فيلم “إشتباك” حول مصر ما بعد 2011 يفشل في الإثارة والإستفزاز

تدور أحداث فيلم “إشتباك” بعد 30 تموز (يونيو) 2013 داخل عربة ترحيلات (شاحنة) تابعة للشرطة مُكتظة بالمتظاهرين من المؤيدين والمُعارضين لحكم جماعة “الإخوان المسلمين” وذلك بعد خلع الرئيس محمد مرسي من الحكم، متضمنة لحظات من الجنون، العنف، الرومانسية والكوميديا أيضاً، وعارضة لجزء كبير مما يحدث في مصر.

المخرج محمد دياب: فيلمه أحدث ضجة في كان
المخرج محمد دياب: فيلمه أحدث ضجة في كان

القاهرة – هدى أحمد

كيف يمكن تصوّر وتسجيل وقائع حَدَثٍ مُعقّد بشكل شامل مثل ثورة 25 كانون الثاني (يناير) المصرية وتداعياتها على الشاشة؟ هذه هي المسألة التي حاول المخرجون المصريون معالجتها منذ إندلاع الإنتفاضة التحويلية في البلاد في العام 2011. الدفعة الأولى من الأفلام التي تضمنت: “18 يوم” الجامح للخيال، والفيلم الوثائقي “التحرير 2011″ الذي ينقسم إلى ثلاثة أجزاء الطيب” و”الشرس” و”السياسي”، وفيلم أحمد رشوان “وُلِد في 25 يناير”، كانت أعمالاً رجعية ورد فعل، مُشبَعة بإحساس المُبتَهجين بسبب الإطاحة بمبارك. كما شهدت الأفلام التجارية فرصة كبيرة لتحقيق ربح سريع من حمى الثورة مع تفاهات منسية مثل “صرخة نملة” و”تِك تِك بوم”. وكانت الأعمال الأكثر نجاحاُ هي فيلم “فرش وغطا” الذي يمارس فيه مخرجه أحمد عبدالله تجريباً غريباً وملتبساً بشدة في محصلته النهائية، مما نتج منه تنافر شديد، وهو ما تجسّد في تحويله جميع المشاهد الحوارية إلى همس غير مسموع، مع لجوئه على النقيض إلى سرديات وثائقية جافة وأناشيد صوفية تأتي كفواصل درامية دخيلة ومناقضة للحالة الأولى للفيلم؛ وفيلم يسري نصر الله المُساء فهمه “بعد الواقعة”، وهو بانوراما فوضوية من الحيرة في القاهرة ما بعد الثورة.
إلّا أن فيلم جيهان نجيم “الميدان”، الذي لا يزال أشهر وثيقة بصرية عن الثورة، كان محاولة شجاعة ورائعة لتوثيق المرحلة الإنتقالية المضطربة التي عانتها وتمر فيها البلاد. وهذا، على الرغم من أنه غالباً ما كان مُفرطاً في التبسيط، راسماً صورة بطولية عن النشاط السياسي من دون النظر إلى الهواجس الخطيرة لليسار المثقّف الذي فتح الباب أمام صعود “الإخوان المسلمين” وإستيلاء الجيش على السلطة لاحقاً.
إن إستيلاء القوات المسلحة المصرية على السلطة في 30 حزيران (يونيو) 2013 أحدث تغييراً جذرياً في المشهد السينمائي. لقد إختفى ذلك النوع من الأفلام السياسية الذي كان ينتقد بشكل علني ويتمتع بشعبية بعد كانون الثاني (يناير) 2011، كما بدأت حرية التعبير تتناقص.
في هذا المشهد المقيَّد للغاية، وصل فيلم “إشتباك” لمحمد دياب المدفوع سياسياً، وكان لا بد له أن يُحدِث ضجة، وقد فعل. لقد إحتل “إشتباك” عناوين الصحف عندما تم إختياره لإفتتاح منافسة “أول نظرة” في مهرجان “كان” السينمائي، وهو أول فيلم مصري يحصل على هذا الشرف المرموق جداً. وقد وضعته مراجعة العروض اللاحقة للمطبوعات التجارية كأكبر فيلم عربي للعام.
إن الإنتاج الضخم المصري – الفرنسي صُوِّر تماماً في الجزء الخلفي من شاحنة للشرطة بعد سقوط “الإخوان المسلمين” وخلع الرئيس المنتخب محمد مرسي. وفي مظاهرة مُضادة للإخوان، ألقت الشرطة القبض على محتجين مختلفين بشكل تعسفي ووضعتهم في الشاحنة: مراسل مصري -أميركي لوكالة “أسوشيتد برس” ومصورها؛ ممرضة، زوجها، وطفلها؛ عامل في حقل الموسيقى؛ منظف سيارات، وصاحب محل للإتصالات السلكية واللاسلكية. مثل معظم الصحافيين في ذلك الوقت، واجه المراسل العداء الشديد على حد سواء من رجال الشرطة وغيرهم من المحتجين، حيث سخروا منه لحمله جواز سفر أميركي، وإتهموه بالتجسس.
يحدث الصدام الحقيقي بعد إلقاء القبض على عدد من المسؤولين في جماعة “الإخوان الإسلاميين”والمؤسسات التابعة لها، والمتعاطفين معها، وأحد المؤيدين لتنظيم “داعش”، وواعظ، وإبنته المراهقة خلال مظاهرة مؤيدة لمرسي ووضعوهم مع الآخرين في الشاحنة. وتصبح الأمور قبيحة تدريجاً: ملاكمات بالأيدي وإطلاق الشتائم، وإتهامات متبادلة بالخيانة. وتشتد الحرارة فيما الرحلة تستمر، إلّا أن المعاناة الجسدية الجماعية تُحسّن تدريجاً الخلافات وتجبر الجميع على إكتشاف إنسانيتهم المشتركة.
الواقع أن “إشتباك” هو بلا شك عمل ترفيهي تام، ولكن، من خلال نظرة عميقة وثاقبة لصورة مرحلة ما بعد 30 حزيران (يونيو) في مصر لا يبدو الأمر بالتأكيد كذلك. يلتقط دياب جزئياً جنون الشك والإضطهاد المتزايد الذي صممته وسائل الإعلام في بداية الفيلم: الشك الأعمى لجميع الصحافيين والأجانب؛ الرغبة الشديدة لإبادة جماعة “الإخوان المسلمين” وإنتشار القومية البغيضة؛ ومقولة نحن مقابل هم والفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها. ولكن هذا هو القدر الذي إستطاع الفيلم تقديمه من رواية مختلفة عن ما نشر في وسائل الإعلام المحلية منذ ذلك الحين.
يتجنب دياب خلق خلفيات درامية لشخصياته، وعندما يفعل، فإنها تأتي كأمثلة. معظم أنصاره ناطقون يمثلون جوانب مختلفة من الصراع. ولكن الصورة التي يعطيها المخرج عن مصر المُنهارة تبدو مُحبِطة ذات بعد واحد ومُسطّحة، حيث تقدّم تفسيراً قليلاً للجمهور الغربي المُبتدئ والشيء القليل للتحليل للمشاهدين المصريين. إن الشاحنة ليست صورة مصغرة عن مصر كما يدّعي رؤيتها مختلف المراقبين الغربيين؛ الكثير من وجهات النظر مفقود: الطبقة الوسطى، والجيش، والأقلية القبطية المسيحية. إن المخطط السردي والبصري للفيلم بالتأكيد جذاب، لكنه لا يُعطي مجالاً لفهم الدوافع الحقيقية وراء سلوك هذه الشخصيات.
أمضى دياب فترة طويلة في صناعة الأفلام السائدة، حيث إرتفع إلى الشهرة ككاتب للمسلسل الناجح “الجزيرة”. وقد قوبلت باكورة أعماله كمخرج “القاهرة 678″، الذي يسرد بشكل قهري ويتعرض للتحرش الجنسي، بنجاح تجاري غير متوقع في أوروبا. والعملان هما فيلمان يقدمان رسالة إجتماعية واعية، مع كل الدلالة السلبية التي يحملها المصطلح: كانا حادين، تعليميين، وبصوت عال.
من جهته لدى “إشتباك” هدف واحد: تقديم خطاب مختلف عن جماعة “الإخوان المسلمين”، والدفع نحو المصالحة. ويُحسب له، أن دياب لم يعفِ الإخوان من الجرائم التي إرتكبوها في فترة حكمهم القصيرة. لكنه يرفض أيضاً تجميعهم كلهم ظلماً في فئة إرهابية تقييدية. إن “إشتباك” هو صرخة عظيمة للفهم والتعاطف، وفي الوقت الذي جُعِل الإخوان ككبش فداء لجميع مشاكل مصر، فإن رسالة دياب جاءت في الوقت المناسب. ومع ذلك، فإن الكلام الرنان “دعونا نحب بعضنا بعضاً وقبول أحدنا الآخر” لا يجعله إجبارياً وجديراً بالإهتمام في السينما.
من ناحية أخرى، هناك علامة إستفهام محيطة ب”إشتباك” وهي الأكثر مدعاة للقلق وتكمن في معالجته الخفيفة غير الواقعية للشرطة. إن إستخدام الشرطة المصرية المنهجي للتعذيب وسوء المعاملة الواسعة للقوة قبل وأثناء وبعد 30 حزيران (يونيو) موثق جيداً من قبل وسائل الإعلام المحلية والدولية على حد سواء. تصوير ضباط كبار عديدين ينفّذون القانون بطريقة حميدة ولا يلجأون إلى العنف إلّا عندما يتعرضون للإستفزاز فقط هو غير دقيق، وبالتالي مضلل. مع الأخذ في الإعتبار التقارير ومختلف اللقطات المسجلة لممارسات الشرطة الخاطئة، يمكن أن يكون “إشتباك” بالنسبة إلى المشاهدين العارفين، كنسخة لامعة مُخفِّفة لواقع مؤلم سطحية وغير عميقة.
يبقى أن صناع السينما السياسية الكبار – جان لوك غودار، غلوبير روشا، إيليا سليمان – إرتدوا سياساتهم وحملوها من دون خجل على سواعدهم، بغض النظر عن أية إلتزامات تجارية أو إجتماعية. دياب ليس مؤلفاً، وتصرفه المتوازن كان محفوفاً بالكثير من التنازلات للإثارة، والتحفيز، يالتالي كان مشوَّشاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى