ماذا يعني رأس المال للبنوك الأميركية؟

تلعب البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة بشكل سريع وفضفاض مع ما يشكل “النقد في الصندوق” في حالة وقوع أزمة. ولكن هناك عبارة أفضل لهذا: وصفة لكارثة.

الرئيس باراك أوباما يوقع قانون "دود – فرانك" أمام صانعيه وأعضاء الكونغرس
الرئيس باراك أوباما يوقع قانون “دود – فرانك” أمام صانعيه وأعضاء الكونغرس

واشنطن – كميل شهوان

إذا كانت هناك نقطة واحدة متفقٌ عليها في النقاش المتنافر بعد الأزمة حول النظام المالي، فهي أن البنوك الأميركية كان لديها رأسمال ضئيل للغاية قبل إنهيار العام 2008. إن أهم البنوك الاستثمارية المُثقلة بالديون، مثل “ليمان براذرز”، قد إقترضت حوالي 40 دولاراً لكل 1 دولار إستثمرته، الأمر الذي تركها هشة وعرضة لضربة الإنخفاض المفاجئ لأسعار المنازل. ولكن في محاولة لتضييق ما يعني المصرفيون والمنظّمون في القطاع المالي في الواقع ب”رأس المال” في هذه الأيام، تؤول إجاباتهم بسرعة إلى تعابير مُبهَمة ومصطلحات مليئة بالطلاسم. لقد إنتشرت مصطلحات مثل أسهم عادية من الصف الأول، والأوراق المالية الطارئة، وأوزان المخاطر داخل الصناعة كما لو أنها تهدف إلى تنفير غير المُتخصّصين.
هذا الغموض هو شيء بارز جداً ونحن نقترب من الذكرى السادسة للإصلاحات المالية في الولايات المتحدة التي قدمها قانون دود-فرانك (نسبةً إلى السيناتور “كريستوفر جي. دود” والنائب “بارني فرانك” اللذين عملا بشكل حثيث لوضعه). مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن هذا القانون ما هو إلّا خطوة أولى متواضعة نحو الحفاظ على النظام المصرفي – حيث أن العديد من أحكامه لا يزال موضع نقاش أو تنفيذ، وقد تعهّد المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب عكس معظم بنوده.
على نحو متزايد، بدأ المنظّمون يعتقدون أن على البنوك أن يكون لديها رأسمال أكثر في دفاترها. وتشير الأبحاث إلى أن البنوك المستقرة والمُموّلة جيداً هي أكثر قدرة على مواصلة الإقراض حتى عندما تأتي الإقتصادات والأسواق المالية تحت الضغط. “إن الضمان بأن لدى البنوك رأس المال الكافي لدعم نشاط إقراضها هو أمر حيوي”، قال هيون شين، كبير الإقتصاديين في بنك التسويات الدولية السويسري في بازل، الذي هو المركز لوضع القواعد البنكية العالمية. “البنك الذي يتمتع بأموال وفيرة … قادر على الإقتراض أكثر من دائنيه، وبشروط أفضل بكثير” قال شين في مؤتمر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، ألمانيا، في 7 نيسان (إبريل) الفائت.
مع ذلك، فإن شارع المال الأميركي “وول ستريت” يشعر بطريقة مختلفة. بواسطة تعقيد وتوحيل الجدل حول رأس مال المصارف منذ الإنهيار المالي في العام 2008، سجل أنجح وأضرّ إنقلاب تنظيمي. تمكّن من التصوير بأن متطلبات الأصول العالية تأتي مع تكلفة إجتماعية عالية تعوق الإقراض وتعيق النمو الاقتصادي. هذا التعتيم هو متعمَّد. إنه يُعطي “وول ستريت” ميزة فريدة في وضع القواعد بأخذه القضايا الرئيسية مثل كيف يجب أن تعتمد البنوك بشكل كبير على الديون – نظراً إلى الحاجة الممكنة للإنقاذ من دافعي الضرائب، على سبيل المثال – إلى حد كبير خارج الساحة العامة والشعبية.
الواقع أن إختلاس الصناعة للجدل الدائر حول رأس مال المصارف يسبق قانون دود-فرانك. إنه يعود الى معايير “بازل II” لرؤوس أموال البنوك الصادرة في 2004، والتي سمحت للمصارف العالمية الكبيرة الذهاب إلى حفلة الإقتراض التي أدت إلى كارثة 2008. في ذلك الوقت، كان ما يسمى أوزان المخاطر، التي تتيح للمنظمين تقرير أي نوع من أنواع الديون يجب أن يُعتبَر آمناً حتى تتم معاملته على أنه يعادل رأس المال، أساس المشكلة. وكانت النتائج كارثية.
البنوك التي كانت تعوّل على الأصول المرتبطة بالإسكان كبدائل أساسية للنقد إكتشفت فجأة بأن السندات المُصنَّفة “إي إي إي” (AAA) لم تعد لها قيمة فعلية، لأنه لم يعد هناك أي مشترٍ فيما الذعر يتزايد. وقد حدث هذا مرة أخرى في أوروبا، حيث أن البنوك التي إمتلآت خزائنها بسندات حكومية “آمنة” من دول مثل اليونان والبرتغال إحتاجت إلى العودة لطلب المساعدة من دافعي الضرائب عندما إنخفضت وغرقت قيمة تلك الأوراق المالية.
“من خلال نظام رأس المال المبني على المخاطر قرر المنظمون ما هو الخطير وما هو ليس كذلك. وكانوا على خطأ. لقد كانوا مخطئين تماماً” قالت شيلا بير، الرئيسة السابقة لشركة التأمين على الودائع الفيديرالية الأميركية، في كلمة ألقتها في أيار (مايو) الفائت. “في أوروبا قالوا إن الديون السيادية ليست محفوفة بالمخاطر. في الولايات المتحدة قلنا بأن توريق الرهن العقاري (تجميع القروض العقارية وغيرها من أنواع الديون لإعادة بيعها) ليست محفوفة بالمخاطر، وبأن مقايضة العجز عن سداد الإئتمان [أداة مشتقة إستخدمت للتحوط ضد مخاطر الشركات أو تقصير البلاد عن الدفع] لم تكن محفوفة بالمخاطر، والواقع أن مقايضة العجز عن سداد الائتمان خفضت بطريقة أو بأخرى الخطر”، على حد قولها.
بدأ الإرتباك حول المصطلحات يُزعج أستاذة الشؤون المالية في جامعة ستانفورد عنات أدماتي بعد وقت قصير من الأزمة المالية في العام 2009، فيما تجمع السياسيون والمنظمون في واشنطن لإصدار ما أصبح يُعرف بقانون دود-فرانك. “إذا إِعتُبر رأس المال زوراً بأنه نقدٌ خامل، فإن مناقشة تنظيم رأس المال خرجت عن مسارها على الفور من طريق مقايضات وهمية” تقول أدماتي. وهنا ما يعني ذلك:
إذا قلت أن رأس المال هو مال عليك وضعه “جانباً”، فإنه يشير إلى أنه مال لا يمكن قرضه. وبالتالي، فإن التفكير يذهب، بأن هذا الأمر يضر النمو والإئتمان. ولكن هذا ليس هو القضية. يمكن للبنوك تقديم القروض من ديونها أو أصولها.
إن العديد من المنظمين، ومحلّلي السوق، والمنشورات المالية الرئيسية هم مذنبون بإشارتهم الى رأس المال كشيء يجب أن يكون مُخبّأً تحت الفراش. من الصعب أن تنسى عناوين مثل ذلك الذي نشرته صحيفة فايننشال تايمز في شهر تموز (يوليو) 2015: “حثّ البنوك على الوضع جانباً المزيد من رأس المال لمخاطر أسعار الفائدة”.
ويصل سوء الفهم – أو التضليل – إلى الصفوف العليا في “وول ستريت”. ويشهد التصريح المضلل أو الجاهل بعمق للرئيس التنفيذي لبنك “ويلز فارغو”، جون شتومبف، لصحيفة فايننشال تايمز في تموز (يونيو) 2013 على أن حسابات التوفير لزبائنه والودائع الأخرى هي له لإنفاقها – على ما يبدو ناسياً أنها في الواقع عبءٌ على موازنة البنك العمومية، وليست أصولاً له. “لأن لدينا هذا التمويل الذاتي الكبير من ودائع المستهلكين فليس لدينا الكثير من الديون”، قال.
الواقع أن تصريح شتومبف، مقصود أم لا، هو دليل على مدى “الإعتياد” الذي أصبح عليه “وول ستريت” للمخاطرة بأموال الناس الآخرين حيث ينسى المصرفيون تقريباً أن المال هو لشخص آخر. وكلما كان البنك أكثر مديونية، كان أكثر هشاشة وعرضة حتى لتراجع طفيف في قيم الإقتصاد أو الأصول.
“من المثير للقلق أن المنظمين والأكاديميين، الذين يجب أن يعرفوا بشكل أفضل، يتعاونون بشكل روتيني مع الصناعة لطمس القضايا بإستخدام لغة مُضلّلة والفشل في تحدي بياناتها الكاذبة”، كما زعمت أدماتي في أواخر العام الماضي. “إذا بدلاً من اللغة … يتركز الإهتمام بشكل صحيح على التمويل والمديونية، فإن مستوى المناقشة سوف يكون مرتفعاً، وسيفهم المزيد من الناس هذه القضايا”، قالت.
بدلاً من أن تقول “إحتفظ” أو “ضع جانباً المزيد من رأس المال”، وهي عبارات تخلق إنطباعاً خاطئاً، تقول أدماتي، يجب على المنظمين أن يطلبوا من البنوك تقليل إعتمادها على الإقتراض، مما يساعد على منع صناعة الخدمات المالية من إستمالة أو تشويه معنى المصطلح.
هنا يبدو من المفيد مقارنة الموازنات العمومية للشركات غير المصرفية ونظيراتها في “وول ستريت”. “من النادر للشركات الحفاظ، على أساس منتظم، على أقل من 30 في المئة من الأسهم مقارنة بإجمالي أصولها العامة”، تقول أدماتي. خذ شركة “وول مارت”، أكبر متاجر التجزئة في الولايات المتحدة. لديها إلتزامات إجمالية قدرها 119.4 مليار دولار، ولكن الأسواق المالية تُقيِّم إجمالي أسهمها المتميزة ب208.8 مليارات دولار – أكثر من كافية لتغطية الديون المحتملة. ماذا عن شركة “أبل”؟ يبلغ إجمالي القيمة السوقية لأسهمها 533 مليار دولار، بالمقارنة مع مطلوبات الشركة البالغة 174.8 مليار دولار.
وبإلقاء نظرة على بنك أوف أميركا يتبين أن إجمالي قيمته السوقية تبلغ 141.1 مليار دولار. المطلوبات المستحقة؟ مذهلة تصل إلى 1.9 تريليون دولار. كما أن إعتماد “سيتي غروب” على الإقتراض هو بالمثل يُظهر أن القيمة السوقية لأسهمه تبلغ 138.3 مليار دولار مقابل إجمالي مطلوبات يصل إلى 1.5 تريليون دولار. وهذه الأرقام ربما تقلل مديونية هذه البنوك الفعلية لأنها تتمتع بالقدرة على إخفاء المطلوبات من خلال معاملات خارج الموازنة العمومية بإستخدام المشتقات، كما كشفت الأزمة المالية بشكل صارخ.
إن المطالبين برأسمال أعلى من ذلك بكثير يعتقدون أن الأسواق سوف تجبر طبيعياً على تجزئة وتفكيك المؤسسات غير الفعالة، لأن الدعم الضمني الذي تلقته – ناشئاً من النظرة بأنها مدعومة من الحكومة – سوف يتلاشى تدريجاً. وذهب آخرون إلى أن أكبر المؤسسات يجب تفكيكها بحيث أنها لا ولن تعود تهدد الاستقرار المالي. أياً كان الحل الأمثل، إن الحصول على اللغة الصحيحة هو شرط أساسي لتنظيم فعّال. لذلك يستحق الأمر تعريف بعض المصطلحات للمساعدة على الحيلولة دون التلاعب بها لمصلحة الصناعة.
في أبسط قواعده، إن رأس المال هو مال للإنفاق، ونقدٌ يُستثمَر من دون توقع السداد. هذا هو السبب في أنه من المفيد جداً أن لا تكون هناك قيود أو شروط. لكن “وول ستريت” طبخ جميع أنواع الديون التي يريد إعتبارها على أنها تعادل النقد، والمنظمون قد إشتروا تماماً هذه الفكرة.
أولاً، هناك “رأس المال المشروط”، المعروف أيضاً باسم سندات “كوكو”. وهي سندات دَين من المفترض أن تُحوَّل إلى أصول في أوقات الشدة. ليس من الصعب أن نرى لماذا هذه الفكرة رهيبة: إن مشغّل التحويل يسرّع في نضوب رأس المال بدلاً من موازنته أو معادلته. ثانياً، هناك “رأس المال الوازن للمخاطر”. وهو في الأساس أصول إضافية التي يحب المصرفيون أن يتعاملوا معها كرأسمال على الرغم من أنها في الحقيقة ليست كذلك. وهي تتضمن أدوات الدين التي تُعتبر آمنة جداً، مثل السندات الحكومية. ولكن قبل الأزمة المالية، فقد شملت أيضاً سندات الإسكان المصنفة “إي إي إي” (AAA) التي تبيّن أن لها قيمة ضئيلة أو معدومة.
“أعتقد أنه علينا التخلّي عن رأس المال الخطر”، قالت بير في أيار (مايو) الفائت. “فقط إجراء عملية إختبار إجهاد ونسبة الدين” – نسبة ديون البنك مقابل الأسهم المتميزة. وقالت أن تعقيد قانون دود-فرانك، الذي نُشر في مجلد ضخم يحتوي على 848 صفحة، أفاد البنوك الكبيرة.
وما يزيد الأمور تعقيداً، أن المنظمين إستخدموا مصطلحات مثل رأس المال “العازل” أو “الوسادة”، والتي تعزز من جديد مفهوم الأموال التي توضع جانباً، وبالتالي إخراجها من مجموع الأموال المتاحة للإقراض والاستثمار. آخر مصطلح مختصر الذي تفضله الصناعة “TLAC” أي إجمالي القدرات لإمتصاص الخسائر.
ولكن خلاصة القول، وفقاً لكبار المفكرين في مجال التمويل، واضح: رأس المال هو أصول، والأصول هي رأس المال. كل شيء آخر يصبح كوضع أحمر الشفاه على شفاه الخنازير كما يقول المثل. والتشويش على النقاش لا يفعل سوى تسريع الأزمة المالية المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى