صندوق النقد الدولي ما زال يجهل فهم أزمة اليورو

لندن – محمد سليم

في تموز (يوليو) الفائت، أصدر مكتب التقييم المستقل لصندوق النقد الدولي تقريراً رئيسياً حول كيفية تعامل الصندوق مع أزمة اليورو بعد العام 2010، حيث ينتقد فيه سلوك المنظمة الدولية، ولكن، كما هو الحال مع عمليات التقييم الذاتي السابقة لصندوق النقد الدولي، فإنه يغفل عن العديد من القضايا الجوهرية.
على وجه التحديد، يزعم مكتب التقييم المستقل أن الصندوق كان أسيراً للمصالح الأوروبية – وهذا ليس مستغرباً، نظراً إلى أن الأوروبيين يشكّلون ثلث المجلس التنفيذي للصندوق. علاوة على ذلك، كان الصندوق مُخطِئاً في إفتراض أن “أوروبا مختلفة”، وأن “التوقف المفاجئ لا يمكن أن يحدث داخل منطقة اليورو”.
في خضم أزمة مالية، ينبغي على السلطات التحرك بسرعة لمعالجة المشاكل التي تسببت بها وإستعادة الثقة. وقد أقدمت الإدارة الأميركية على فعل ذلك فقط في خريف العام 2008، أما، الزعماء الأوروبيون فقد تردّدوا – وهذا أمرٌ تغاضى عنه مكتب التقييم المستقل ولم يأتِ على ذكره.
ولم يتطرق تقرير المكتب أيضاً إلى تقييم فعالية برامج صندوق النقد الدولي. لننظر إلى حالة اليونان حيث كانت إستجابة الصندوق غير كافية بشكل واضح. في العام 2009، كان العجز في الموازنة اليونانية 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ومع برنامج صندوق النقد الدولي، إنخفض العجز في العام 2010، ولكن فقط إلى 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. في الوقت عينه، أقدمت دول البلطيق الثلاث – أستونيا ولاتفيا وليتوانيا – إلى تشديد وإحكام الموازنة إلى 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2009.
كان الصندوق والإتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة غافلين عن الأعباء المالية المُفرِطة للعديد من دول منطقة اليورو. وكان الصندوق متساهلاً تجاه اليونان لأنه عضو في منطقة اليورو. ولكن هذه المحاباة كانت غير مُبرَّرة ومُكلِفة في نهاية المطاف. لقد تقلَّبت النفقات العامة اليونانية بين 50 في المئة و59 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي منذ العام 2010، حيث خلقت أعباء ديون ضخمة وأعاقت النمو. وعلى سبيل المقارنة، حافظت ألمانيا والمملكة المتحدة على نسبة نفقات عامة معقولة بلغت 44 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
يتجاهل تقرير مكتب التقييم المستقل كل هذا ويركّز بدلاً من ذلك على الحاجة إلى إعادة هيكلة الدين العام، وذلك لجعله مُستداماً. ولكن هذا لا ينطبق بالضرورة على اليونان في العام 2009، عندما كان دينها العام مرتفعاً – 127 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي – ولكنه لم يكن غير قابل للإستدامة. ولم ترتفع الديون اليونانية وتصبح في وضع لا يمكن التغلب عليه إلّا في إطار خطة تمويل صندوق النقد الدولي التي إكتملت وإختُتِمَت في أيار (مايو) 2010. وفي نهاية العام 2015، بلغ الدين العام في ايطاليا نسبة 133 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفي البرتغال 129 في المئة. والسؤال هنا: هل ينبغي الآن إجبار إيطاليا والبرتغال على إعادة هيكلة ديونهما أيضا؟
الواقع أن الإقتصاد الأوروبي ينمو ببطء بسبب فرط الضرائب وفرِط التنظيم. وبدلاً من الطلب من الدول الأوروبية بإعادة هيكلة ديونها، ينبغي مطالبتها بتحرير أسواق العمل والمنتجات والخدمات؛ وينبغي مطالبة الدول الجنوبية مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال بتوسيع نطاق التعليم الثانوي والتدريب المهني. وكما يوضّح نموذج دول البلطيق، يمكن لتعديلات مالية سريعة أن تدفع التغييرات الهيكلية.
بدلاً من ذلك، فقد خلط صنّاع السياسات بين الغابة والأشجار، كما يبين تقرير مكتب التقييم المستقل. إن أي محاسبة للرقابة الإقتصادية الأوروبية في السنوات الأخيرة ينبغي أن تسأل لماذا إندلعت الأزمة اليونانية في ربيع العام 2010، بعد ما يقرب من عامين على الأزمة المالية العالمية.
والجواب هو أنه عندما غمر البنك المركزي الأوروبي دول منطقة اليورو بالسيولة الرخيصة، فقد إستغنت الحكومات عن الإصلاحات الجادة وأفرطت بالإنفاق بدلاً من ذلك.
وكان هذا جزئياً يعود إلى أنه، في خريف العام 2008، أصدرت مجموعة العشرين “G-20” وصندوق النقد الدولي نداءات يائسة لإطلاق حوافز مالية مُموَّلة بالإستدانة. وقد إستجاب العديد من البلدان الأوروبية لهذه النداءات؛ ولكن بدلاً من تحفيز النمو الإقتصادي، فقد قوّض الإنفاق بالعجز الإستقرار المالي في بلدان عدة. وقبل أن ينتهي كل هذا، طلب ثماني دول على الأقل من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ال27 (يومها) برامج تمويل وإعادة هيكلة من صندوق النقد الدولي.
الدرس الذي ينبغي أن يكون واضحاً هو أن التوسع المالي لا يُحفّز النمو الاقتصادي عندما يكون هناك عدم إستقرار مالي. لكن صندوق النقد الدولي، المُلتزِم بالعقيدة الإقتصادية “الكينزية” (نظرية إقتصادية عن إجمالي الإنفاق في الاقتصاد وآثاره في الإنتاج والتضخم أطلقها الإقتصادي البريطاني جون ماينر كينز)، لا يزال يرفض الإعتراف بهذه الحقيقة.
وكانت بلدان أوروبية عدة ضعيفة ومُعرَّضة لأنها راكمت ديوناً عامة غير ضرورية وبشكل مفرط من خلال الحفاظ على العجز في الموازنة خلال فترة الازدهار في سنوات ما قبل الأزمة. وبحلول نهاية العام 2007، كان متوسط الدين العام في منطقة اليورو 65 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي خمس نقاط فوق السقف المُحدَّد في معاهدة ماستريخت للبلدان التي تسعى إلى الإلتحاق بعضوية منطقة اليورو. وهذا يعكس جزئياً القرار الذي إتّخذته فرنسا وألمانيا وإيطاليا في العام 2003 لإنتهاك، وفي وقت لاحق “لإصلاح”، قواعد ماستريخت، الذي أعلن فعلياً بأنها لاغية وباطلة.
لم يعترض صندوق النقد الدولي على إستهتار وإستهزاء هذه البلدان من قواعد الدين العام. في الواقع، إذا قارن أحدهم مواقف الصندوق مع مكتب التقييم المستقل التابع له، فهي مشابهة بشكل لافت، مما يثير الشكوك حول إستقلالية هذا المكتب في كتابة تقريره. لقد تجاهل كلٌّ من صندوق النقد الدولي ومكتب التقييم المستقل على حد سواء المشاكل الرئيسية نفسها في الإستجابة الرسمية على أزمة اليورو حتى الآن. إن أي أزمة مالية يجب أن تُواجَه بإتخاذ إجراءات سريعة، ولا بدّ من خفض العجز في الموازنة على الفور، وذلك من خلال خفض الإنفاق في الأساس. كما إن التعديلات المالية السريعة تقود وتدفع الإصلاحات الهيكلية، التي تؤدي إلى نمو إقتصادي أسرع.
إن الخطوات الأولى التي إستخدمها صندوق النقد الدولي للمواجهة وإنتُقد على أساسها كانت “مالية في الغالب”. لذا بعد الإستجابة غير الملائمة والمُقصّرة لأزمة اليورو، يجب على الصندوق أن يعترف بأن الوقت قد حان للعودة إلى جذوره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى