التعَصُّب الديني في دول الخليج العربي “يُؤجِّج” سوء معاملة الوافدين

على الرغم من التطور والتقدم اللذين حققتهما دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها لم تستطع حتى الآن الوصول إلى تحقيق “العدالة الدينية” بالنسبة إلى الوافدين للعمل في ديارها وخصوصاً المسيحيين منهم. التقرير التالي يناقش هذا الموضوع في العمق.

مهاجران مسيحيان يحتفلان بزفافهما في أبو ظبي
مهاجران مسيحيان يحتفلان بزفافهما في أبو ظبي

بيروت – الدكتور هلال خشّان*

الإهتمام في وضع المسيحيين في الشرق الأوسط ركّز بشكل كبير على نوعية حياتهم في المشرق العربي ومصر وجنوب السودان، وهي المناطق التي كانت ذات غالبية مسيحية قبل ظهور الإسلام والتي لا تزال أقليات مسيحية كبيرة تعيش فيها. على النقيض من ذلك، كان هناك القليل من الإهتمام في وضع المسيحيين في شبه الجزيرة العربية، التي لم يكن فيها وجود مسيحي أصلاً في العصور الإسلامية.
مع ذلك، فإن الطفرة النفطية في سبعينات القرن الفائت ولّدت طلباً هائلاً على العمالة الأجنبية في دول الخليج الريعية. والذي لا يثير الدهشة، أن مجموع العمال الضروريين واللازمين لدفع الإقتصادات الناشئة في دول الخليج كان لا بدّ أن يشمل أعداداً كبيرة من المسيحيين. وهناك الآن أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص من المسيحيين الوافدين العاملين في دول مجلس التعاون الخليجي الست (المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، الكويت، سلطنة عُمان، قطر، والبحرين) معظمهم من الكاثوليك الذين أتوا من الفلبين والهند وباكستان. وفيما تتزايد أعدادهم بإطراد، فقد أصبح السؤال عن هل أو كيف – أو متى – سيسمح لهم بممارسة دينهم علناً قضية مهمة.

الوضع الحالي للمسيحية العربية

في الغرب، كانت حرية العبادة التي يختارها الشخص في أي إتجاه قيمة أساسية على الأقل منذ أواخر القرن الثامن عشر. وعلى الرغم من ثبات قيود معاداة الكاثوليكية واليهودية في أوروبا أو أميركا الشمالية، فإن المسار العام كان واحداً يتميّز بتزايد التسامح مع طرائق ومذاهب الإيمان. ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو أيضاً واحدٌ من الأقدم: التعديل الأول للدستور الأميركي، الذي حظّر على الحكومة الإتحادية ممارسة أي دين.
بسبب طبيعتها المتأصّلة في إطار مجتمعاتهم، يميل الغربيون إلى إنتقاد المجتمعات الأخرى التي لا تشاركهم الأخلاقيات عينها. مع ذلك، نظراً إلى أهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلى مصالحهم الإستراتيجية والاقتصادية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد غضوا الطرف عنه حيث خلقوا فجوة واضحة بين الإعتقاد في حرية الدين والتفاعل مع أولئك الذين انتهكوا بشكل صارخ هذا المبدأ. إلا أنه بعد هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 و”الحرب على الإرهاب” المُصاحِبة بدأ تعصّب المسلمين ضد أتباع الديانات الأخرى يتعرّض إلى مزيد من المراقبة والتدقيق.
وبالتالي، يرثي مقال إفتتاحي في صحيفة “الغارديان” البريطانية (25 كانون الأول (ديسمبر) 2014) بأن المسيحيين في دول مجلس التعاون الخليجي هم تقريباً “خدم، يُعامَلون برجس وعلى نحو بغيض. يجب عليهم أن يمارسوا دينهم في السر، مع تهديد المعتنقين الجدد بالقتل”. وذهب كاتب آخر يدعى ستيفان شتاين إلى شرح الأهمية العاطفية لهذا الحرمان من حق أساسي من حقوق الإنسان: “معظم المسيحيين الذين أتوا إلى هنا فعلوا ذلك من أجل العثور على عمل في الأراضي العربية، ونتيجة لذلك، فإن معظمهم يعيشون وحيدين، بعد أن تركوا زوجاتهم وأسرهم في وطنهم. ونتيجة لذلك تمثّل الرعية، وكذلك إيمانهم الكاثوليكي، قطعة من الوطن بالنسبة إليهم”.
وتُعتبر قضية رفاهية المسيحيين في المملكة العربية السعودية ضاغطة ومُلحّة على وجه الخصوص لأن الحكومة هناك تحظّر ممارسة كل الشعائر الدينية غير الإسلامية جنباً إلى جنب مع النفور من المذاهب الإسلامية غير الوهابية.
ومع ذلك، فإن مسألة عدم وجود حق للمسيحيين غير المرتبط بالحرية الدينية هي في كثير من الأحيان مموّهة من قبل رجال الدين المسيحيين أنفسهم الذين يخشون إستعداء السلطات في الخليج. لقد صرح القس أندرو تومبسون، الراعي الأعلى لكنيسة “سانت أندرو” في أبو ظبي، بشكل مدهش إلى صحيفة محلية (غولف نيوز) أنه “من الأسهل أن أكون مسيحياً هنا (في أبو ظبي) من أن أكون مسيحياً في المملكة المتحدة”. وحسب تصريح “بيل شوارتز”، راعي الكنيسة الأنغليكانية في الدوحة لوكالة “رويترز” في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2010: “في الخليج، بإستثناء المملكة العربية السعودية، إن المواقف الحكومية تمثّل تسامحاً دينياً وليست حرية دينية”.
إن نشر الإنجيل من خلال النشاط التبشيري هو أيضاً تقلّص بشدة بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وقد تناول روي فيريبس، المسؤول عن الكنيسة الإنجيلية المسيحية المتحدة الجنوب أفريقية في دبي، بلغة ديبلوماسية: “نحن نحترم ونعمل ضمن الحدود التي وضعوها لنا”، مشيراً إلى أن كنيسته ليست لديها مشكلة مع أعضائها للتحدث للآخرين عن المسيحية بصفتهم الخاصة. وفي البحرين، تسمح السلطات للكهنة قضاء بعض الوقت مع العمال المسيحيين الذين يعيشون في مواقع العمل والصلاة معاً. ومع ذلك، “يُمنع منعاً باتاً أي شكل من أشكال التبشير المسيحي بين المسلمين في كل مكان [في دول مجلس التعاون الخليجي]”، على حد قول شتين.
من ناحية أخرى، إن النقص الحاد في الكنائس لإستيعاب الإحتياجات الروحية للعديد من الطوائف المسيحية في دول مجلس التعاون الخليجي هو أمر خطير آخر. في حين أن مشكلة مساحة الكنيسة موجودة في كل مكان في منطقة الخليج، فإن المثال التالي يشير إلى حجمها. كل يوم جمعة في مدينة الكويت، ينحشر أكثر من 2000 مسيحي داخل كنيسة العائلة المقدسة التي تتسع ل600 مقعد فقط أو الإستماع من الخارج للقداس الذي يُنقَل عبر مكبرات الصوت، الأمر الذي يجعل الأسقف الكاثوليكي، كاميلو بالين، في قلق دائم من التدافع كما قال ل”رويتر”: “إذا حدثت حالة ذعر، فسوف تقع كارثة … إنها معجزة بأن شيئاً لم يحدث حتى الآن”.
القيود على عدد من الكنائس المسموح بها والقيود المفروضة على دخول رجال الدين المسيحيين تعيق قدرة الكهنة لخدمة رعاياهم على نحو كاف لأن كل واحد منهم عليه إجراء قداديس عدة في عطلة نهاية الأسبوع، والعديد من الأبرشيات أيضاً تقع محطاته على مسافات بعيدة جداً. يقوم عمل الكاهن قبل كل شيء على خدمة الأسرار هذه، بالإضافة إلى الإحتفال بالقداس، هناك أيضاً التعميد والزواج والجنازات.
وأشار المطران بول هندر، الذي يشرف على الكنائس الكاثوليكية في دول مجلس التعاون الخليجي واليمن، إلى دور المتطوعين العلمانيين في الحفاظ على إستمرار الكنيسة: “إنها كنيسة تقوم على أكتاف العلمانيين”.

مفاهيم إسلامية عن التسامح الديني

ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا المأزق؟
بالنسبة إلى المسلمين لا إله إلّا الله. هذه هي العدسة التي من خلالها (ينظرون إلى) أو يُفسّرون كل الديانات الأخرى، وهذا الرأي يفسّر لماذا لا يفهم العديد من المسلمين المسيحية. بالنسبة إليهم، القرآن هو كلمة الله النهائية. وعلى العموم، فإن المسلمين قد يتساهلون في منح بعض الحرية للمسيحيين لكي يمارسوا شعائرهم الدينية في إطار عمل “المجتمعات المحمية” من الناحية القانونية، والأدنى مؤسسياً (أهل الذمة)، ولكن لا يجب أن يُعطى الإيمان المسيحي الفرصة لكي يزدهر.
إن المسيحية في القرآن تورّطت في نقاش حول طبيعة المسيح، تاركةً الإنطباع بأن أتباعها إختلفوا في الواقع حول تكوين إيمانهم. ونتيجة لذلك، إعتبر المسلمون الأوائل المسيحية تفسيراً كافراً لطبيعة يسوع، الذي يرد في القرآن كنبي ولكن ليس إبن الله. وإستمر هذا التصوّر ولم يفقد شيئاً من حدّته.
التعددية الدينية كما فهمها الغرب لا توجد في أي مكان في منطقة الخليج، والصبر المحدود ربما كان أفضل ما يمكن للمسيحيين أن يأملوا به في هذه البلدان المحافظة جداً. ومع ذلك، على الورق، تمارس دول مجلس التعاون الخليجي التسامح الديني. وبالتالي، فقد إعتُبِرت سلطنة عُمان واحدة من أكثر الدول تسامحاً في شبه الجزيرة العربية. إن العبادة المسيحية محميّة من خلال القانون الأساسي لذلك البلد، الذي يحظّر التمييز على أساس الدين ويعتبر تشويه سمعة أي دين جريمة جنائية. وبالمثل، فإن الدستور الكويتي ينص نظرياً على توفير الحرية الدينية. ولكن الواقع يروي قصة مختلفة. في العام 2014، وفقاً للأرقام الرسمية، بلغ عدد السكان الأصليين في الكويت نحو 1.2 مليون من إجمالي السكان البالغ عددهم 4 ملايين، في حين بلغ عدد المسلمين المغتربين 1.8 مليون والمسيحيين المغتربين حوالي 700،000 (ينتمي السكان المتبقين إلى عدد من الأديان الأخرى). ومع ذلك، فإن الإمارة لديها أكثر من 1000 مسجد وسبع كنائس فقط؛ كما أن الحكومة تفرض نظام الحصص على عدد رجال الدين والعاملين في الكنائس، وتضغط على الكويتيين للإمتناع عن تأجير الشقق أو الفلل لإستخدامها ككنائس غير رسمية.
وبالمثل، فإن المادة 32 من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة تكفل “حرية ممارسة الشعائر الدينية … وفقاً للعادات المرعية وشريطة أن لا تتعارض مع السياسة العامة أو تنتهك الآداب العامة”. وهذا التحذير النهائي – “شريطة أن لا تتعارض مع السياسة العامة أو تنتهك الآداب العامة” – هو شرط حاسم؛ ومع ذلك، فإنه يقلب الأحكام الدستورية على رؤوسها. حتى في الدول التي يديرها حكام مستبدون — أو ربما على وجه التحديد لأنه يحكمها مستبدون – فإن الرأي العام في هذه المسائل يعوَّل عليه كثيراً. في دولة الإمارات العربية المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، إن قدرة الحكومة على منح الحرية الدينية الحقيقية للمسيحيين محدودة جداً بسبب أن شعوبها الورعة لا تزال غير مرتاحة لمثل هذه الحريات. في الواقع، في حين أن المملكة العربية السعودية تبرز بإعتبارها الدولة الخليجية الوحيدة التي علناً لا تتسامح مع التنوع الديني، فإن لفتة العام الماضي لولي عهد أبو ظبي، الحاكم الفعلي للبلاد، الشيخ محمد بن زايد، في منح قطعة أرض لبناء معبد هندوسي هي مظهر فريد من البراغماتية لا تُظهر بالضرورة موافقة شعبية عامة.

الطوائف المسيحية الأصلية والمستوردة

هناك عامل آخر مهم يشرح موقف دول مجلس التعاون الخليجي بالنسبة إلى التعددية الدينية في شبه الجزيرة العربية، هو انه حتى وقت قريب نسبياً كان هناك عدد قليل من غير المسلمين الذين يمكن أن يواجههم أو يلتقي بهم السكان. التقليد الإسلامي يفيد أنه، قبل وقت قصير من وفاته، أعرب النبي محمد عن الرأي القائل بأنه يجب أن يكون هناك دين واحد في شبه الجزيرة العربية فقط، ألا وهو الإسلام. وبينما صمدت جيوب قليلة من غير المسلمين لفترة من الوقت — يهود خيبر ونصارى نجران، قرب اليمن – بعد وقت قصير من وفاة النبي محمد، فقد قيل بأن واحداً من خلفائه الفوريين، الخليفة عمر، قد أنهى المهمة. سواء جرى القضاء على غير المسلمين في شبه الجزيرة العربية بالضبط بهذا الشكل هو أقل أهمية من الواقع، وهو أن هناك عدداً قليلاً من المسيحيين الأصليين في الخليج العربي بإستثناء ربما مئات عدة في الكويت وسلطنة عُمان والبحرين.
إن التاريخ الحديث للمسيحية في الخليج العربي يعود الى 1893 عندما وصلت مجموعة من المسيحيين إلى عُمان وإشترت مبنى كبيراً مع قطعة أرض حصلت عليها كهدية من السلطان. هذه المجموعة التي تضم أعضاء من الكنيسة الإصلاحية الأميركية، جاءت لأغراض تبشيرية. كما أن كنيسة القديسين بطرس وبولس الكاثوليكية تأسست هناك فقط في العام 1977، تلتها كنائس أرثوذكسية، وسريانية أرثوذكسية، وقبطية.
من جهتها تدّعي البحرين بأن أقدم كنيسة في منطقة الخليج قد قامت على أراضيها. لقد شُيدت الكنيسة الإنجيلية الوطنية في العام 1906 على أيدي مبشرين إنجيليين تابعين للكنيسة الإصلاحية في أميركا.
في الكويت، يعود بناء الكنيسة الإنجيلية الوطنية إلى العام 1931. وبنيت كنيسة قبطية في العام 1958، ثم تبعتها في وقت لاحق كنيسة أرمنية. حتى هذا الوجود المسيحي المحدود كان لسنوات عدة هدفاً للمعارك السياسية الشرسة بين أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح والإسلاميين. لقد نشأت الوهابية السلفية في الكويت بعد حرب الكويت ونجد في 1919-1920؛ وعلى الرغم من أنها حركة أقلية، فإنها تتمتع بنفوذ كاف لإبطاء إنتشار التسامح الديني في الكويت.
ما لا يقل عن ثلثي المسيحيين في مجلس التعاون الخليجي يعملون في المملكة العربية السعودية حيث تم قطعهم تماماً عن أي إتصال مع الكنيسة أو ممثليها من رجال الدين. وتدّعي تقارير غير مؤكدة أن هناك الآلاف من المتحوّلين إلى المسيحية في المملكة الصحراوية الذين لا يستطيعون المُجاهرة بدينهم الجديد ونبذ الإسلام خوفاً من العقاب الذي هو الإعدام في هذه الحالة.

آثار في المجتمعات الخارجية

على الرغم من عدم وجود واضح في منطقة الخليج للعلاقة بين التعصب الديني وإساءة معاملة العمال المهاجرين، فإن حقيقة أن العديد من الأجانب في المنطقة غير مسلمين ومن أدنى الدرجات الإجتماعية والإقتصادية من المرجح أنها تلعب دوراً في موقف السلطات بالنسبة إلى مفاهيم التعددية الدينية. إن إساءة معاملة العمال الوافدين واسعة الإنتشار في دول مجلس التعاون الخليجي، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم. في دول الخليج، لا علاقة لإساءة المعاملة بالدين على الرغم من أنها قد تتداخل مع التعصب الديني في بعض الأحيان.
في الحقيقة، ربما يكون من الأسهل بكثير المطالبة بقدر أكبر من حرية العبادة للمسيحيين في دول الخليج من المطالبة بالحد من إساءة معاملة العمال الأجانب، بغض النظر عن دينهم، لأن مثل هذا السلوك مترسّخ ثقافياً في تراث العبودية عند العرب. خلال فترتها الإمبريالية في الخليج العربي، إنقسمت الحكومة البريطانية بين السياسة الليبرالية والمصالح الإقتصادية التي “تميل عموماً إلى تسهيل مؤسسة الرق في شرق الجزيرة العربية”. وبينما ألغيت العبودية في نهاية المطاف في معظم دول الخليج، فقد بقيت حتى العام 1964 في المملكة العربية السعودية وحتى العام 1970 في عُمان، ولا تزال ثقافة العبودية تسود المنطقة، وخصوصاً في السعودية حيث أنها “محبوكة في النسيج النفسي للمملكة”، على حد قول الكاتب غراهام بيبلز في كتابه عن العمال المهاجرين في المملكة العربية السعودية. وفي واحدة من الحلقات الكثيرة التي لا تُحصى من سوء المعاملة، روى عمال كينيون يعملون في المنازل في المملكة العربية السعودية قصصاً مزعجة عن سوء معاملتهم تراوحت بين الحرمان من الطعام والنوم إلى سوء المعاملة الجسدية والتحرش الجنسي (وفقاً لأخبار “بي بي سي” في 1/09/ 2015).
ينفي مسؤولون في مجلس التعاون الخليجي بإستمرار تهمة إساءة المعاملة ويعتبرونها دعاية رخيصة، ولكن نظراً إلى الرقابة الحكومية الصارمة في الدول الخليجية، التي أعاقت طويلاً وسائل الإعلام والصحافة المحلية والصحافيين، فليس هناك شك في أن المدى الكامل لإساءة المعاملة هناك هو طي الكتمان بشكل جيد، وبأن العمال المهاجرين سوف يستمرون في إغراق سوق العمل في دول الخليج للمساعدة على نزع فتيل الضغوط عنها للتعامل مع هذه القضية.
ومع ذلك، يحرص المسؤولون الخليجيون على تجنب الصراعات مع الغرب بشأن قضايا إساءة المعاملة وكذلك الحرية الدينية. وعلى الرغم من بعض إشارات الإستياء بين السكان المحليين، فقد حاولت القيادة القطرية خلال السنوات القليلة الماضية تعزيز صورة الدولة الحديثة، وبناء المدينة التعليمية في قطر (في العام 1997) ورعاية الأحداث الرياضية الكبرى في حملة للحصول على مكانة على خريطة العالمية. وهكذا، عندما فتحت قطر كنيسة سيدة الوردية في العام 2008، فقد أعرب مسؤول حكومي عن أمله في أن “يبعث ذلك برسالة إيجابية إلى العالم”. وهذا، بالتأكيد، لم يمنع الإمارة من رصد أنشطة الكنائس المسيحية عن كثب، ومنعها من الإعلان عن الخدمات الدينية ولكن عدم منعها بشكل قاطع. في خطوة مماثلة نحو التطبيع والتحديث، أقامت دولة الإمارات العربية المتحدة علاقات ديبلوماسية مع الكرسي الرسولي في العام 2007. ووفقاً لزعماء مسيحيين، تكافح الحكومات الخليجية من أجل تحقيق توازن بين إحتياجات الجاليات الأجنبية المتزايدة ومطالب مواطنيها المحافظين.
وهناك مثال صارخ لهذا الصراع يمكن أن يُنظَر إليه في فتوى مثيرة للجدل صادرة في العام 2012 عن مفتي السعودية، الشيخ عبد العزيز الشيخ، التي تدعو إلى تدمير جميع الكنائس في شبه الجزيرة العربية. بإستثناء إدانة ضئيلة من المسيحيين العراقيين واللبنانيين والمصريين، لاذ المسؤولون العرب بالصمت حيال هذه المسألة الخطيرة. “كيف يمكن أن يصدر المفتي بياناً بمثل هذه الأهمية من وراء ظهر ملكه؟” كانت إستجابة ساذجة من قبل الأساقفة المسيحيين في ألمانيا والنمسا وروسيا. والجواب هو ان العائلة المالكة السعودية تسترضي دائماً المؤسسة الدينية القوية في البلاد لأن رجال الدين الوهابيين يزوّدونها بالشرعية الدينية التي تحتاجها للحكم.
لكن المعارضة لبناء الكنائس والمدارس المسيحية ترتبط أيضاً بنظريات المؤامرة. إن بناء الكنائس تحت شعار حرية العبادة ينظر إليه الخليجيون بعين الريبة لأنه كثيراً ما إعتقدوا بأن الغربيين يتطلعون إلى تنفير المسلمين من الإسلام من طريق فتح المدارس التبشيرية في بلدانهم. ويخشى المعارضون من أن بناء الكنائس سيعزز قبضة المبشّرين المسيحيين، وبالتالي منع إنتشار الإسلام بين العمال الأجانب في حين يقومون في وقت واحد بزرع الإرتباك والشك في أذهان سكان الخليج حول المعايير والقيم الإسلامية.

الإستنتاج

تبذل دول مجلس التعاون الخليجي جهداً كبيراً لتعزيز الثقافة الشعبية على أساس الدين والتراث كوسيلة لتأكيد السيادة والشرعية السياسية على حد سواء. إن دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، أسست سلطتها السياسية على عقد إجتماعي متجذّر بعمق يرسّخ العلاقات بين القادة والمواطنين مع تقاليد أصيلة وأعراف. ويشير هذا الأمر إلى الحفاظ على العادات والقيم العريقة التي تستند على النقاء العرقي والتوحيد الديني. وقد أخذت المملكة العربية السعودية هذا الإضفاء الشرعي الديني إلى خطوة أبعد من خلال زعمها بأن القيادة الإسلامية تتمحور حول وصايتها وحمايتها لإثنين من أقدس المواقع الاسلامية.
من ناحية أخرى، إن تدفق العمال الأجانب إلى دول الخليج — يتراوح ما بين 50-90 في المئة من مجموع السكان– يشكل تهديداً خطيراً لمستقبل النظام الإجتماعي للسكان الأصليين من خلال تقويض القيم التقليدية التي توفر الركيزة الأساسية لشرعية النظام. وتدّعي الرياض أن العمال الأجانب هم أقل من ثلث السكان. ومع ذلك، فإن الدراسات الإحصائية السنوية السعودية مُضللّة. إن أحدث رقم لعدد سكان البلاد يضع المجموع في حدود 30.8 مليون نسمة، بمن في ذلك 33 في المئة من العمالة الوافدة (حسب أراب نيوز – جدة). إن تقديرات السكان السعوديين لا تشير إلى المُعالين من المهاجرين أو العمال غير الشرعيين. إن توسع الإقتصاد السعودي يعتمد “حصرياً على جهود العمال الأجانب، والذين تميل الإحصاءات الرسمية إلى التقليل منهم بشكل فاضح”. ومن غير المحتمل أن يكون قد خطر في بال قادة دول مجلس التعاون الخليجي أن القوى العاملة الأجنبية ستصبح سمة دائمة، وإن كان في الجزء السفلي، من الفسيفساء الديموغرافية.
والحقيقة هي أنه على الرغم من الإشارة الغريبة إلى تمديد الجنسية ومنحها إلى المغتربين، فإنه لا توجد أي نية لدمجهم، ناهيك عن إدخال المسيحيين في نسيج المجتمعات الخليجية. وليست هناك عملياً أي فرصة بأن المملكة العربية السعودية سوف تسمح ببناء كنائس في المملكة لأن ذلك يحمل في طياته خطر تقويض الشرعية التقليدية القائمة على أساس ديني لسلالة آل سعود، والتي بدأت تظهر عليها بوادر التآكل.
علاوة على ذلك، طالما تحتفظ القيادة المسيحية المحلية بنهجها الجبان، فإن عدم وجود ضغط خارجي سوف يُبقي فقط على الوضع الراهن كما هو. وأفضل مثال على هذا النهج إستجابة كاميلو بالين لدعوة عضو في البرلمان الكويتي لتدمير الكنائس القائمة: “ليس لديك أي شيء للخوف منا. نحن شركاء في الحياة. ونحن نحترم قوانينك وتقاليدك”.
وفي مكان آخر في دول مجلس التعاون الخليجي، سوف تستمر النخب الحاكمة في توسيع لفتات متوازنة من النوايا الحسنة تجاه غير المسلمين، ولكن سيكون من الوهم أن نتوقع منها تجاوز تصورها التقليدي بأن المسيحيين ذميون وبالتالي منحهم حق ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ناهيك عن كامل الحقوق السياسية والمساواة.

• الدكتور هلال خشان أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى