كيف يعزّز تلاعب الصين بالعملة الدور العالمي للدولار الأميركي

عندما تقدّمت الصين إلى صندوق النقد الدولي بطلب لإدخال عملتها الوطنية الرنمينبي (أو اليوان) في سلة حقوق السحب الخاصة في العام الفائت إلى جانب الدولار، اليورو، الين والجنيه الإسترليني، ظن الجميع بأن ذلك سيشكل تهديداً لدور الدولار الأميركي، صاحب “الإمتياز الباهظ”، كعملة إحتياط رئيسية دولية، وبالتالي سيحوّل العملة الصينية إلى عملة إحتياط رئيسية. ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك لأن الصين أولاً غير مؤهلة للعب هذا الدور الذي ستكون له تداعيات سلبية على وضعها الداخلي، وثانياً لأنها المستفيدة الكبرى من هيمنة الدولار الأميركي كما تشرح “أسواق العرب” في تقريرها التالي:

بنك الشعب الصيني: مليء بالدولارات
بنك الشعب الصيني: مليء بالدولارات

واشنطن – محمد زين الدين

في 16 نيسان (إبريل) الفائت دقّ تشو شياو تشوان، محافظ البنك المركزي الصيني (بنك الشعب)، مرة أخرى ناقوس الخطر خلال كلمة ألقاها في صندوق النقد الدولي. “إبتداء من نيسان (إبريل) الجاري”، أعلن، “أصدرت الصين بيانات بإحتياطي النقد الأجنبي المُقوَّم ب”حقوق السحب الخاصة”، بالإضافة إلى الدولار”. ومضى إلى القول: “سنبحث أيضاً بإصدار سندات مقوَّمة بحقوق السحب الخاصة في السوق المحلية”. بعد سنوات عديدة من الإعلان شهرياً عن قيمة إحتياطاته من العملة الأجنبية بالدولار والرنمينبي، العملة الصينية، بدأ بنك الشعب الصيني الإعلان عن قيمتها بحقوق السحب الخاصة، المؤشر القياسي الذي حدده صندوق النقد الدولي والذي يتكوّن من الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، وبدءاً من تشرين الأول (أكتوبر)، الرنمينبي. وهذا، وفقاً لبيان بنك الشعب، “من شأنه أن يساعد أيضاً على تعزيز دور حقوق السحب الخاصة كوحدة للحساب”.
وقد أثار الاعلان دهشة العديد من مراقبي ومتابعي البنك المركزي الصيني. في غضون أيام، حذّرت صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست” في هونغ كونغ أن التحرك الأخير للبنك قد أكد هدفه الإستراتيجي “لإنهاء هيمنة الدولار الأميركي” و”إقامة نظام مالي عالمي جديد”. وفي مقال للمطبوعة المالية “ماركت ووتش” (مراقب السوق) حاول الباحث والخبير ديفيد مارش أن يوحي بإستراتيجية أوسع نطاقاً: “إن ثاني أكبر إقتصاد في العالم بدأ، عملياً ولكن بثبات، تكريس نظام إحتياطي متعدد العملات في قلب النظام المالي العالمي”.
مارش، مثل العديد من المحلّلين الآخرين الذين يرددون القصة الشعبية ولكن الحائرة والمرتبكة حول إرتفاع قيمة الرنمينبي وإنخفاض قيمة الدولار، قد أساء فهم دور عملات الإحتياط في ميزان المدفوعات العالمي. مهما إعتقدت بكين بأنها تفعل، فإن سياساتها الإقتصادية منذ تسعينات القرن الفائت، في الواقع، عززت دور الدولار كعملة إحتياط. والقيام بغير ذلك من شأنه أن يقوّض التنمية الإقتصادية للصين. في الحقيقة، إن إنخفاض دور الدولار كعملة إحتياط يجعل إعادة التوازن الاقتصادي الصعب الموجود في الصين حالياً – تحويل إقتصادها بعيداً من الإستثمار ونحو الإستهلاك المحلي – عالي التكلفة أكثر من أي وقت مضى.

الإمتياز المريب من الهيمنة

في حين يشكو كثيرون من “الإمتياز الباهظ” الذي تتمتع به واشنطن من الوضع المهيمن للدولار، فإن الإدارة الأميركية تتلقى فعلياً منفعة إقتصادية قليلة وصغيرة جداً وتدفع تكلفة إقتصادية كبيرة جرّاء دور الدولار كعملة إحتياطية في العالم. وقد أصبحت هذه التكاليف أكبر بكثير نتيجة تصويت المملكة المتحدة على الخروج من الإتحاد الأوروبي “بريكسِت” في 23 حزيران (يونيو) الفائت، الذي شهد إرتفاع قوة الدولار فيما أخذ المال الخائف يتدفق إلى بلاد العم سام.
وقبل مناقشة التكاليف، قد يكون من المفيد النظر في الفوائد المزعومة. وهذه الفوائد الأربع هي التي نوقشت على نطاق واسع:
1- خفض تكاليف إقتراض الحكومة الأميركية: إدّعى تقرير ممتاز خلاف ذلك، صدر في العام 2009 عن معهد ماكينزي العالمي بأن “الولايات المتحدة يمكنها جمع المال بسعر أرخص بسبب المشتريات الكبيرة من سندات الخزانة الأميركية التي تُقدم عليها الحكومات الأجنبية والهيئات الحكومية”. هذا يبدو معقولاً في البداية: المزيد من الطلب على السندات الحكومية ينبغي أن يقود إلى رفع أسعارها. ولكن، كما سنرى، تؤدي المشتريات الأجنبية أيضاً تلقائياً إلى زيادة الديون المعروضة بالدولار. ولو لم يكن الأمر هكذا، كان علينا أن نستنتج بعبثية بأن رفع العجز في الحساب الجاري للبلد، الوجه الآخر لفائض حساب راس المال، من شأنه أن يخفض تلقائياً تكلفة الإقتراض للبلد.
2- السماح للأميركيين بالإستهلاك أكثر من طاقتهم: يعني هذا التفسير، كما أوضح خطأ بنك الإحتياطي الفيديرالي في سانت لويس في تقريره في العام 2016، أن “الولايات المتحدة قد أصبحت مُقترضاً صافياً من بقية العالم لأنها تعاني عجزاً مستمراً في الحساب الجاري”. وقد فسّر الأستاذ في جامعة “يال” ستيفن روتش الأمر بشكل آخر: “صنعت أميركا سريرها الخاص. المُتّهم هو عجز توفير كبير؛ إن البلاد تعيش خارج طاقتها على مدى عقود وتقترض بحرية على فائض الإدخار من الخارج لتمويل أكبر إنغماس في الإستهلاك في التاريخ”.
هذا هو تقريباً التخلف بالضبط. نعم، البلدان النامية عادة ما تكون غير قادرة على توفير ما يكفي لتمويل إحتياجاتها الإستثمارية لذا تدير عجزاً في الحساب الجاري. وكان هذا صحيحاً مع الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، التي موّلت أساساً عجزها المملكة المتحدة – والتي وفّرت أيضاً تمويل النقص الأميركي من السلع الإستثمارية والإستهلاكية من فائض الحساب الجاري البريطاني. لكن الإستثمارات الأميركية قد توقفت منذ فترة طويلة من أن تكون مقيّدة بسبب عدم وجود وفورات. اليوم، تدير الولايات المتحدة عجزاً في الحساب الجاري فقط لأن الأموال الأجنبية تتدفق إلى البلاد وتدفع قيمة الدولار صعوداً.
هذه الحاجة ليست مجرد مشكلة أميركية. إن أي دولة ذات عملة تتمتع بمصداقية “تستهلك أكثر من طاقتها” كلما حاولت البنوك المركزية الأجنبية أو المؤسسات الأجنبية تخزين عملتها. ومع ذلك، فإن غالبية البلدان ترفض هذا الإمتياز، وغالباً بسخط، لأنه يدفع ظلماً قيمة عملاتها صعوداً أو يجبرها على أن “تستهلك أكثر من طاقتها”.
3- توفير فوائد رسوم سك العملات: الأوراق النقدية هي قروض فعلية من دون فوائد للحكومة التي تصدرها. قيمة هذه الفائدة، مع ذلك، لا تكاد تُذكر وليست لها أية علاقة بالوضع الإحتياطي. إن أية عملة ذات مصداقية يمكنها التمتع بفوائد رسوم سك العملات – الربح الذي تحققه الحكومة بإصدار العملة. على سبيل المثال، إن إصدار ورقة العملة 500 يورو في 2002 خلق تحوّلاً كبيراً في فوائد رسوم سك العملات للبنك المركزي الأوروبي، فيما حاول غاسلو الأموال وتجار المخدرات وغيرهم إخفاء ثرواتهم بتحوّلهم من إكتناز أوراق العملة ب100 دولار.
4- السماح للولايات المتحدة ببيع الضمان الإقتصادي: بما أن أميركا وسيطة منخفضة المخاطر، تستقبل تدفقات مالية ذات جودة عالية وأموال هاربة عالية المخاطر في أوقات الإستقرار، فإنها تكسب فعلياً علاوة المخاطر التي تُدفع لها خلال فترات عدم الإستقرار. وهذا يخلق قيمة حقيقية سواء بالنسبة إلى الولايات المتحدة والبلدان التي تختار شراء هذا الضمان. ومع ذلك، لا تعتمد هذه القيمة على وضع العملة الإحتياطي مُطلقاً، ولكن على الإستقرار الملحوظ للإقتصاد الأميركي كملاذ آمن.
هذه “الإمتيازات” الأربعة بعبارة أخرى، هي في أحسن الأحوال ضعيفة وعادة مرتبكة وغامضة. في ستينات القرن الفائت، إتهم فاليري جيسكار ديستان، الذي صار في وقت لاحق رئيساً للجمهورية الفرنسية، الولايات المتحدة بممارسة “الإمتياز الباهظ” بعد نقص الدولار في أربعينات وخمسينات القرن الفائت، الذي لم يتم حله إلّا من طريق منح كميات هائلة من العملة الأميركية في إطار خطة مارشال وقرار سياسي خلال الحرب الباردة يسمح لأوروبا بكسب الدولارات من خلال تدابير وقائية. وما يجعل الإنسداد الفكري المستمر للكثير من الأوروبيين غير عاديٍّ هو أن نظرية القطاع الخاص فقط من الإمتياز الباهظ – تدفقات غير مقيّدة لرأس المال الأجنبي إلى الولايات المتحدة – قد سمحت لألمانيا مواصلة السياسات التي شلّت الطلب الألماني، التي، بعد تدمير أوروبا الطرفية، تم حلها الآن داخل الولايات المتحدة فيما يتدفق رأس المال الأوروبي إلى البلاد.
الأسواق المالية المفتوحة والمرنة في الولايات المتحدة تسمح لألمانيا بمتابعة سياساتها التي تُعتبر من بين أكثر السياسات غير المسؤولة في التاريخ الحديث. هذا هو ما يجلبه “الإمتياز الباهظ”، وهذا هو السبب في أن الدولار سيظل العملة الإحتياطية المهيمنة على مدى العقود المقبلة (إلا إذا قررت الإدارة الأميركية نفسها منع أو الحد من مراكمة الأجانب لإحتياطات الدولار).
ولهذا السبب أيضاً لا يمكن لحقوق السحب الخاصة، وحتى للرنمينبي، أن يصبحان عملات إحتياطية مهمة. كثيرون في بكين قد لا يفهمون أن تكلفة وضع العملة الإحتياطي تقوم على تملك الأجانب للطلب المحلي. على الرغم من السياسات الصغيرة الحجم لزيادة حيازات الرنمينبي بين البنوك المركزية الأجنبية، فإن السياسات الإقتصادية في بكين تمنع الأجانب من الإستيلاء على الطلب المحلي الضعيف أصلاً في الصين، وبالتالي الأمر الذي يجعل من المستحيل على حقوق السحب الخاصة أو الرنمينبي أن يصبحان أكثر من عملة إحتياط صغيرة وطفيفة.

الدولار يحكم كل شيء

لمعرفة السبب، ما علينا سوى النظر إلى ممارسة ميزان المدفوعات. إن حقوق السحب الخاصة هي عملة مبنية. إذا إشترى البنك المركزي سندات مقوّمة بحقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، والذي يحوّطها من طريق شراء الكمية المطلوبة من السندات المُقوّمة بالدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني، وقريباً، الرنمينبي، فهذا لا يختلف عن شراء البنك المركزي ببساطة الكمية المطلوبة مباشرة من السندات المُقوّمة بالدولار واليورو والين والجنيه الاسترليني، والرنمينبي. في العام 2009، نشر الموقع الإلكتروني لبنك الشعب الصيني مقالاً شهيراً لتشو الذي سأل فيه: “أي نوع من عملة الإحتياط الدولية نحن بحاجة إليه لتأمين وضمان الإستقرار المالي العالمي، وتسهيل النمو الإقتصادي العالمي؟”. جوابه إقترح تعزيز دور كبير لحقوق السحب الخاصة وقد فُسِّر على نطاق واسع بأنه إعتداء على هيمنة الدولار الأميركي. والغريب هنا هو أنه، إذا كان بنك الشعب الصيني يريد حقاً التعرّض لحقوق السحب الخاصة، فيمكنه الحصول على ذلك بسهولة من طريق شراء تلك العملات على حدة وفقاً للصيغة التي وضعها صندوق النقد الدولي.
ولكنه لم يفعل. بدلاً من ذلك، إشترى معظم سنداته مُقوّمة بالدولار. عندما يختار بنكاً مركزياً شراء أي عملة، فإنه يحدّد أيضاً إتجاه تدفقات التجارة الصافية. إذا إشترى بنك الشعب الصيني عملات أخرى، فإن تلك البلدان ذات الصلة عليها أن تُجاري أو تقابل التدفقات على حساب رأس المال بعجز أكبر في الحساب الجاري، أو فوائض صغيرة، الأمر الذي من شأنه أن يسبب مقاومة في تلك البلدان.
هذه المقاومة، بطبيعة الحال، هي المشكلة. نظراً إلى محدودية المرونة الإقتصادية الكبيرة والنظم المالية غير المُشجّعة، فإن بلداناً قليلة أخرى يمكنها أن تستمر في العجز التجاري الذي يترتب على ذلك، وهي بالتأكيد كانت ستتحرك بقوة ضد الصين للحد من تطور الميزان التجاري غير المواتي. بعبارة أخرى، لقد إختارت بكين شراء دولارات ليس لأنه ينبغي عليها أن تفعل ذلك، ولكن لأنها إذا لم تصدّر رؤوس أموال، فإن البطالة المحلية كانت إرتفعت. وليس هناك بلد آخر غير الولايات المتحدة كان راغباً أو قادراً على تشغيل عجز بهذا الحجم الضخم الضروري.
قد يكون من المفيد النظر في حالة فعلية حصلت. عندما حاول بنك الشعب الصيني شراء ومراكمة كميات من الين في العام 2011، فبدلاً من أن ترحب طوكيو بالفرصة لسرقة بعض “الإمتياز الباهظ” للدولار، فقد طالبت البنك المركزي الصيني بالتوقف عن شراء عملتها وإشترت بالمقابل كميات ضخمة من الدولارات الأميركية، في محاولة، على نحو فعّال، للضمان بأن زيادة حصتها في “الإمتياز الباهظ” قد تحوّلت على الفور إلى الولايات المتحدة.
ولأن وجود فائض في الحساب الجاري، هو حسب التعريف، يعادل الفارق الإيجابي بين مدّخرات البلاد والإستثمار، فإن الفجوة بين الجانبين في اليابان كانت لتضيق بمبلغ يساوي بالضبط مشتريات بنك الشعب الصيني. هنا هو المكان الذي يتعطّل وينعطب فيه “الإمتياز الباهظ”: إذا كانت اليابان بحاجة إلى رأس المال الأجنبي لأن لديها إستثمارات منتجة محلياً لا يمكنها تمويلها لعدم وجود وفورات، فإنها كانت سترحّب بالمشتريات الصينية. ولكن مثل أي إقتصاد متطور، فإن اليابان لم تكن بحاجة إلى رأس المال الأجنبي لتمويل الإستثمار المحلي الإنتاجي.
إذا لم تستطع مشتريات بنك الشعب من الين فرض إستثمارات يابانية، فإن المدخرات اليابانية بحكم الضرورة عليها أن تنخفض في خط مع فائض الحساب الجاري. هناك طريقان يمكن فيهما للتدفقات أن تسبب خفض المدخرات اليابانية. أولاً، إزدهار الإستهلاك المحلي يمكنه أن يسبب إرتفاع عبء الديون اليابانية، والذي لا تريده طوكيو بوضوح. ثانياً، قد ترتفع البطالة اليابانية، وهو أمر أكثر وضوحاً لا تريده اليابان.
بإختصار، ليست هناك وسيلة يمكن من خلالها للإمبراطورية اليابانية الإستفادة من مشتريات بنك الشعب الصيني للسندات المقوّمة بالين. فقط الولايات المتحدة تسمح بمشتريات غير محدودة من السندات الحكومية من قبل البنوك المركزية الأجنبية – ولكن ليس لإنها في مأمن من المشاكل التي تواجهها اليابان وغيرها من البلدان المتقدمة. مثلها، تستطيع أميركا بسهولة تمويل الإستثمارات المحلية المنتجة من دون رؤوس أموال أجنبية، وبالتالي بدلاً من التسبب في إرتفاع الإستثمار المنتج، فإن الإستثمار الأجنبي يتسبب بإنخفاض المدخرات المحلية، الذي يمكن أن يحدث فقط مع إرتفاع عبء الديون أو إرتفاع معدلات البطالة.
في الواقع، إن الإستثمار الأجنبي هو جيد فقط للإقتصاد إذا كان يجلب الإبتكار التكنولوجي أو الإداري اللازمين أو إذا كان هذا الاقتصاد لا يستطيع أن يجمع تمويل الإستثمار المنتج المحلي. وإذا غاب الإثنان – وخصوصاً في الإقتصادات النامية، وليس في بلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة – فإن الإستثمار الأجنبي يفرض دائماً على البلد المتلقي الإختيار بين عبء الديون العالي وإرتفاع معدلات البطالة.
هذه هي المفارقة الكبرى في أعقاب الأزمة المالية العالمية. تريد الصين وروسيا وفرنسا قيادة عملية لتجريد الولايات المتحدة من إمتيازها الباهظ، وواشنطن تقاوم. ومع ذلك، إذا كانت أميركا توَدّ إتخاذ خطوات لمنع الأجانب من حيازة أصول أميركية، ستكون النتيجة إنكماشاً حاداً في التجارة الدولية. إن البلدان ذات الفائض، مثل ألمانيا والصين، سوف تُدمَّر، إلا أن العجز في الحساب الجاري الأميركي سينخفض مع إنخفاض صافي تدفقات رأس المال. وكما هو الأمر حسب التعريف، فإن الزيادة في إستثمارات الولايات المتحدة بدل تحقيق وفورات عليها أن تتقلص. ولأن الإستثمار الأميركي لن ينخفض، والواقع من الأرجح أن يرتفع، فإن الإدخار سيرتفع تلقائياً فيما إنخفاض معدل البطالة يتسبب بإرتفاع نمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل أسرع من الزيادة في الإستهلاك.

هبوط الوفورات

ولكن ماذا عن معدل الإدخار المنخفض للغاية في الولايات المتحدة؟ ألا تستهلك أكثر من طاقتها، كما كتب الإقتصادي ستيفن صامويل روتش، الأمر الذي تركها من دون مدخرات وتعتمد على المدخرات الصينية والأوروبية لتمويل العجز المالي الأميركي؟”. إن السبب الحقيقي وراء العجز التجاري الواسع النطاق والمتعدد الأطراف في الولايات المتحدة”، كتب روتش في نيسان (إبريل)، “هو أن الأميركيين لا يدّخرون”.
هذا هو واحد من الإخفاقات الأساسية في فهم ميزان المدفوعات. على الرغم من أن الأمر قد يبدو غريباً في البداية، ليس التوفير المنخفض في أميركا الذي يمتصه رأس المال الأجنبي، الذي بعدها يفرض على الأجانب تحقيق فوائض في الحساب الجاري. على العكس من ذلك، إن معدل الادخار في الولايات المتحدة منخفض على وجه التحديد لأنه يجب أن يحقق التوازن مع تدفقات رأس المال الأجنبي.
وهذه هي ضرورة حسابية. إذا زاد الأجانب تصدير رأس المال إلى الولايات المتحدة، فإن الفائض من الإستثمار بالنسبة إلى التوفير يجب أن يرتفع بالضرورة لتحقيق التوازن مع الواردات من المدخرات الأجنبية. هذا هو شرط لميزان المدفوعات، والمال الذي يتدفق إلى أميركا في أعقاب صدمة تصويت بريطانيا للخروج من الإتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، سوف يدفع الإدخار في الولايات المتحدة إلى مزيد من الإنخفاض، وربما جزئياً كنتيجة لإرتفاع نسبة البطالة. إن الإستثمارات المنتجة في بلاد العم سام لا تتقيّد بسبب عدم وجود رأس المال – ولم يكن كذلك منذ أواخر القرن ال19 – وحتى فائض المدخرات الذي يصدره الأجانب إلى الولايات المتحدة لا يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإستثمار في البلاد. يجب أن ينخفض الإدخار في الولايات المتحدة بالضرورة، ولا يتم ذلك إلّا من خلال واحدة من آليتين.
الآلية الأولى تحدث خلال الطفرات الإقتصادية، بما في ذلك، أشهرها، في الولايات المتحدة وأوروبا الطرفية قبل الأزمة 2008-2009، حيث أدت تدفقات رأس المال الأجنبي إلى إرتفاع أسعار الأصول، مما جعل الأسر تشعر بأنها أكثر ثراء. وهذا يشجع على زيادة الإستهلاك الذي يتموّل من إرتفاع الديون. وعادة تستوعب السلطات النقدية بكل سرور إرتفاع الديون بسبب إرتفاع الإستهلاك المحلي الذي يولّد فرص العمل التي تحل محل تلك الفرص التي فقدها العاملون في إنتاج السلع القابلة للتداول الذين نزحوا بسبب إرتفاع عجز الحساب الجاري.
خلال الإنكماش اللاحق، الذي يبدأ عندما تصبح أسعار الأصول ومستويات الديون عالية جداً، يأتي دور الآلية الثانية. يجبر إرتفاع الديون وإنخفاض أسعار الأصول الأسر على خفض الإستهلاك الأمر الذي يؤدي بالشركات إلى تخفيض عدد العمال. وبدوره يؤدي إرتفاع البطالة إلى تخفيض التوفير في الوقت الذي يواصل العمال العاطلين من العمل الإستهلاك.
طالما أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة الراغبة والقادرة على تشغيل العجز في الحساب الجاري الذي ينتج من مراكمة الأجانب للدولارات، فإن العملة الأميركية ستكون الوحيدة العملة المهمة الرئيسية للإحتياط العالمي. وطالما تحاول الإقتصادات الأخرى زيادة النمو المحلي أو الحد من البطالة المحلية من طريق رفع الصادرات بالنسبة إلى الواردات، فإن ديون الولايات المتحدة قد تكون أعلى أو أن النمو الأميركى سيكون أقل مع إرتفاع معدلات البطالة. وهذا هو السبب في أن أميركا تحدّ في نهاية المطاف من مراكمة الأجانب للدولارات في إحتياطاتهم.
إذا إضطرت البنوك المركزية إلى إعتماد ومراكمة حقوق السحب الخاصة، فإن الولايات المتحدة سوف تستوعب ما يقل قليلاً عن 42 في المئة من صادرات رؤوس أموال البنوك المركزية، أي ما يعادل حصة الدولار من حقوق السحب الخاصة، في مقابل ما يقرب من الثلثين يجب إستيعابها في الوقت الراهن. وسيضطر الإتحاد الأوروبي إلى إستيعاب ما يقرب من 31 في المئة، والصين، واليابان، والمملكة المتحدة ما بين 6 و11 في المئة.
حتى هذا كبير جداً، مع ذلك. سيكون من الأفضل بكثير إذا تم منع الدول، التي سمحت تشوهات سياساتها الداخلية إنشاء قصور الطلب المحلي، من فرض هذه التشوهات على شركائها التجاريين. ومن المثير للدهشة أن واشنطن لم تتخذ حتى الآن زمام المبادرة للقيام بذلك – وليس من خلال فرض تغييرات مرهقة في القواعد التي تحكم التجارة الدولية، ولكن من طريق فرض ضرائب أو الحدّ من وصول الأجانب إلى سندات الحكومة الأميركية عندما تكون المشتريات مدفوعة في المقام الأول لميزة تجارية.
إن المنطق لا يرحم. فيما الإقتصاد العالمي ينمو بشكل نسبي إلى الولايات المتحدة، فإن المسألة ليست سوى مسألة وقت قبل أن تضطر واشنطن إلى عمل دفاعي. والسؤال الوحيد هو كم من الألم الإقتصادي والبطالة الداخلية مستعدة الولايات المتحدة للتحمل والقبول قبل أن تُقدم على ذلك.
طالما أن الدولار متاح وسهلٌ للحصول على كميات ضخمة شبه غير محدودة منه، فإن البلدان الأجنبية التي تعاني من ضعف الطلب المحلي تستطيع ببساطة شراء دولارات وفرض النقص في الطلب المحلي على شركائها التجاريين. حتى ذلك الحين، لا يهم ما إذا كان بنك الشعب الصيني، أو لم يكن، يحاول تحسين النظرة إلى حقوق السحب الخاصة. إن الأمر تماماً ضد المصالح الإقتصادية للصين لإحلال حقوق السحب الخاصة محل الدولار – ناهيك عن الرنمينبي للقيام بذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى