أسدٌ عليً

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في حلوق المدافع تتوقّف زخات الموت حتى حين، وفي بلاد غاب عنها النوم والسكينة والأصدقاء، تنتظر سوريا مخاضاً لن يأتي بخير. فأرض الشام لا تميز طرقات النعال، فقط تئن في صمت وتربّص، ولا يعنيها إن هُزِم الروم أو كُسِرَت شوكة الفرس. ما يعنيها تلك الدماء التي تتخثّر في شوارعها الحزينة ولا تجد من يريق عليها سطلاً من ماء. لم تعد شوارع دمشق تحفل بتكبيرات القادمين من كل فج غريب ليشهدوا منافع لهم، ولم تعد تستظل براياتهم السوداء ولا الخضراء، ولم تعد تحتمل رائحة بزّاتهم العسكرية الملوّنة بعدما إكتشفت أنهم دجّالون يتاجرون بقميص الحسين وعباءة جدّه، وأنهم مستعدون لبيع الفتاوى وصكوك الغفران لمن يدفع الثمن .
لن تصدّق داريا بعد اليوم تكبيرات من خذلوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. ولن تؤمن حلب لزي عربي أو راية فارسية، ولن تختبئ حرة خلف لحية قرشية أو جلباب مغربي. فقد إكتشفت الشام فجأة أن فتاوي الجهاد تصدر من الكرملين، وثياب المجاهدين تُحاك في واشنطن. وأن اللحي الكثّة والعباءات المُطرّزة والأحزمة الناسفة وبراميل البارود ليست سوى كرنفال غبي يُدشِّن خروج العرب والمسلمين من التاريخ.
يستطيع أوباما بنفخة واحدة في بوقه اللعين أن يُحرّك آلاف المجاهدين إلى دمشق دون أن يُجهّز فرساً أو يموّل غازياً. ويستطيع بوتين أن يوقف الزحف الشيعي وزئير الأسد بإشارة من يده، في حين يكتفي السلطان العثماني بمنح تأشيرات للخارجين من فوهات الجحيم وسائقي عربات الإغاثة والأحزمة الناسفة.
في غمرة حزنهم السرمدي، نسي السوريون زئير من وعدهم بالحرية والكرامة، حتى خرج عليهم ذات تكبير في ثلة من أصحاب البزات السوداء، ليعلن أنه باق وإن ذهب الوطن، وأنه القادر على توحيد طوائف الشعب ولو كره المنصفون. لكن ظهور (الرئيس بشار) الأسد وسط شواهد داريا بعد أن خلت تماماً من سكانها يُبطل الظن بأن لكل امرئ حظ من اسمه. يا لشجاعة أسد يقود سيارته السوبارو الفضية فوق أشلاء داريا مهنئاً موتاها تحت الشواهد، وساكنيها الفارين نحو الشمال بالعيد و “الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله .. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد”!
لكن الرجل الذي لا تفارق محياه إبتسامة الظفر لن يستطيع الحفاظ على وحدة من تبقى من السوريين داخل أسوار البلاد كما وعد، لأنه هو ذاته يحتمي بأصحاب الفراء وذوي العمائم السوداء. وحتى تنتهي مهمته، ويصبح الوطن أثراً بعد عين، سيظل الأسد فتى مُدلّلاً يطلب ما يشاء من متاع من شرق الأرض وغربها عبر الإنترنت من “تابلت” لا يفارقه أبداً.
لكن حادثة دير الزور، والتي قتلت فيها الطائرات الأميركية بضعةً وستين جندياً من جند النظام تُنذر بانعطافة خطيرة في مسار الأحداث. وتصل بالحرب التي لم تعد باردة أبداً بين قطبي الشر فوق أراضي الشام إلى مرحلة كسر العظام. وتؤذن بنهاية قد تكون وشيكة لأرض ظهر فيها الفساد براً وبحراً وجواً، والله لا يحب الفساد.
قريباً، ستضع الحرب في بلاد الشام أوزارها، لكن أطلالها لن تعود مروجاً خضراء، ولن يعود أهلها طيبين كما رسمتهم ريشة التاريخ عبر العصور. ولن تصبح دمشق عاصمة أي وطن، ولن يجري ماؤها فراتاً. وسيتعثّر المارّون في طرقاتها ببقايا الحجر والبشر والكراهية. وستظل رائحة الدماء والموت والدخان تزكم أنوف المارين أو العائدين إلى وطن لن يعود كالوطن.

• كاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى