغيير هو لعنة قوية في دوائره الراسخة.
وسيتم إطلاق هذه العملية من طريق مرسوم من أعلى إلى أسفل، التي ستولّد زخمها الشعبي الخاص من أسفل إلى أعلى. وبمجرد أن تبدأ، سوف تعيش حياتها الخاصة. الإستثمار الأجنبي سوف يتدفق إلى البلاد والشركات الأجنبية سوف توظّف مئات الآلاف من السعوديين. وسوف يؤدي تزايد النشاط الإقتصادي والدولي إلى تشكيل المناقشات حول مستقبل المملكة بطرق كثيرة. فوضع المرأة سوف يتحسّن. والسعوديون الشباب سوف ينخرطون أكثر عمقاً مع العالم الخارجي، في عمليةٍ ستؤدي إلى توصّل كل من السعوديين ونظرائهم في الخارج إلى فهم أفضل لبعضهم البعض، وبالتالي تجاوز الصور النمطية التي يحملها الطرفان. في مواجهة هذا الهجوم، فإن القوات الإجتماعية والدينية المحافظة سوف تناضل وتحارب من أجل الحفاظ على نفوذها (والذي لم يكن كاملاً كما يؤكد منتقدو المملكة).
وهذا، بدوره، سوف يؤدي إلى تفكك إجتماعي كاسح وإضطراب. ففيما تنأى عناصر من الشعب السعودي بنفسها عن الإنعزالية الثقافية والتقشف الديني (لكن تدريجاً وبشكل غير متساو)، فإن أقلية داخل المملكة سوف تضاعف من تشددها الراديكالي. سوف تكون هناك توترات بين الأجيال، وتوترات إقليمية، وتوترات إجتماعية وإقتصادية، وتوترات طائفية، وتوترات بين سكان الحضر والريف. وستتكشف كل ديناميكية بطرق مختلفة، ولكن كلها تتطلب إهتماماً من الحكومة.
وبهذه الطريقة، سوف تصبح السعودية بمثابة دراسة حالة مقنعة للعلاقة بين التنمية الإقتصادية وأنماط التطرف العنيف. ومن الناحية العملية، فإن إدارة عملية التحوّل تتطلب أكثر من الطرق التقليدية لمكافحة الإرهاب وإجتثاث التطرف. فإن الإستخبارات البشرية (جمع المعلومات من طريق العلاقات البشرية) القوية التي تتمتع بها المملكة بالإضافة إلى قدراتها في مجال إستخبارات الإشارة والإتصالات سوف يمكّناها من إستهداف شبكات المتشددين ومنع الهجمات. وسوف تكون برامج إزالة وإجتثاث التطرف في المملكة رصيداً قيّماً جداً آخر. لكنها لن تكون كافية.
الأهم من ذلك، فإن السعوديين بحاجة إلى فهم مفصّل لكيفية إستجابة الأطراف السكانية الرئيسية في المملكة على التغيير الإجتماعي والإقتصادي والسياسي. وهذا يتطلب وعياً ظرفياً في الوقت الحقيقي، وكذلك تحليلاً إستشرافياً تنبؤياً لمؤشرات غير موضوعية بطبيعتها ونوعية. إن المملكة العربية السعودية هي بعيدة كل البعد من أن تكون مُتجانسة من حيث الأحوال الإجتماعية والثقافية. على هذا النحو، سوف يكون هناك تنوع هائل في كيفية إنتشار الأحداث من مدينة – حتى من حي – إلى أخرى. إن الحكومة السعودية سوف يكون عليها الإشراف على هذه العملية بإستخدام مزيج من الحوار المفتوح والحوافز الواسعة والإكراه الإنتقائي.
لتحقيق هذا التوازن الدقيق، سيكون على خبراء الاستخبارات وإنفاذ القانون إضافة مهارات إثنوغرافية وإجتماعية إلى ترساناتهم. كما سيكون عليهم العمل أقرب من أي وقت مضى مع الجهات المعنية في القطاعين العام والخاص التي لديها إمكانية الوصول والتبصر في ما يجري داخل “قلوب وعقول” الشباب السعودي، في حين يبقون أيضا ً منسجمين مع وجهات نظر ومصالح المؤسسة الدينية.
إن المخاطر كبيرة، والمُهمّة هائلة. مع أكثر من نصف سكان المملكة تحت سن 25 عاماً حالياً، فإن المملكة السعودية سوف تشهد أجيالاً متعاقبة (بحجم غير مسبوق) تبلغ سن الرشد في بيئة صاخبة. سوف يكون على مهندسي التغيير الاقتصادي والضامنين للإستقرار الإجتماعي العمل جنباً إلى جنب لإعادة التفاوض على الجوانب الأساسية للهوية الثقافية للمملكة، وسوف يفعلون ذلك في مواجهة معارضة شرسة. إذا فشلوا، فإن المملكة ستواجه إحتمال وقوع وإنتشار إضطرابات داخلية كبيرة أكثر خطورة من أيّ من التهديدات الحالية.
إن “رؤية 2030” وبرنامج التحوّل الوطني يشكلان نقطة اللاعودة للبلاد. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الطموحة، فإن على المملكة العربية السعودية السباحة جيداً وإجتياز الإضطرابات والتوترات والشكوك التي تتبع بالضرورة تغيير بهذا الحجم. من وجهة نظر أميركية، هناك خيار ثنائي: يمكن للولايات المتحدة أن تساعد السعوديين في هذه العملية، أو يمكنها زيادة فك الارتباط. من جهة تستطيع أن تساعد المملكة العربية السعودية على التحول إلى أمة متقدمة حديثة مُوَضَّحة في “رؤية 2030”. أو من جهة أخرى يمكنها أن تدير ظهرها وتأمل بما هو أفضل في الوقت الذي تدخل الدولة الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي لحظة حاسمة في تاريخها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى