الجزائر على شفا الإنفجار؟

منذ العام 2011 والجزائر تحاول إيجاد حل لأزماتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية معتمدة على الإعانات والوعود بالإصلاح التي لم تفلح كثيراً بإخماد الغضب الشعبي. ومع توعك الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وعدم قدرته على إدارة شؤون البلاد اليومية، وهبوط أسعار النفط، وإنخفاض الإحتياطات الأجنبية، وإرتفاع معدل البطالة، خصوصاً بين الشباب، تبدو البلاد في وضع سيىء جداً قد يؤدي بها إلى الإنفجار عاجلاً أم آجلاً.

البنك المركزي الجزائري: إنخفضت الإحتياطات الأجنبية
البنك المركزي الجزائري: إنخفضت الإحتياطات الأجنبية

الجزائر – سلامة عبد الرحمن

وسط الإضطرابات السياسية التي شكّلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ العام 2011، أثبت النظام الجزائري بأنه نظام مرن. على مدى العقود الخمسة الماضية، شهدت البلاد فترات من عدم الإستقرار والأزمات. بعد الحرب الوحشية التي أدّت إلى إستقلال الجزائر في العام 1962، تم إستبدال الإنتداب الفرنسي بدولة الحزب الواحد، والتسلط العسكري، والطغمة أو “الأوليغارشية” التي لا تزال تهيمن على البلاد بعد 54 عاماً. وكما قال المحامي الجزائري الناشط في مجال حقوق الإنسان علي يحيى عبد النور ذات مرة: “لقد حررنا الأرض، ولكن لم نحرّر الناس”. وحتى الآن، لا يزال يحكم الجزائر مزيج مبهم من ضباط الجيش والأمن والنخب السياسية. مع ذلك، فإن النظام الجزائري لا يزال صامداً وقائماً، حتى فيما علامات الانحطاط تنخر عظام النظام السياسي الأجوف في البلاد.
في شباط (فبراير)، وصلتُ إلى الجزائر العاصمة بعد يوم على موافقة البرلمان على الدستور الجديد. وواجهتُ جوّاً من السخط يتسكّع في الشوارع. كان هناك حديث عن أزمة – أسعار النفط قد غرقت وإنخفضت قيمة الدينار- لكن الجزائريين قد تعوّدوا منذ فترة طويلة على سماع مثل هذا الكلام. في الواقع، إن تاريخ البلاد الحديث كان مليئاً بالتوتر الدائم.
اليوم، مع ذلك، يواجه الوضع الراهن، الذي يبدو غير قابل للتغيير، في الجزائر مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية التي يمكن أن تُغرِق البلاد في الفوضى. وقد كثّف إنهيار أسعار النفط العالمية الضغط على إقتصاد البلاد، مما أدى إلى إرتفاع معدلات البطالة. إن الإحباط من الفساد والبيروقراطية الطاغية قد عزّز وأنعش حركات الإحتجاج في جميع أنحاء البلاد.
ويأتي هذا الضغط في وقت سيىء للنخب الحاكمة في الجزائر، التي تكافح من أجل ضمان ما سيحدث في مرحلة ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. لقد بلغ الرئيس الجزائري الآن ال78 عاماً، وحكم البلاد منذ العام 1999. ولكن بعد إصابته بسكتة دماغية في العام 2013، فإنه نادراً ما يظهر علناً، مما دفع كثيرين إلى التساؤل عن الدور الذي يلعبه فعلاً في إدارة شؤون البلاد اليومية. الواقع أنه عندما يظهر على كرسي متحرك ضعيفاً وواهياً، فإنه يُجسّد النظام الذي يمثّله: مسنّ ومنعزل، وجزء من جيل تتجاوز أعمار أبنائه ال70 عاماً يترأس بلداً حيث أن نحو 67 في المئة من سكانه هم تحت سن الثلاثين.

دولة مدنية؟

لكن بعض التغيير قد يكون يجري على قدم وساق، على الرغم من أن نظام الحكم المُبهَم في الجزائر – الذي يدعوه الجزائريون “السلطة” أو “le Pouvoir “- يجعل من الصعب على المراقبين أن يعرفوا تماماً ما يحدث. ولكن يبدو أن النخبة الحاكمة تعد المسرح للإنتقال إلى مرحلة ما بعد بوتفليقة. في 24 كانون الثاني (يناير) 2016، إتخذ الرئيس خطوة كبيرة عندما حلّ دائرة الإستعلام والأمن (المخابرات العسكرية)، وهي أهم وأقوى جهاز مخابرات في البلاد. ومن ثم أعلنت الحكومة عن إنشاء وكالة جديدة، “مديرية المصالح الأمنية”، تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية ويرأسها الجنرال عثمان طرطاق، وهو قائد سابق في دائرة الإستعلام والأمن.
على الرغم من أن أجهزة المخابرات تمتعت دائماً بسلطة كبيرة في الجزائر، فإن نفوذها توسّع إلى أبعد من ذلك خلال الحرب الأهلية في تسعينات القرن الفائت. تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وصلت عيون المخابرات العسكرية إلى الأحزاب السياسية، والشركات في القطاعات الحيوية، والجامعات، ووسائل الإعلام. ولكن في أيلول (سبتمبر) 2015، أعفت الحكومة رئيس دائرة الإستعلام والأمن، الجنرال محمد مدين، من مهامه ونحّته من منصبه. وكانت هذه الخطوة قوية: على الرغم من أن معظم الجزائريين لا يعرفون سوى القليل عن مدين، والمعروف أيضاً بإسم “توفيق”، فقد كان أساسياً لوصول بوتفليقة إلى السلطة. تحت قيادته، ساعدت دائرة الإستعلام والأمن بوتفليقة على تأمين كل إنتصاراته الإنتخابية، بما في ذلك تلك الإنتخابات التي أمّنت له فترته الرابعة في منتصف 2014. وقد صوّر الرئيس ومساعدوه إزالة دائرة الاستعلام والأمن كخطوة تشتد الحاجة إليها لتحويل هذه الدائرة من بوليس سياسي إلى وكالة لمكافحة الإرهاب. ولكنها تزيل أيضاً عائقاً مُحتمَلاً أمام خطط الخلافة للنظام: دائرة إستعلام وأمن قوية من شأنها أن تتدخل وترجّح من سيخلف الرئيس الحالي.
ويناسب تفكيك دائرة الإستعلام والأمن أيضاً رواية الحكومة التي تقول أن الجزائر صارت دولة عادية؛ لقد أصبح شعار “الدولة المدنية” واحداً من الشعارات المُفضَّلة لدى النخبة الحاكمة. ولكن هل أن النظام الجزائري يهدف حقاً إلى تحقيق هذا الأمر؟ فهذا شيء غير مؤكد بعد. إن الشعارات تبدو جوفاء نظراً إلى أنه على مدى السنوات ال25 الماضية، عملت أجهزة الأمن الداخلي بحرية تماماً من دون رادع. لذا عندما تزعم الحكومة أن الأجهزة الأمنية تحتاج إلى تفكيكها، فإن العديد من الجزائريين يسأل، لماذا الآن؟ من مساعدة على التلاعب في الإنتخابات إلى الإشراف على أنشطة الأحزاب والنشطاء السياسيين، فإن دائرة الإستعلام والأمن قد مارست منذ فترة طويلة السلطة في الجزائر. وهذا يجعل من غير المرجح أن تكون الحكومة قد تجاهلت تماماً هذا ببساطة. إن منطق “التنظيف” للأجهزة الأمنية، الذي يسهل على الرئيس وحلفائه نشره، هو النتيجة الأكثر إحتمالاً.
حتى وقت قريب، شكّل الجيش والأجهزة الأمنية والرئاسة العمود الفقري الهيكلي للنظام. ولكن، كما قال لي حسن والي، الكاتب السياسي في صحيفة “الوطن” في شباط (فبراير) الفائت، تحت حكم بوتفليقة، برز مصدر جديد للنفوذ: المال. وقد نشأت طغمة أو “أوليغارشية” مالية، تمثلت بشبكة من رجال الأعمال حول شقيق بوتفليقة، سعيد، الذين يستفيدون من عقود الدولة والتعامل مع الشركات العالمية التي تعمل في الجزائر. هذه الحقن من الأموال في النظام زعزع الطريقة التقليدية التي كان يعمل فيها.

تعديلات دستورية

إصلاح أجهزة المخابرات هو أحد الطرق الذي حاول النظام من خلاله أن يُعطي إنطباعاً للتحديث؛ والإصلاح الدستوري هو طريق آخر. في شباط (فبراير) الفائت، تمّت الموافقة على دستور جديد من قبل البرلمان. شملت التغييرات إعادة إدخال حدّ لفترة رئيس الجمهورية التي ستكون فترتين رئاسيتين مدة كل واحدة خمس سنوات، والإعتراف بالأمازيغية، التي يتحدث بها البربر في الجزائر، كلغة رسمية. وأكد الدستور الجديد أيضاً على أن رئيس الوزراء يجب الآن أن يُختار من الأغلبية البرلمانية، بدلاً من ان يُعيَّن من قبل الرئيس.
لقد أعلنت الحكومة عن الإصلاح الدستوري أولاً لقمع الإحتجاجات في العام 2011. ولكن من الصعب ألّا نرى أن هذه التغييرات هي خطوة أخرى دعائية تسويقية من جانب السلطات لخلق تصوّر للتغيير من دون تحقيقه. بدلاً من مناقشة مفتوحة في البرلمان، فقد هندست الحكومة بنفسها الإصلاحات الدستورية، الأمر الذي أدى بأحزاب المعارضة، أن تسميها فرصة ضائعة لإنفتاح ديموقراطي حقيقي. وقد قاطعت غالبية المعارضة التصويت في مجلس الأمة (البرلمان). فاتحاً الدورة البرلمانية، قال رئيس المجلس، عبد القادر بن صالح، أن بوتفليقة قد بعث برسالة تهنئة إلى أعضاء البرلمان يشكرهم فيها على موافقتهم على الدستور المُعدّل. علماً أن البرلمان لم يكن بعد قد أجرى عملية التصويت. لذا فإن أعضاء بارزين في الدولة، على ما يبدو، يجدون صعوبة بالغة للتأكيد بأن البرلمان يلعب أي دور في حكم البلاد.
الحكومة أيضاً لم تطلب موافقة الشعب الجزائري في إستفتاء – ربما لأنها تعلم أنها لا تحظى بشعبية. إن الجزائريين يعرفون كيف تُدار بلادهم: يتم إتخاذ القرارات في المقام الأول سراً، ومن ثم تمرّ على مجلس الوزراء أو البرلمان حيث تتلقى “قشرة” قانونية وشرعية سياسية. وقد كان هذا صحيحاً دائماً منذ الإستقلال. في إنتخابات الجمعية التأسيسية في العام 1962، الأولى التي تحدث في الجزائر المستقلة، سُمِح للشعب المُحرّر حديثاً التصويت، ولكن فقط لقائمة مرشحين من حزب واحد: جبهة التحرير الوطني. لقد سُمح لهم تأكيد وتأييد القرارات التي كان إتخذها أعضاء الحزب أصلاً في وقت سابق من ذلك العام في الإجتماعات التي عقدت في تلمسان وطرابلس.
لقد حدّد حكم الحزب الواحد ل”جبهة التحرير الوطني” سياسة الجزائر المستقلة حتى الأزمة في أواخر ثمانينات القرن الفائت، عندما اضطر النظام إلى فتح المجال لقوى سياسية جديدة. في العام 1997، خلال الحرب الأهلية، تم تأسيس التجمع الوطني الديموقراطي لخوض الإنتخابات عندما بلغ التعب الشعبي العام من قبضة “جبهة التحرير الوطني”، المهيمنة طويلاً على السياسة الوطنية، ذروته. ولكن على الرغم من أن لدى الجزائر أطرافاً متعددة اليوم، فإن السلطة الحقيقية لا تزال مُبهَمة في التعاملات السياسية التي تجري خارج السياسة الحزبية. تشكل كلٌّ من “جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديموقراطي” أدوات سياسية للطغمة أو “الأوليغارشية” الحاكمة. كلٌّ منهما، فضلاً عن عدد لا يحصى من الأحزاب الصغيرة الموالية للحكومة، دعم التغييرات الدستورية.
جزء من السبب بأن أحزاب المعارضة والمجتمع الجزائري بصفة عامة قد يبدوان غير مهتمين جداً بالتعديلات الدستورية هو أن دستور البلاد عادة ما يطبق بشكل مختلف جداً من النخبة الحاكمة والغالبية المحكومة. على سبيل المثال، في أحدث مراجعة، أضافت الحكومة فقرة إلى المادة 51 لإعطاء “مسؤوليات الدولة العليا والأدوار السياسية” إلى المواطنين من الجنسية الجزائرية حصراَ. ولكن عندما صوّت البرلمان على التعديلات الدستورية، كان مسؤولون حكوميون عديدون رفيعو المستوى لا يزالون يحملون جنسية مزدوجة. ثم أوضحت السلطات بأنها ستُعلن لاحقاً عن المناصب التي تُمنَع عن المواطنين المزدوجي الجنسية.
منذ توليه الرئاسة في العام 1999، ترأس بوتفليقة ثلاثة تعديلات دستورية: في 2001، و2008، و2016. ولكن في الجزائر، التغييرات الدستورية، مثل الانتخابات، يمكنها ان تنتج النتيجة التي ترغبها النخبة الحاكمة. في العام 2008، غيّر بوتفليقة الدستور لإزالة حدّ الرئاسة لولايتين. وهذا ما سمح له خوض الإنتخابات في العام 2009 وتأمين ولاية رئاسية رابعة له في العام 2014. الآن يريد النظام أن يبرهن على التقدم الذي أحرزه نحو الديموقراطية، فقد أعاد حد الرئاسة إلى فترتين.

الشتاء العربي

في كانون الثاني (يناير) 2011، أطاحت إحتجاجات شعبية الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الذي حكم تونس لمدة 23 عاماً. في وقت واحد تقريباً، إجتاحت إحتجاجات أنحاء الجزائر، والتي أثارها في البداية إرتفاع أسعار الغذاء، ولكن حفّزتها الأحداث التي وقعت في تونس المجاورة. ولكن النظام الجزائري أبقى بإحكام قبضته على السلطة، مهدِّئاً الإضطرابات الإجتماعية من طريق زيادة الأجور وقمع أي إحتجاجات بسرعة. عندما قمتُ بالسفر عبر البلاد في أوائل العام 2011، فوجئتُ برؤية السرعة وفعالية السلطات للقضاء على أدنى تلميح لمظاهرة. فقد قامت بإغلاق الساحات التي كانت من المقرر أن تستضيف الإحتجاجات، وإيقاف وسائل النقل العام في العاصمة، وتفريق الناس الذين تجمعوا في الشارع أو توقفوا لرؤية ما كان يحدث، وفصل وتقسيم المتظاهرين إلى مجموعات صغيرة، وإعتقال الناشطين. في أي حفنة من الاحتجاجات التي شاهدتها في ذلك الوقت، في الجزائر العاصمة وغيرها من المدن، كان دائماً يبدو أن هناك أفراداً من الشرطة أكثر من المتظاهرين.
ما هو أكثر من ذلك، أن ذاكرة صراع الجزائر في الماضي منعت إحتجاج المجموعات من الوصول إلى تجمعات حرجة. في تسعينات القرن الفائت، تركت حرب أهلية وحشية بين 150,000 و200,000 قتيل؛ كما تمت عمليات إغتصاب وتعذيب كثيرة. كان الإستقرار مُفضَّلاً، قال لي الأصدقاء، بدل الإنضمام إلى الإحتجاجات الإقليمية التي تتحدّى الأنظمة الإستبدادية المجاورة. في شباط (فبراير) 2016، كرر الصحافي والي هذا الشعور: “لدى الجزائريين كل الأسباب في العالم لإشعال ثورة صباح كل يوم، ولكن هناك سبباً واحداً كبيراً لا يريدون من أجله أي ثورة. لقد أدت الحركات الإحتجاجية لدينا في الماضي إلى حرب أهلية وحشية”.
من جهتها عرضت السلطات أيضاً حفنة من التنازلات السياسية. في شباط (فبراير) 2011، رفع النظام حالة الطوارئ التي كان فرضها في العام 1992. وبعد شهرين، في نيسان (إبريل)، وعدت الحكومة بتعديلات دستورية تسمح بالمزيد من الإنفتاح السياسي، وفي أيلول (سبتمبر) 2011، فتحت الدولة قطاع البث لقنوات الراديو والتلفزيون للقطاع الخاص. إن إنهيار ليبيا إلى حرب أهلية، والوجود المتزايد هناك للمتشددين التابعين لتنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً بداعش)، عززا سرد النظام أن سلاماً هشّاً لا يزال أفضل بكثير من الفوضى.

تشحيم الكفوف

مع ذلك، لا يزال الناس ينزلون إلى الشوارع كل يوم. فهم يحتجون على الوظائف، والتضخم، وعدم وجود سكن وغيرها من الخدمات. بالنسبة إلى الجزء الأكبر، فإن مطالبهم هي إجتماعية وليست سياسية. يفتقر المحتجون إلى وسائل التعبير عن مطالبهم التي تقدمها الأحزاب السياسية أو النقابات العمالية بشكل عام. وكما كتب المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا في أوائل العقد الفائت، فيما البلاد تسترد عافيتها ببطء من سنوات أسوأ صراع وحشي: “المواطنون الجزائريون لا يطالبون: لتسقط الدولة”. أكثر تواضعاً، يطلبون من الدولة الوفاء بإلتزاماتها للحماية، وعقد المحاكمات العادية، وممارسة كامل واجباتها الدستورية. وتشمل المطالبة أيضاً بدولة القانون والفصل بين السياسي والديني، والسياسي والعسكري”.
والشيء نفسه يمكن أن يُقال اليوم. على الرغم من أن النظام قد هدّأ تقليدياً السخط من خلال الإنفاق العام، فإن إنهيار أسعار النفط جعل هذا الأمر أصعب بكثير. في الآونة الأخيرة، إكتسب بعض الإحتجاجات المحلية مكانة وطنية، مثل حركة العاطلين من العمل، التي بدأت في المدن الجنوبية من الجزائر وإنتشرت في معظم أنحاء البلاد.
يشكو أكثر الشباب الجزائري من عدم وجود فرص عمل. إنهم محبطون من الدولة القوية التي ترفض التعامل معهم كمواطنين. وهم يصفون هذا الصراع اليومي ب”هجرة” أو “إزدراء”. وجاء أول إتصال لي مع عواقبه المُدمّرة في العام 2011. في مدينة الآشير في ولاية “برج بوعريريج”، إلتقيت والد عبد الرزاق الأشهب (25 سنة)، الشاب الذي كان إنتحر قبل بضعة أسابيع بإشعال نفسه بعود كبريت. تماماً مثل غيره من ضحايا الإنتحار حرقاً، فقد تصرّف بسبب الإحباط والتمرد، قال لي والده. على الرغم من محاولات عدة، لم يستطع عبد الرزاق الحصول على بطاقة هوية من السلطات المحلية لتولي وظيفة في الجزائر العاصمة، حيث قال لوالده أن البيروقراطيين أهانوه وأساؤوا إليه. ولأن البلدية المحلية رفضت مساعدته، على الرغم من طلباته المتكررة، فقد أُعطيت وظيفته في نهاية المطاف إلى شخص آخر. وقال لي والده أنه بعد إنتحار إبنه، كتب رسالة إلى بوتفليقة، موضّحاً أن عبد الرزاق قد قتل نفسه بسبب لامبالاة الإدارة. وعندما حصل أخيراً على لقاء مع القاضي المحلي، الذي أعطاه هذه الرسالة، مزّق المسؤول الحكومي الرسالة ورماها بعيداً، مدّعياً أن النبي لا يصلّي لأولئك الذين يقتلون أنفسهم.
إنتحار عبد الرزاق حرقاً كان واحداً من العديد من الإنتحارات التي جرت في ذلك الوقت، التي حفّزتها الإحتجاجات حول إرتفاع الأسعار في أواخر العام 2010. وكثير منها حدث منذ ذلك الحين. يدرك الجزائريون أنه كلما كانوا بحاجة إلى التفاعل مع بيروقراطية الدولة، فإنه من المرجح أن يتعرضوا لعدم المبالاة، في أحسن الأحوال، والشتيمة في أسوأ الأحوال. لتجنب هذا، أو لتسريع أية إجراءات إدارية روتينية، فمن الأفضل أن تعرف ضابط شرطة، أو أي شخص يعمل في المحافظة المحلية.
وتنعكس الرشوة الصغيرة في حالات واسعة النطاق من الفساد التي تورط مشاريع البنية التحتية والعقود الحكومية الكبيرة. وقد تابع الجزائريون عن كثب حالات تورّط شركة النفط والغاز المملوكة للدولة “سوناطراك” أو بناء طريق سريع طوله 1200 كيلومتر. وكانت النتيجة دفع غرامات باهظة وعقوبات بالسجن لمسؤولي الشركة ومقاولين أجانب عاملين في البلاد، ولكن معظم الجزائريين على يقين من أن أولئك المقربين من النظام والحكم حوكموا بقواعد مختلفة. رئيس سوناطراك السابق محمد مزيان، على سبيل المثال، الذي أدين بالفساد، لم يتلقَّ سوى السجن لمدة خمس سنوات مع وقف التنفيذ وغرامة تبلغ 17،000 يورو (حوالي 19,100 دولار).
وقد أبرزت هذه الحالات الطبيعة الحقيقية للنظام القضائي في الجزائر. ووفقاً لأمين سيدهم، وهو محام جزائري، لا يزال النظام القضائي الجزائري عرضة للتأثير السياسي لأن الرئيس لا يزال يعيِّن القضاة في المناصب الأساسية. “النظام القضائي لم يكن أبداً مستقلاً”، قال سيدهم. “على الورق، هناك ذكر لإستقلال القضاء. ولكن عندما تفكر في أن القضاة يُعيَّنون بقرار رئاسي وأن الرئيس يمكنه أن يعفيهم من مهامهم، فإنك تدرك أن العدالة في الجزائر هي في الحقيقة تحت إشراف السلطة التنفيذية”، مضيفاً. ولا تشمل الإصلاحات الحكومية الجارية تغييرات كبيرة في الطريقة التي يتم فيها إختيار القضاة .

فقدان ذاكرة قسري

راكدة سياسياً ومُرهَقة إقتصادياً، فإن الجزائر قد شُلّت أيضاً من إرث حربيها. كانت الأولى حرب التحرير، والتي إستمرت من 1954حتى 1962 حيث أنشأت العديد من الأساطير الوطنية الجزائرية. إن السير في أية مكتبة في الجزائر العاصمة يُعرّفك على الأبطال الوطنيين الذين هزموا الفرنسيين وأسسوا الدولة والذين يحدّقون من أغلفة كل الكتب تقريباً. وقد خُلّدت أسماء هؤلاء الأبطال أيضاً على البلاطات التذكارية عبر الشوارع المتعرجة في المدينة. وكان ثمن التحرير أكثر من مليون شهيد جزائري. وكانت المكافأة دولة مستقلة.
بقايا الحرب الثانية، المتمثّلة بصراع تسعينات القرن الفائت حيث حاربت الدولة المتمردين الإسلاميين، هي أقل وضوحاً. لكن إرثها هو أعمق. حسب معظم الروايات، إن تكلفة الصراع الثاني بلغت بين 150,000 و200,000 قتيل. ومن المستحيل تجاهل هذا النزاع الثاني، على الرغم من عدم وجود معالم ذكرى له، فإن معظم الجزائريين الذين ما زالوا على قيد الحياة هم تذكير دائم له: الناجون من تعذيب الدولة؛ ذكريات أفراد الأسر الذين ماتوا أو إختفوا؛ الأعداء السابقون الذين أجبروا على العيش كجيران مرة أخرى في هدنة مصطنعة. مع ذلك فإن الجزائر لم يسبق لها أن تناولت بشكل صحيح عواقب هذه الحرب. “لقد قرر النظام والجيش أن هذه الفترة من تاريخ الجزائر ينبغي أن توضع جانباً. لا يوجد فضاء عام للنقاش حول العشرية السوداء”، قال لي عمر بلهوشات، ناشر صحيفة “الوطن”. “كما لو لم يكن هناك ضحايا ولا جناة، يريدون منا أن ننسى ما حدث”، مضيفاً.
في العام 1999، أصدر النظام قانون العفو الذي سمح لآلاف المتمرّدين نزع أسلحتهم. وتمت الموافقة على الرسم البياني للسلام والمصالحة الوطنية (المتمثل بقانون الوفاق المدني) في وقت لاحق في إستفتاء وطني في العام 2005. وهذان القانونان جلبا السلام، لكنهما إستبعدا التحقيقات والمحاكمات بشأن مصير آلاف الجزائريين الذين إختفوا على أيدي قوات الأمن أو قتلوا على يد الإرهابيين خلال الصراع. لم يعلم الآلاف من الجزائريين أبداً ما حدث لأحبائهم.
إلتقيت الدكتور صلاح الدين سيدهم في منزله في شباط (فبراير) الفائت. في صباح أحد الأيام في العام 1995، إستيقظ ليفاجأ بمحاولة إغتيال فاشلة على حياته من خلال محطة الإذاعة الفرنسية المغربية “ميدي 1”. بعدما تحدث الى شبكة تلفزيون دولية حول عمليات القتل خارج نطاق القضاء والإختفاء القسري المرتكبة من قبل الحكومة، أُرسِلت “فرقة الموت” إلى منزله. خوفاً على حياته، لجأ إلى منزل أحد الأصدقاء مساء اليوم السابق، وهو القرار الذي أنقذه. وبعد ذلك أجبر على قضاء حوالي تسع سنوات في الاختباء وفترة في سجن “سركاجي” السيئ السمعة في الجزائر بعدما حُكم عليه بالسجن لمدة 20 عاماً بتهم زائفة تتعلق بالإرهاب.
وفقاً لسيدهم، إن تغييرات النظام العسكري في الجزائر ستبقى كما كانت عليه. “عملية تفكيك دائرة الاستعلام والأمن هي دعائية للتسويق، ولإسترضاء المجتمع الدولي. هذه التعديلات هي دورية، كل أعوام عدة يحدث شيء من هذا القبيل. في كل مرة تقع أزمة داخل النظام، يغير المسؤولون لباسهم شكلياً”، قال لي سيدهم. كان يجلس في غرفة الإستقبال في منزله حيث عاش حياته كلها، وحيث، قبل أكثر من نصف قرن أثناء حرب التحرير، رأى الجنود الفرنسيين يقتحمون المنزل بحثاً عن جده. كصلاح الدين سيدهم بعد سنوات، فقد أُنقِذ جده لأنه لم يكن موجوداً في المنزل في ذلك الوقت. “ولكن حتى هذا النظام لن يستمر إلى الأبد”، أضاف سيدهم. “لكل شيء نهاية”.

نفط رخيص

منذ تأميم الرئيس هواري بومدين صناعة النفط والغاز في العام 1971، كانت عائدات الصادرات الهيدروكربونية تُدفع للدولة الجزائرية وأبقت النظام في السلطة. لكن الإعتماد على عائدات النفط يأتي مع مخاطر. إن إنهيار أسعار النفط في منتصف ثمانينات القرن الفائت، والتخفيضات في الإعانات التي تلت مهّدت الطريق لحرب أهلية في تسعينات القرن الماضي. اليوم، لا تزال عائدات النفط تحدّد قدرة الحكومة على قمع السخط الشعبي. تشكل الهيدروكربونات 97 في المئة من صادرات الجزائر و60 في المئة من العائدات المالية للدولة. لكن أسعار النفط تراجعت من نحو 100 دولار للبرميل في منتصف العام 2014 إلى أقل من 40 دولاراً في آذار (مارس) 2016، وبالتالي فقد إنخفضت عائدات الصادرات النفطية بنسبة 41 في المئة في 2015 إلى 35.7 مليار دولار، وقالت السلطات الجزائرية أن عائدات تصدير الطاقة قد ينخفض ​​إلى أبعد من ذلك في 2016 إلى 26.4 مليار دولار. كما خفّض غرق أسعار النفط الاحتياطيات الأجنبية للبلاد، والتي إنخفضت من 194 مليار دولار في 2013 إلى 143 مليار دولار في نهاية العام 2015. وتضاعف عجز الموازنة تقريباً ليصل إلى 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2015.
سمحت إحتياطات النفط والغاز في البلاد للنظام شراء السلام، ولكنها أحبطت أيضاً جهوده لتطوير قطاعات أخرى من الإقتصاد. تعتمد الجزائر على الواردات، مما جعلها عرضة للزيادة في أسعار السلع الدولية — في أواخر العام 2010، إندلعت إحتجاجات رداً على إرتفاع أسعار المواد الغذائية. لقد حوّل إنخفاض عائدات الصادرات الميزان التجاري للبلاد: أصبح فائض 25 مليار دولار المُحقَّق في العام 2011 عجزاً بقيمة 13 مليار دولار في العام 2015.
في المدى المتوسط، يمكن للحكومة الإعتماد على إحتياطاتها أو الإقتراض من الأسواق الدولية. ولكن في المدى الطويل، قد تثبت هذه التدابير بأنها غير كافية.
الجزائريون قلقون. إنهم يدركون أن الأمور من المرجح أن تزداد سوءاً قبل أن تتحسّن. فهم يتوقعون زيادات في أسعار الكهرباء والغاز في موازنة العام 2016، ويخشون من أن البطالة سوف ترتفع فيما بدأ كلٌّ من القطاعين الخاص والعام في تسريح الموظفين والعمال. الآن، أكثر من أي وقت مضى، يسأل الناس في الجزائر بإستمرار المسافرين عن عملة أجنبية. إلى جانب الباعة في السوق السوداء المعتادة، الذين يقفون في ساحة ميناء سعيد يحملون أكواماً كبيرة من الدنانير في أيديهم، أصبح كل تفاعل في مجال الأعمال فرصة للجزائريين — سائقو سيارات الأجرة، وموظفو الاستقبال في الفنادق، وأصحاب المطاعم — للتخلي عن العملة المحلية والحصول على شيء أكثر قيمة. في رسم كاريكاتوري نُشر في شباط (فبراير) في صحيفة “الحرية” (Liberté)، رسم رسام الكاريكاتور الجزائري علي ديلام ورقة نقدية بقيمة 200 دينار، مع عنوان “الجزائر تقدم ورقة النقد الجديدة 1 يورو”، أي قيمة الدينار الجزائري في السوق السوداء.
وقد وعدت السلطات بتنويع الإقتصاد وتحرير القطاع الخاص. ولكن هذه التدابير سوف تستغرق وقتاً طويلاً. إن فشل النظام في تنويع الإقتصاد عندما كانت أسعار النفط مرتفعة في أوائل العقد الفائت يمكن أن يكون واحداً من أسوأ أخطائه، ولكن النظام وضع أولوياته لإعادة إحلال السلام بعد الحرب الأهلية. وفقاً لصندوق النقد الدولي، فقد راكمت الجزائر سنوياً فوائض موازنة أولية بلغ متوسطها 7.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1998 و2008. بعضٌ من هذه العائدات إستخدم لتسديد الديون الخارجية للبلاد، والتي إنخفضت من 60 في المئة إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال تلك الفترة. وسمحت عائدات النفط أيضاً للبلاد توفير المال. لقد نما الصندوق الوطني للنفط في البلاد إلى 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2008، مما ساعد البلاد على إجتياز الأزمة المالية الدولية.
منذ ذلك الحين، مع ذلك، فقد عرفت الجزائر عجزاً في الموازنة، حتى قبل الإنهيار الأخير في أسعار النفط العالمية. منذ العام 2006، إنخفض إنتاج النفط والغاز، ويرجع ذلك أساساً إلى عدم الإستثمار الكافي. وفي الوقت عينه، إرتفعت النفقات، مدفوعة ببرامج البنية التحتية الطموحة والدعم للحليب والكهرباء وغاز الطهي، والإسكان – دعم تلك المواد في العام 2015، بلغ نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
الواقع أن النظام حاصر نفسه في فورة الإنفاق المستمرة للحفاظ على الإستقرار. وفقاً لصندوق النقد الدولي، إن التعادل المالي لسعر النفط – السعر الضروري لتحقيق التوازن في الموازنة — قد إرتفع من 20 دولاراً للبرميل في العام 2003، إلى 125 دولاراً في العام 2012، وإلى 130.5 دولاراً في العام 2015.
رداً على ذلك، جمّدت الحكومة أو أجّلت العديد من مشاريع البنية التحتية. ولكن فيما تكافح السلطات لوضع خطة الخلافة، فإنها ربما ستكون متردّدة في الشروع في إصلاح شامل لنظام الدعم الجزائري.
هناك تدابير أخرى سوف تساعد أيضاً على تحفيز الإقتصاد. الروتين المفرط الذي يضيّق ويضايق القطاع الخاص في البلاد. وفقاً لتقرير ممارسة تصنيف الأعمال لعام 2016 الصادر عن مجموعة البنك الدولي، إحتلت الجزائر المرتبة 163 من أصل 189 دولة لبيئة أعمالها. وهذا يجعل من الصعب جذب الإستثمار الأجنبي ويشل الشركات المحلية. إن فتح شركة جديدة في الجزائر يستغرق حوالي 20 يوماً ويتطلب 12 إجراء مختلفاً، مقارنة بعشرة أيام وأربعة إجراءات في المغرب و11 يوماً وعشرة إجراءات في تونس. لقد أدى هذا الأمر في الجزائر إلى عالم أعمال منقسم: في مجموعة أولى، هناك تلك الشركات التي تستفيد من الإتصالات السياسية. في مجموعة أخرى، توجد أي شركة أخرى.
في موازنتها للعام 2016، وضعت الحكومة تدابير جديدة لجذب المستثمرين من القطاع الخاص. كان واحد من تحركاتها الأكثر إثارة للدهشة منح الإذن للشركات المملوكة للدولة بيع ما يصل الى 66 في المئة من أسهمها لمستثمرين من القطاع الخاص، مع إمكانية بيع كامل بعد خمس سنوات، على الرغم من أن الحكومة سيكون عليها الموافقة على هذه الصفقات. من الناحية النظرية، إن تحرير بعض الأعمال الرئيسية المملوكة للدولة في الجزائر لرأس المال الخاص قد يؤدي إلى تحسين أدائها. ولكن هذا الإجراء وحده سيكون له تأثير محدود.

العدو داخلي

في الوقت عينه، تواجه الجزائر خطر الإرهاب. كل يوم، تُعلن الصحف عن إنجاز جديد. “إرهابي يُسلّم نفسه في تمنراست”، “القضاء على ثلاثة إرهابيين في ولاية تيزي أوزو”، “قتل إرهابيين قرب البويرة”. وتزعم الحكومة أن قوات الأمن قد قتلت 109 إرهابيين في العام 2015. كما تسرد تقارير يومية عدد الإرهابيين الذين قتلوا والموقع الذي قتلوا فيه، لكنها لا تصف الروابط بين الإرهابيين أو شرح أنشطتهم أو خططهم.
في معظم الحالات، تشير هذه التقارير إلى منطقة القبائل، إلى الشرق من الجزائر العاصمة. قيادة السيارة في أنحاء المنطقة، تمكّنك أن تفهم لماذا يختارها المتمردون المسلحون كقاعدة. خارج القرى المكتظة بالسكان تقع تلال مهجورة تغطيها الغابات وقمم صخرية عالية. على هذه الطرق، يحرس مسلحون كل مناطق العبور. ويبدو مجندو الجيش دائماً صغاراً جداً في زيهم ورشاشاتهم الكلاشينكوف، فيما هم يلوّحون لتسيير حركة المرور أو من خلال المراقبة من وراء حواجز إسمنتية واقية. تحرس أكياس الرمل جدران الثكنات العسكرية، وتحيط بالثكنات المؤقتة الصغيرة أسلاك شائكة. يحاول الجيش الجزائري إحتلال كل المناطق البرية، وغير المأهولة، خشية أن يترسخ العدو فيها. لكن من غير الواضح بالضبط من هو هذا العدو.
هناك نوعان من الروايات حول الإرهاب والوجود العسكري في أهم المناطق القبلية في الجزائر. بالنسبة إلى البعض، إن النشاط الإرهابي في منطقة القبائل، هو إرث الحرب الأهلية. المنظمات الإرهابية مثل “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، التي أصبحت في ما بعد “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، تشكّلت فيما كانت الحرب الأهلية تضع أوزارها. بعد ذلك تجذّرت في المنطقة خلال “الربيع الأسود” في العام 2001، عندما قتلت الشرطة مراهقاً الأمر الذي أثار سلسلة من الإحتجاجات. وأدت حملة القمع التي تلت إلى 126 حالة وفاة، معظمهم من الشباب. ويشير البعض إلى أن هذا التوتر بين قوات الحكومة والناس الذين يعيشون في منطقة القبائل كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى إنشاء الجماعات المتشددة هناك.
ويعتقد آخرون، مع ذلك، بأن السلطات تشجّع، أو على الأقل تسمح، للجماعات الإرهابية بالعمل كوسيلة لتبرير الوجود العسكري الكثيف في المنطقة. فهم يرون أن وجود الحكومة القوي هو إستمرار للسياسات السابقة التي تهدف إلى “تعريب” البربر في الجزائر. ومن المرجح أن الحقيقة هي مزيج من الروايتين معاً. قد يجد النظام أنه من المفيد السماح لحد أدنى من العنف كمبرر لتضخيم موازنة القوات المسلحة (الجزائر هي أكبر مشتر للسلاح في القارة الإفريقية).
في الجنوب، تبدو التحديات الأمنية في الجزائر أكثر وضوحاً. لقد تسلل مسلحون عبر الحدود التي يسهل إختراقها مع ليبيا ومالي. في أوائل العام 2013، على سبيل المثال، هاجم إرهابيون مصنع أميناس للغاز، مما أسفر عن مقتل 39 رهينة و29 متشدداً. إن إنهيار الأمن في منطقة الساحل وشمال أفريقيا منذ العام 2011 عزز دور الجزائر كحليف حاسم للغرب في الحرب ضد الإرهاب، والتعاون مع فرنسا والولايات المتحدة تكثّف في السنوات الأخيرة. الجزائر هي الآن عضو في الشراكة لمكافحة الإرهاب عبر الصحراء التى تقودها الولايات المتحدة. ولكن، كما يدرك النظام جيداً، إن هذا التعاون يساعد على ردع الضغوط الدولية على حكام البلاد من أجل إجراء وتنفيذ الإصلاح السياسي والإقتصادي.
وبالتالي سوف يتابع النظام الجزائري إرتباكه وترهله. إن سعر النفط، في جزء منه، يحدّد قدرة النظام على درء إرتفاع السخط الشعبي، ولكن الجزء الآخر سوف تحدده الخطوات التي تتخذها القيادة الحالية للتحضير لخروج بوتفليقة. إن النظام يتمتع بحسن الحظ لأن المعارضة لا تزال منقسمة. ولكن إذا لم تسنّ الحكومة الجزائرية الإصلاحات اللازمة في المدى المنظور، فإن إستياء الرأي العام، المستمر منذ فترة طويلة، قد ينفجر قريباً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى