التراجيديا السوداء

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر *

بعدما ظلّت زيمبابوي تُصدِّر القطن والذرة والتبغ لسنوات، ها هي اليوم تُورّد خيرة مثقفيها لمن يدفع ثمن أياديهم المعروقة وجماجمهم المحروقة. وبعد ثلاثة عقود ونصف من القمع الأسود، سقطت جوهرة إفريقيا في حضن الخراب، ولم يستطع روبِرت موغابي الحفاظ عليها كما وعد. كما لم يستطع “المحرّر” أن يخلع حذاءه وجوربه وطويلاً، وسقط بكل بساطة في فخ الغواية التي نصبتها له الأقلية البيضاء حول قصرٍ لم يبلغه إلا بشقّ النفس. اليوم تغيَّرت الفصول في هراري، وأدركت الغالبية المقهورة أن سواد بشرة موغابي كبياض محيّا إيان سميث، وأن العبودية تتشابه بغض النظر عمَّن يُحكِم القيود حول المعاصم.
اليوم يخرج الزيمبابويون على عصمة رجل حكمهم بمخالب نسر وعيون باز منذ العام 1987، رافعين أعلاماً باهتة كملامح مستقبل لا يعلم إلّا الله في أي منعطف زلق يسير. أما الرجل الذي ظل يقاوم الشيخوخة وسرطان البروستاتا على مدى سنوات عجاف، فيؤكد أنه سيفوز بإنتخابات 2018 رغم أنف المعارضة، وأنه سيقعد فوق صدر البلاد حتى يتجاوز المئة.
حاول موغابي إسترداد الأراضي التي إنتزعتها الأقلية البيضاء قائلاً: “إنتَزَعوها بالقوة، واليوم نَستَرِدّها كما إنتَزعوها .. بالقوة”. لكن الأرض التي إستردّها الرجل لم تُوزَّع بين فلاحي الوطن بالتساوي، ولم يُقَسَّم فيؤها كما أراد البائسون من الزُرَّاع، وإنما وُزَّعت على السياسيين والعسكر الذين يشتري بهم موغابي ولاءً مُصطَنعاً حتى حين.
يعلم موغابي كغيره من المتابعين أن سلة غذاء إفريقيا خاوية كبطون فقرائها، وأن ما بقي في قعرها لم يعد يكفي حاجة الطبّالين أولي الإربة ممن حوله. يُدرِك موغابي أن الربيع الأسود بات على بعد خطوات من مرقده، لا سيما بعدما إخترقت أصوات اليائسين من بني جلدته جدران قصره الغليظة مناديةً بالعيش والحرية والكرامة. ويُدرِك الرجل أن أعداد المُتَجمهِرين حول بلاطه تزداد كل يوم عشرات الآلاف من المُحبَطين الذين تعجز خزائنه عن دفع رواتبهم الشهرية، وأن عجز الموازنة لم يَطَل المُستَضعفين من المعلمين والأطباء فقط، وإنما تجاوز ليصل إلى الجيوب التي ظلّت مُتخَمة حتى عهد قريب من رجاله في الجيش والشرطة، ورغم أنه تجاوز الإثنين وتسعين عاماً، يقف الرجل على أطلال خرائبه لينادي: “يظنّ المُحتَجّون أن “الربيع العربي” قادر على إجتياح حدودنا، لكن هذا لن يحدث”. وكأنه يكرر حرفياً ما قاله أسلافه من الطغاة في بلاد فقدت ثورتها وخيرة رجالها ولم يبقَ فيها إلا الغثّ من كل زوج غير بهيج.
لا يريد الرجل أن يترك جيفة لأحد، ولا يريد أن يترك زيمبابوي وفيها عرق ينبض، مؤكداً أنه لا يفعل ما يفعل إلا ليحمي البلاد من واقع سوريا ومستقبل ليبيا وتمزّقات اليمن وفساد مصر. ولا يريد “محرر العبيد” أن يقر بأن الطوفان المقبل من الغرب طاغٍ وهادرٍ وأن مخالبه المتآكلة لن تحميه من غدر المحيطين ولا من تَرَبُّص أجهزة المخابرات التي تعيث في الأرض فساداً وأنه يحمي الفساد.
اليوم، تُغيِّر طائرة الزعيم الأوحد مسارها، وتطوي خِطامُها لتهبط في شرقنا الأوسطي رغماً عنها، ويسقط حامي عرين زيمبابوي ضعيفاً غير مرغوب فيه فوق تراب دبي. وكأن طائرة الرجل ترفض أن تكمل مسيرتها المعتادة نحو مشافي سنغافورة، فتلقي الرحل من فوق ظهرها وتبرك كما فعل فيل أبرهة ذات تاريخ. وبين تكهنات بنزيف في المخ وموت محتمل، يضرب فقراء زيمبابوي أخماساً في أسداس، ويتأهب المعارضون والمتربّصون بما تبقى من سلطان لدولة غاصت في مستنقع الفساد الأسود حتى حقويها. وتظل آمال فقراء زيمبابوي مُعلّقة بين متربص أبيض جشع، ومُحرِّر أسود أشدّ جَشعاً ولسان حالهم يقول: “أين المفر”.

• كاتب وأديب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى