إستيلاء قائد السبسي على السلطة يُعرِّض الديموقراطية الوليدة في تونس للخطر

يبدو أن إقالة وزير الحكومة التونسية السابق الحبيب الصيد لم تكن بسبب فشله الإقتصادي بقدر ما كانت بسبب طموحات رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي يريد تركيز السلطة التنفيذية بين يديه، وتحضير الأرضية لنجله حافظ كما يروي المقال التالي:

الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي: يريد تركيز السلطة التنفيذية بين يديه
الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي: يريد تركيز السلطة التنفيذية بين يديه

بقلم مبروكة مبارك *

أيَّد البرلمان التونسي في 27 آب (أغسطس) الفائت الحكومة الجديدة التي شكّلها يوسف الشاهد، بعد شهر على رفضه لحكومة الحبيب الصيد السابقة.
وكانت وسائل الاعلام توقَعت إقالة الصيد، المهندس الزراعي المستقل ووزير الداخلية الأسبق، قبل أشهر، ولكن هذا التحوّل السياسي كان مشوَّشاً ومربكاً بالنسبة إلى الشعب. لقد واجهت حكومة الصيد، التي كانت في السلطة لفترة 18 شهراً، نقداً وهجوماً من نواب الإئتلاف الحكومي الذين كانوا جددوا بشكل كبير ثقتهم في حكومته قبل ستة اشهر فقط. في غضون ال18 شهراً الفائتة، طلب البرلمان التصويت على الثقة بالحكومة أربع مرات، وهو أمر لا يبشّر بالخير بالنسبة إلى ضرورة حكم مستقر في تونس. من أجل فهم لماذا كان هذا التحوّل الأخير، فمن الضروري النظر إلى العوامل الرئيسية التي دفعت إلى إقالة الصيد.

حجب الثقة

في المناقشة التي سبقت التصويت على إقالة الصيد، أشار نواب من المعارضة وعدد قليل من الإئتلاف الحكومي إلى إشكالية التوقيت للتصويت، فضلاً عن الأثر السياسي للعملية برمتها. إن أعضاء الإئتلاف الذين كانوا يأملون بإطاحة الصيد إستجابوا وجادلوا في الجلسة البرلمانية في 30 تموز (يوليو) الفائت من خلال التأكيد على إفتقار البلاد للنمو الإقتصادي وإنخفاض قيمة الدينار التونسي المقلق، متجاهلين بأن مثل هذه التقييمات في حاجة إلى إطار زمني أطول لتكون ذات معنى ومغزى. فمن الواضح أن الأسباب وراء إقالة الصيد كانت سياسية، بدلاً من ربطها بأداء حكومته. الى جانب ذلك، كان من المفهوم منذ فترة طويلة لدى النواب أن تخفيض قيمة العملة الذي إنتقدوه كثيراً هو نتيجة لنية الحكومة إتباع التوصيات الصادرة عن صندوق النقد الدولي.
إن الشك في توقيت الإقتراع على حجب الثقة، وعدم وضوح وإتساق الحجج لرفض الصيد وحكومته، يمكن أن تشكّل سابقة خطيرة لتطبيع إقالة أي حكومة من دون سبب قوي.
الجدير بالذكر أنه، قبل أن يطلب تصويتاً على الثقة، فقد أعلن الصيد مرات عدة أنه سيستقيل، ولكن في وقت لاحق تراجع عن تصريحاته. في 18 تموز (يوليو)، خلال مقابلة مع التلفزيون الرسمي، إعترف الصيد بأن هناك ضغطاً عليه لتقديم إستقالته وقد تلقى تهديدات مباشرة، لكنه رفض تحديد مصادر التهديد. طلب البرلمان جلسة عامة مع الصيد، لكنه رفض. ثم، بعدما تحدث حول هذا الموضوع لأيام عدة، أعلن الصيد أنه لا يستطيع تسليم خطاب الإستقالة، لأن مثل هذه الاستقالة يجب أن تكون مبنية على ظروف شخصية، مثل مرض مستعصٍ. في غياب وعدم وجود سبب شخصي كاف، أعلن أنه سيطلب من البرلمان التصويت على تجديد الثقة في حكومته. في القيام بذلك، عرض الصيد تفسيراً للمادة الدستورية التي تنظّم نقل السلطة. وفي حالة عدم وجود وضوح في دستور 2014 بشأن إستقالة رئيس الحكومة، فمن حق الصيد القيام بذلك.
من الناحية السياسية، إن قرار الصيد في سعي إستباقي إلى تجديد الثقة بحكومته يعزز سلطة البرلمان كثقل موازن لرئاسة الجمهورية. ومع ذلك، لا ينبغي أن يُفسَّر قراره بفعل ذلك كلفتة ديموقراطية بحتة. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يُقرَأ دافع الصيد بإعتباره رداً غاضباً ضد الرئيس الباجي قائد السبسي وخليفته المفترض، إبنه، حافظ قائد السبسي. هذه الحلقة هي في غاية الأهمية، لأن النظام الرئاسي – البرلماني المختلط الموصوف في الدستور لم يتحدّد بعد بشكل واضح. إن الممارسة الحالية للنظام السياسي الشاب والتفسيرات التي يتم قبولها ستشكل مستقبل تونس. وهذا هو السبب الذي ينبغي على أساسه إيلاء اهتمام كبير للكيفية التي يتم بها تفسير الدستور في ظل عدم وجود محكمة دستورية — عيب مقلق في المشهد السياسي التونسي بعد الثورة.

تزايد ميول قائد السبسي السلالية

إنتُقِد قائد السبسي بشكل واسع لطموحاته السلالية (العائلية): لقد ساعد على تمكين النفوذ المتنامي لإبنه حافظ، جنباً إلى جنب مع حاشيته من الأسر التونسية المقربة في العاصمة والتي تتضمن يوسف الشاهد، رئيس الحكومة المُقترح ليحل مكان الصيد. سابقاً، إختار رئيس الجمهورية الشاهد لتنسيق اللجنة المُكلّفة بتخفيف وحل الأزمة داخل “نداء تونس” قبل إنفجار الحزب. ثم عُيِّن وزير دولة لمصايد الأسماك وفي وقت لاحق وزيراً لشؤون الحكومة المحلية في حكومة الصيد. إن الصراعات الداخلية في الحزب بين حافظ وإثنين من خصومه، رضا بلحاج، مدير الديوان الرئاسي السابق، ومحسن مرزوق، المستشار السياسي السابق للباجي، سمح ل”النهضة”، الحزب الإسلامي، لكي يصبح أكبر حزب في البرلمان. وقد إستقال مرزوق من “نداء تونس” وخلق حزباً جديداً سماه “مشروع تونس”، كما إستقال بلحاج كمدير للديوان الرئاسي، لكنه بقي ضمن “نداء تونس” في صراع مفتوح مع نجل الرئيس. إن العداء بين بلحاج وإبن قائد السبسي سوف يثير بالتأكيد المزيد من الأزمات داخل “نداء تونس”.
من ناحية أخرى، إن ميل الرئيس للمحسوبية وما نجم من حرب ضروس جارية داخل “نداء تونس” يرتبطان إرتباطاً وثيقاً بإقالة حكومة الصيد. بعد دفع مرزوق للإستقالة من “نداء تونس”، أقنع حافظ والده على التراجع عن إنجاز رئيس الديوان السابق الرئيسي: تشكيل حكومة الصيد.
ولم يقف قائد السبسي إلى جانب إبنه أو يؤيده علناً، لكنه بدأ يدفع بالصيد للإستقالة مع الحكومة في أوائل حزيران (يونيو) الفائت. في خطوة لتبرير إقالة رئيس الوزراء – ومن دون تشاور مسبق مع الإئتلاف – دعا قائد السبسي الى تشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنها أن تتجاوز إئتلاف الأحزاب الأربعة الأولي “نداء تونس”، “النهضة”، “الاتحاد الوطني الحر”، و”آفاق تونس”. في البداية، وافق راشد الغنوشي، زعيم حركة “النهضة”، على مبادرة قائد السبسي شرط أن يبقى الصيد رئيساً للحكومة. إن الدعم الأولي للصيد من الإسلاميين قد قوّض دعمه من شركاء التحالف الآخرين الذين يشكّون بدوافع “النهضة” وتاريخها. في أي حال، إن إقالة الصيد هي نتيجة جانبية لنصر حافظ على مرزوق، ولكن هذا لم يكن الدافع الوحيد وراء إبعاده.
في تونس، الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية كانت تُطلَق فقط بعد أزمات سياسية كبرى. وقد أطلق قائد السبسي إعلانه في 4 حزيران (يوينيو)، في منتصف شهر رمضان وخلال فترة من الهدوء النسبي في تونس. لم يكن الوقت المناسب لمثل هذا الإعلان، ولا الظروف تتطلب ذلك.
وتشير السياسة الشخصية المعروضة طوال العملية الطويلة لفصل وإقالة الصيد أن الحكومة الجديدة سوف يسيطر عليها بإحكام قائد السبسي وحاشيته. وغني عن القول أن الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية كان دخاناً ومرايا لإخفاء الأجندة السياسية الخاصة بقائد السبسي.

المنافسات الإقليمية واللامركزية

عُيِّن الصيد في البداية من قبل قائد السبسي لثلاثة أسباب: لم يكن الصيد تابعاً أو منتمياً إلى أي حزب سياسي، وبالتالي، كان ينظر إليه الشعب كشخص لن يعمل لمجرد أهداف حزبية أو مهنية. ثانياً، كان يُعتقَد أن الصيد سيكون طيِّعاً سياسياً، وبالتالي، يمكن أن يخدم مصالح رئيس الجمهورية. ثالثاً، الصيد هو من منطقة الساحل، المنطقة الساحلية من سوسة إلى المنستير. كل رؤساء الحكومات منذ الاستقلال، بإستثناء علي العريض (2013-2014)، كانوا من منطقة الساحل، والنخبة الاقتصادية الساحلية لعبت دائماً دوراً مهماً ومؤثّراً في الساحة السياسية التونسية.
لم يتوقّع قائد السبسي تنامي نفوذ رجال الأعمال الساحليين الذين أيّدوا الصيد في طموحاته السياسية. من طريق دفع الصيد إلى الإستقالة، فقد قوّض رئيس الجمهورية تأثير رجال الأعمال الساحليين حيث إستبدلهم بحاشيته التونسية المرافقة في العاصمة. وقد عالج قائد السبسي رغبة إبنه لوضع حدّ لإرث بورقيبة الذي يفيد بإسناد رئاسة الوزراء إلى تكنوقراطي مستقل من منطقة الساحل. بالإضافة إلى إنتمائه الساحلي، فإن بعض قرارات الصيد لم تلقَ صدى جيداً في قصر قرطاج.
عندما تقدم بتعديل وزاري في حكومته في كانون الثاني (يناير) الماضي، إتّخذ الصيد قراراً جذرياً، وثورياً، بإزالة إدارة المجتمعات المحلية من منطقة نفوذ وإشراف وزارة الداخلية، وهو ترتيب موجود منذ أيام زين العابدين بن علي — بقايا ذيول الدولة البوليسية. بعد فترة وجيزة، تم تأجيل الإنتخابات البلدية التي كان ينتظرها الناس بفارغ الصبر بسبب مشروع قانون اللامركزية، وهو المشروع المثير للجدل الذي فشل في تسوية الخلافات حول بعض المفاهيم الدستورية الأساسية، مثل حق المناطق في الحصول على جزء من مواردها الطبيعية أو مفهوم التمييز الإيجابي للتنمية الإقليمية. وهناك سبب للإعتقاد بأن قرار الصيد لتوفير حكم ذاتي في وقت مبكر للقوى المحلية قبل التصويت على مشروع قانون اللامركزية قد هزّ الإدارة الرسمية وعجّل بإقالته. والشاهد،، الذي كان سابقاً الوزير المسؤول عن المجتمعات المحلية والتنمية الإقليمية، من المرجح أن يعكس قرار سلفه.

الديموقراطية في خطر

على الرغم من تقديمه وإعتباره ممارسة ديموقراطية، فإن آخر تصويت على حجب الثقة من قبل البرلمان التونسي يخفي حقيقة أن السياسة التونسية لا تزال تتشكّل بإقليمية محلية ومواقف محاباة. بينما كانت إزالة الصيد نتيجة جانبية لفوز حافظ بالسيطرة داخل حزب الرئيس، فمن المحتمل أيضاً أن رئيس الحكومة قد أُقيل بسبب رفض قراره للحد من سيطرة وزارة الداخلية على السلطة المحلية. إن دعوة قائد السبسي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية كانت خدعة في متناول اليد لضرب عصفورين بحجر واحد. إن هامش الشاهد المستقبلي للعمل كرئيس للحكومة ما زال غير واضح، ولكن سوف يكون قائد السبسي قد نجح بهدوء في تركيز السلطة التنفيذية في بلده بين يديه — تذكيرٌ مؤلم بعهد بن علي وتناقضٌ صارخ مع رئاسة منصف المرزوقي.
وأخيراً، طلب 121 خبيراً في أواخر تموز (يوليو) الفائت من الرئيس باراك أوباما زيارة تونس قبل إنتهاء فترة ولايته في كانون الثاني (يناير) 2017. ولما كان البيت الأبيض يتابع أحدث التطورات في تونس، فسوف يركّز الإهتمام على تقييم بصمة الإبهام السياسية والإرث الطويل الأجل لقائد السبسي. إن أوباما، الذي بدأ ولايته مع خطابه التاريخي في القاهرة، قد يتردد في إنهاء ولايته بزيارة إلى تونس، حيث يهدد مستقبلها الديموقراطي خطر … طموحات قائد السبسي السلالية.

• مبروكة مبارك هي باحثة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، وكانت عضواً مُنتخباً في المجلس الوطني التأسيسي التونسي (2011-2014).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى