تونس تبحث عن الترياق من طريق حكومة وحدة وطنية

من سيكون رئيس الحكومة التونسية المقبل، بعد “الإقالة” غير المُعلَنة و غير الدستورية المفاجئة لـ”حبيب الصيد” الذي يتندر بشأنه التونسيون بأنه لم يكن أسداً كما يدل عليه إسمه.

الرئيس الباجي قائد السبسي: ماذا وراء إعلانه الأخير؟
الرئيس الباجي قائد السبسي: ماذا وراء إعلانه الأخير؟

تونس – عبد اللطيف الفراتي

فاجأ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي مواطنيه، خلال برنامج تلفزيوني بُثّ في 2 حزيران (يونيو) الجاري، بالإعلان عن التوجه نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية، على شاكلة الحكومة الأولى التي ألّفها الرئيس التونسي الأسبق الراحل الحبيب بورقيبة إبان حقبة الإستقلال في سنة 1956، لتكون قادرة على حل المشاكل المستعصية التي تواجه البلاد.

حكومة وحدة وطنية أو حكومة وحدة إجتماعية؟

وما لم يقله قائد السبسي هو أنه قرر صرف رئيس الحكومة، بإتجاه (وهذا ما قاله) تأليف “حكومة وحدة وطنية”، تضم أحزاب الإئتلاف الحالي الأربعة، ومستقلين (ربما المقصود وجوه من نظام بن علي من المشهود لهم بالكفاءة التي لم تكن متوفرة في أعضاء الحكومة الحالية من وجهة نظره) واتحاد رجال الأعمال وخصوصاً إتحاد النقابات العمالية، بقصد إشراك المركزية النقابية، في مسؤولية الحكم، وتخفيف حدة مطالباتها التي آلت إلى زيادة في الأجور بمقدار 90 في المئة خلال 5 سنوات في القطاع العمومي وحده، ما ناءت به موازنة الدولة وجعلتها تلجأ إلى القرض الخارجي لتسديد المرتبات، كما وترشيد حركة إضرابات يقول إنها خربت إقتصاد البلاد.
غير أن اتحاد النقابات العمالية القوي، وإن قبل بمبدأ حكومة الوحدة الوطنية، فإنه أعلن أنه ليس معنياً بأن يكون ضمنها، ما يعني أنه يرفض أي إلتزام بعقلنة التحركات الاجتماعية.

بلاد بلا حكومة حقيقية؟

باتت حكومة الصيد بمثابة حكومة تصريف أعمال، ليس لها من قرار، أو يد فاعلة للمستقبل، والصيد الذي جاء به رئيس الجمهورية بعد إنتخابه في موقع الرئاسة أواخر 2014، من خارج حزبه “نداء تونس”، هو رجل إداري جيد، لكن تنقصه في الوقت عينه “كاريزما” ضرورية لرئيس حكومة في نظام شبه برلماني، أي تتجمع بين يديه غالب السلطات، ومسؤول أمام البرلمان وليس أمام رئيس الجمهورية كما في الأنظمة الرئاسية؛ إضافة إلى أنه ليس خطيباً ولا رجل إتصال يفرض حضوره، فضلاً عن قلة قدرته على السيطرة على أعضاء حكومته المنتمين إلى أربعة أحزاب منها حزب “النهضة” الاسلامي.
وإذ يعود إختيار رئيس الحكومة إلى الحزب الفائز بالمرتبة الأولى ، وليس بالأغلبية ، فإن الباجي قائد السبسي، هو الذي أوحى لحزبه الفائز معه في إنتخابات الرئاسة والبرلمان، بترشيح الحبيب الصيد الذي كان وزيره للداخلية في الحكومة الموقّتة، التي شكلها بعد “الثورة” في 2011، رغم بعض التململ في صفوف قيادات الحزب التي كانت ترى أن الأولى أن يكون مرشح رئاسة الحكومة من الحزب الفائز، غير أن قائد السبسي فضّل إختيار الحبيب الصيد في بدايات 2015 أولاً لأنه طوع أمره، وثانياً تجنباً لإهتزاز في “نداء تونس” المؤسس في ذلك الحين قبل عامين، والذي لم تكن قياداته منتخبة، بحيث يمكن أن تفرز من بين أعضائها من ينال ثقة الجميع.
وقد قيل حينها ، أن الباجي بشخصيته القوية، وتربيته على يد بورقيبة المتسلّطة، لم يكن يقدر على التعامل مع رئيس حكومة لا يكون موالياً، فيما السلطات الحقيقية حسب دستور 28 كانون الثاني (يناير) 2014 ، تتجمع في يد رئيس الحكومة المسؤول أمام البرلمان.
وخلال 14 شهراً من “حكم” حبيب الصيد إضطر إلى القيام بتعديل وزاري واسع، عدا تعديلات أقل أهمية، كما إضطر إلى الخضوع “لأوامر” حزب “النهضة” بإقالة وزير الشؤون الدينية عثمان بطيخ ، كل ذلك بعدما كانت الحكومة الأولى التي شكلها قد لاقت صعوبات في القبول، عند الاعلان عنها ما إضطره إلى تغييرها، والإستغناء عن كفاءات حقيقية لا يحبها هذا الحزب أو ذاك، من الأحزاب الأربعة المؤتلفة، وسيقول المراقبون أن تلك الحكومة لم تقم على برنامج مُحدّد بل قامت على توافقات ومحاصصات حزبية بين الأحزاب الأربعة، مما أهّلها للدخول في جدار وفشل ذريع، في بلد يواجه مشاكل اقتصادية واجتماعية مستعصية على الحل، وكما قال أحد المراقبين ومن كبار الاقتصاديين إن موازنة الولايات المتحدة لا تقدر على حل مشاكل تونس ما دامت المطلبية عالية جداً.

مطلبية عالية وإنتاجية في الحضيض

وما دام الناس لم ينصرفوا إلى العمل، وما دامت الإضرابات سواء التي ينظمها إتحاد النقابات أو تلك التي يسكت عنها ويؤيدها من طرف خفي رغم عدم قانونيتها، متمادية، بالصورة التي بلغ فيها الفاقد الناقص من مداخيل الفوسفات والبترول والسياحة، يكاد يصل إلى حجم القروض التي إقترضتها تونس من الخارج، خلال السنوات الأخيرة ، لسداد أجور متفاقمة أو ديون حل أجلها أصلاً وفوائد، من دون أن تكون قد أسهمت في زيادة الثروة، بما أثقل كاهل البلاد من دون أن يكون هناك حل آخر أمام حكومات عرفت منذ 2010 نسبة النمو تذوب عاماً بعد عام، لتتوقف عند 0.8 في المئة في العام 2015 أي السنة الأولى من حكم السبسي – الصيد، وكل المؤشرات تدل على أنها لن تبلغ بحال 2 في المئة المقررة للعام 2016، فيما إن النسبة الضرورية للبدء بحل مشكل البطالة المتفاقم لا يقل عن 5 أو 6 في المئة ، للبدء بإمتصاص مخزون من البطالة يقدر بـ600 ألف عاطل من العمل من بينهم 240 من الحاصلين على شهادات عليا غالبها فاقد القيمة العلمية. وفي وقت باتت الحكومة خاضعة لإبتزازات نقابية، تقوم على إرادة المشاركة في التسيير الإداري على غرار ما هو جار في وزارتي الصحة والتعليم من رفض تعيينات معينة.
وللواقع فإن كثيراً من المراقبين كانوا متفقين منذ 2014/2015 على أن الصيد لم يكن الرجل المناسب، على نزاهته وكفاءته الإدارية العالية بسبب ضعف “الكاريزما” عنده، وافتقاره للقدرة الخطابية، وخصوصاً إفتقاده الرؤية والبصيرة وقوة الشخصية لدفع فريق حكومي هو أصلاً غير متجانس.

رهان السبسي هل ينجح في رفعه؟

دخل السبسي في رهان لإعطاء نفس جديدة لولايته التي مر على بدئهــــــا عام ونصف العام، والتي اتسمت بفشل ذريع لم يتحدث عنه صراحة في خطابه في 2 حزيران (يونيو)، و هو فشل يتحمل إلى حد كبير مسؤوليته، ولكن السؤال هو: هل سينجح في قلب المعادلة لفائدته، والشعبية التي انطلق بها رئيساً آخذة في التآكل وفقاً لعمليات إستطلاع الرأي؟
ليست هناك مؤشرات إلى أن مفاجأته قد حققت أهدافها، وخصوصاً الهزّة النفسية التي أرادها، مما يدفع للتساؤل عما إذا كان سيترك حكومة الصيد تواصل طريقها المتعثّر، ولعله من الغريب أن رئيس الحكومة لم يقدم إستقالته خلال جلسته الأسبوعية مع رئيس الجمهورية في 6 حزيران (يونيو) بعدما كان تلقى صفعة شديدة من رئيس الجمهورية على الأقل بإعلامه بما ينوي الاعلان عنه، وبعدما بدا أنه لم يعد يتمتع بثقته، وهي الثقة التي أهلته ليجلس في منصب رئيس الحكومة، وهي أيضاً ثقة للواقع غير ضرورية وفقاً لمقتضيات الدستور، ولو كان شخصاً آخر غير الصيد لتحدّى رئيس الجمهورية على إعتبار أن مبادرته غير دستورية، فليس له أن يعلن عن تغيير الحكومة، والبرلمان وحده هو القادر على سحب الثقة من الحكومة وأعضائها.
وتجاوزاً لكل هذا، وللنواحي التي يبدو أن رئيس الجمهورية ومستشاريه يعتبرونها شكلية، فمن هو رئيس الحكومة الذي سيأتي بعد الصيد، إن نجح رئيس الجمهورية في إزاحته، وكل المؤشرات تدفع للإعتقاد بإحتمالات نجاحه، على الأقل لنيل فترة سماح جديدة.

من سيكون رئيس الحكومة الجديد؟

هل سيكون رئيس الحكومة الجديد من حزب “نداء تونس” المتشظي والذي كما قال أحد الصحافيين عنه أنه “كان صرحاً فهوى”، وما بقي من الحزب يعلن صراحة، متحدّياً رئيسه السابق الباجي قائد السبسي، بأنه لا بد أن يكون من بين صفوفه، الأمر الذي قد يؤدي إلى معركة جديدة ستنطلق شرارتها ولا شك، إذا كان الاختيار من صفوف حزب الرئيس، الذي بات تحت سيطرة نجله حافظ قائد السبسي، في عملية توريث غير شعبية مطلقاً.
أم أن عين رئيس الجمهورية على أحد الأسماء الكبيرة من النظام السابق التي برهنت على كفاءاتها العالية، وقدرتها على التسيير، وهي تتمتع بالرؤيا والبصيرة والجرأة والمعروفة بنزاهتها الذاتية ومعرفتها بدواليب الإدارة من أمثال مصطفى كمال النابلي ومنذر الزنايدي وكمال مرجان وغيرهم، ولمَ لا يتم إختيار الوزير الأول الأسبق الناجح زمن بن علي محمد الغنوشي الذي لا يبدو أنه يرغب في العودة إلى النشاط السياسي، وقد إنكفأ على نفسه بعد إستقالته من الحكومة في شباط (فبراير) 2011 ، والمعروف بأنه إقتصادي كبير، وليس سياسياً.
في الوقت عينه هناك سؤال مطروح، ماذا سيكون مصير الوزراء الثلاثة الأكثر شعبية في حكومة الصيد: وزير التعليم ناجي جلول، ووزير الصحة سعيد العائدي ، ووزير الشؤون الإجتماعية محمود بن رمضان التي تطالب برؤوسهم النقابات العمالية وحركة “النهضة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى