إيران تَعبُرُ إلى العالم من بوابة عُمان

عُرفت سلطنة عُمان بدورها في تقريب وجهات النظر داخل البيت الخليجي أو بين دول الخليج العربية وجيرانها، في الكثير من القضايا الحساسة. ورغم كونها عضواً في مجلس التعاون الخليجي، فقد تميّزت بعلاقات حسنة مع إيران، وتبنّت مواقف محايدة وأحياناً مخالفة للإجماع الخليجي في عدد من القضايا الإقليمية، من دون أن تتخلّى عن حرصها على نبذ الصدام وإبقاء باب الحوار مفتوحاً مع جميع الأطراف.
ومع إلغاء العقوبات الدولية عن إيران أخيراً، توثّقت العلاقات الإقتصادية أكثر من أي وقت مضى بين مسقط وطهران حيث تحوّلت السلطنة إلى بوابة للجمهورية الإسلامية الإقتصادية للإنطلاق إلى العالم.

مضيق هرمز: يجمغ مصالح عُمان وإيران
مضيق هرمز: يجمغ مصالح عُمان وإيران
5

مسقط – سمير الحسيني

ترتبط سلطنة عُمان وإيران بعلاقة قديمة تاريخياً لم تكن دائماً ودودة، إلّا أنها شكّلت أمراً واقعاً تفرضه الجغرافيا والمصالح المشتركة بين قوتين بحريتين كبيرتين تسيطران على مدخل الخليج العربي. وقد إتخذت هذه العلاقة شكل تعاون سياسي ناضج بعد تولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم في العام 1970، حيث أمدّت إيران، وكل من الأردن وبريطانيا، السلطان قابوس بالدعم العسكري لمواجهة الثورة في ظفار، في حين كانت بعض الدول العربية تدعم الثوار رسميا وتدرّبهم. وفي المقابل سعت عُمان نحو تقريب إيران من دول الخليج العربية الأخرى، حيث دعا السلطان قابوس في العام 1976 إلى عقد محادثات بين الدول الثماني المطلة على الخليج العربي، على أمل تقريب وجهات النظر وإزالة سوء التفاهم التاريخي بين تلك الأطراف، إلا أن المحادثات لم تحقّق نجاحاً يُذكر. وعند قيام الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية في أواخر سبعينات القرن الفائت، حافظت مسقط على علاقاتها بطهران رغم العداء المتنامي ضد إيران في المنطقة وعلى الصعيد العالمي على حد سواء. وحتى بعد إندلاع الحرب العراقية – الإيرانية في العام 1980، والتي استمرت نحو عقد من الزمن، وساندت دول الخليج خلالها العراق، إستمرت العلاقات العُمانية الإيرانية من دون إنقطاع.
ولم تكتفِ عُمان بالحفاظ على خط الإتصال مفتوحاً مع طهران، وإنما لعبت دور الوسيط في مرات عديدة بينها وبين الدول العربية، وبينها وبين القوى الغربية كبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وفي الحرب العراقية – الإيرانية، إحتضنت مسقط محادثات سرية بين الطرفين المتنازعين لوقف إطلاق النار، ورفضت الدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها ديبلوماسياً وإقتصادياً فى العام 1987، وكذلك رفضت السماح للعراق بإستخدام أراضيها للهجوم على جزر أبي موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى. وبعد إنتهاء تلك الحرب توسّطت السلطنة لإعادة العلاقات بين إيران والسعودية وإيران والمملكة المتحدة. كما لعبت مسقط دوراً مهماً في إستمرار الحوار بين إيران ومصر في أثناء فترة إنقطاع العلاقات الديبلوماسية بينهما بعد الثورة الإيرانية وحتى آذار (مارس) 1991، وساعدت في تحرير الأسرى، والبحارة والصيادين المصريين المُحتجَزين لدى إيران خلال سنوات الحرب مع العراق.
إلًا أن حرب الخليج الثانية (1990-1991) تسببت في توتر العلاقات بين مسقط وطهران بعد قيام الأخيرة بالتعرض لناقلات النفط التي تعبر مضيق هرمز، وكذلك نشرها للصواريخ المضادة للسفن بالقرب منه، مما حدا بعُمان إلى تكثيف تواجدها العسكري في مسندم، المطلة على مضيق هرمز، والتي تبعد مسافة لا تتجاوز الستين كيلومترا عن الحدود الإيرانية. لكن الطرفين ما لبثا أن تجاوزا التوتر الطارئ، وعادت العلاقات إلى طابعها التعاوني، حيث توسطت السلطنة وبنجاح مرات عدة لتحرير رهائن غربيين محتجزين لدى طهران، كما حدث في العام 2007 من أجل الإفراج عن بحارة بريطانيين، ثم في العام 2011 للإفراج عن رهائن أميركيين، حيث تردد أن مسقط دفعت مليون ونصف المليون دولار للإفراج عنهم، وأرسلت طائرة لنقل الرهائن من طهران. كما وافقت عمان على تمثيل المصالح الإيرانية في بعض الدول الغربية التي ليس للجمهورية الإسلامية فيها أي تمثيل ديبلوماسي، كبريطانيا وكندا. وعلى إمتداد فترة الخلاف النووي بين إيران والغرب، ظلت عُمان تؤكد على ضرورة الحل السلمي والحوار المباشر بين جميع الأطراف لحل إشكالية الملف النووي الإيراني وتجنيب المنطقة خطر الحرب التي بدت في بعض الأحيان وشيكة.
وفي حوار مع الصحافة الأميركية في العام 2012، أكد السلطان قابوس بن سعيد أن “على إيران والولايات المتحدة الأميركية أن تجلسا معاً وتتحدثا”، ولم يكن هذا التصريح سوى مؤشر لما يحدث خلف الكواليس، حيث لعبت الديبلوماسية العُمانية دور الوسيط في الترتيب لهذا الحوار بين الطرفين وتعزيز فرص نجاحه. وإستضافت مسقط إجتماعات سرية بين ديبلوماسيين وقادة أمنيين من كلا البلدين، منذ العام 2011 في محاولة للوصول إلى أرضية مشتركة، إلى أن تكللت جهودها بالنجاح في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 من خلال توصل إيران إلى إتفاق جنيف مع مجموعة الدول 5 + 1.
الواقع أن عُمان تشترك مع إيران في مضيق هرمز وتحافظ على علاقات ودية معها، على الرغم من عضويتها في مجلس التعاون لدول الخليج التي تعادي معظم دوله الجمهورية الإسلامية. وفيما تعود إيران تدريجاً إلى الإندماج في الإقتصاد العالمي، فقد أصبحت السلطنة نقطة إنطلاق للشركات الايرانية التي تسعى إلى إختراق الأسواق الأفريقية والآسيوية والعربية الجديدة.
إن ظهور عُمان كمركز حرج ومهم للتجارة الذي يربط إيران إلى قارات عدة يتسّق مع السياسة الخارجية المستقلة التي تنتهجها السلطنة، والتي تعمل في كثير من الأحيان خارج إطار دول مجلس التعاون الخليجي. وتمتد جذور روابط عُمان التجارية والثقافية والجغرافية إلى أراض غير عربية مؤصّلة في تاريخها كإمبراطورية إمتدت سلطتها عبر دول كالهند وباكستان وإيران والصومال وموزامبيق وتنزانيا. إن هوية المحيط الهندي بالنسبة إلى عُمان تتجاوز في كثير من الأحيان الهوية العربية/الإسلامية وعضويتها في مجلس التعاون الخليجي.
والآن فيما تنفض إيران الغبار عن عزلتها الدولية وتتخلص من العقوبات التي تحمّلتها لسنوات، فإن السلطنة لديها فرص جديدة لترسيخ مكانتها كممر تجاري متزايد الأهمية.
تم تنفيذ خطة العمل المشتركة الشاملة في كانون الثاني (يناير) الفائت. وبعد ستة أيام، أفادت معلومات صحافية بأن سفير طهران في مسقط، علي أكبر سيبويه، أعلن أن إيران سوف “تكافىء” العاصمة العُمانية، مسقط، على دورها المؤثر في الوصول إلى الإتفاق النووي الأخير ورفع العقوبات. وقال سيبويه: “الأصدقاء في أوقات الحاجة قلّة وقد وقفت عُمان معنا في السراء والضراء، ونحن لا ننسى أصدقاءنا”.
وأعلن أن ثمة تخطيطاً لإقامة جسر علوي على مضيق هرمز يربط السلطنة بإيران. وقال لصحيفة الوطن العُمانية “سوف يكون الجسر هو جسر سلام وصداقة بين إيران من جانب والسلطنة وبلدان مجلس التعاون الخليجي الأخرى واليمن من جانب آخر”، وأضاف: ”سوف يؤدي الجسر إلى تعزيز العلاقات في كل المجالات بين بلدينا”.
وأوضح أنه سوف يربط كذلك إيران إقتصادياً وتجارياً بدول مجلس التعاون الخليجي واليمن عبر السلطنة، بالإضافة إلى تحفيز حركة السياحة في كلا الاتجاهين. وأعلن سيبويه أنه سوف يتم إستخدام أحدث التقنيات في بناء وإدارة الجسر وسوف يتضمن مقاولين من السلطنة وإيران. يأتي هذا بعد وقت قصير من الاتفاق بين البلدين على زيادة الرحلات بينهما وهو ما يعني تعزيز العلاقات.
وبعيداً من التصاريح، فقد نفّذت إيران وعدها بمكافأة عُمان في آذار (مارس) الفائت عندما أعلنت أنها بصدد إنشاء مشروع مشترك بقيمة 200 مليون دولار مع السلطنة، الذي سُمّي، “أوركيد الدولي للسيارات”، والذي يهدف إلى بناء مصنع للسيارات في مدينة الدقم، الواقعة على طول ساحل بحر العرب في السلطنة. وسوف يتقاسم صندوق الإستثمار المملوك للدولة العُمانية ملكية المشروع مع الشركة الإيرانية “خودرو” – أكبر شركة سيارات في ايران – ومستثمر عُماني.
تعتزم مجموعة السيارات الإيرانية أن تبدأ العمل في العام المقبل بإنتاج 20,000 وحدة قبل منتصف العام 2018. وقد أعلن الرئيس التنفيذي لشركة “خودرو” الإيرانية، هاشم يكه – زاري، أن 5000 وحدة فقط تستهدف السوق العُمانية وأن 15,000 الأخرى ستُصدّر إلى أثيوبيا وأريتريا والسودان واليمن. كما تخطط إيران مشاريع عدة أخرى في عُمان، بما في ذلك مصنع لتكنولوجيا النانو، ومجمع مستشفيات وتدشين رحلات جوية بين عُمان ومدينة شهبار في إيران.
في كانون الثاني (يناير) الفائت، وقّعت شركة “خودرو” أيضاً على صفقة قيمتها 436 مليون دولار والتي بموجبها سوف تنتج شركة “بيجو ستروين” الفرنسية 200،000 سيارة سنوياً في ذروة المشروع. وهذه الشركة سوف تكون شريكة على قدم المساواة، كما ذكرت “فايننشال تريبيون” الإيرانية.
من ناحية أخرى، أدّى تراجع أسعار النفط إلى ضرر شديد في مالية الدولة في عُمان، الأمر الذي أوقع البلد الخليجي العربي في أزمة مالية. مثل دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، فإن السلطنة عازمة على تنويع مصادر دخلها. في الواقع، قبل 21 عاماً من إعلان ولي ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان عن رؤية المملكة لعام 2030، كانت عُمان وضعت رؤيتها لعام 2020، والتي تهدف أيضاً إلى تنمية الإقتصاد الخاص في البلاد، وزيادة الإيرادات من خارج قطاع النفط والإستثمار في رأس المال البشري في البلاد.
خلال زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى مسقط في آذار (مارس) 2014، وافق المسؤولون العُمانيون والإيرانيون على إنشاء خط أنابيب للغاز تحت سطح البحر بطول 124 ميلاً يربط بين البلدين. فيما تتجه عُمان إلى تصدير الغاز الطبيعي المُسال كوسيلة لتقليل الإعتماد على النفط، فإن إستيراد الغاز الإيراني للإستهلاك المحلي في السلطنة يمكن أن يحرّر الدولة الخليجية لبيع المزيد من الغاز الطبيعي المُسال إلى دول أجنبية.
تُقدّم عُمان لإيران نقطة إنطلاق إلى أفريقيا، ولكن رفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية يمكن أيضاً أن يفضي إلى تعميق علاقات السلطنة في مجال الطاقة، عبر إيران، بآسيا الوسطى الغنية بالغاز. إن إقرار الإتفاق النووي المؤقت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 مثّل خطوة مهمة نحو بناء العلاقة التجارية بين آسيا الوسطى وإيران وسلطنة عُمان. في آب (أغسطس) 2014، إجتمع وزراء خارجية عُمان وإيران وتركمانستان وأوزبكستان في مسقط لتوقيع مذكرة تفاهم حول “إنشاء ممر نقل دولي وعابر (ترانزيت)” في إطار إتفاق “عشق أباد”، الذي وُقّع في العام 2011 لإنشاء الممر بين البلدان الأربعة. (ومنذ ذلك الحين، إنضمت الهند وكازاخستان). إستعرض وزراء الخارجية أيضاً مبادئ لفتح الموانئ العُمانية صحار والدقم وصلالة إلى آسيا الوسطى. إن آفاق هذا الممر التجاري قد دفعت بلا شك المسؤولين العُمانيين للمتابعة الديبلوماسية بهدف الإفراج عن تجارة إيران مع العالم الخارجي وتخفيف حدة التوتر بين طهران وخصومها.
من وجهة نظر المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى فإن إعادة إدماج ايران في الإقتصاد العالمي تشكّل أمراً مزعجاً، ولو أنها متوقعة، نتيجة خطة العمل المشترك الشاملة. كان السعوديون غاضبين عندما علموا أن نظراءهم العُمانيين قد إستضافوا محادثات سرية حول الإتفاق النووي بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين وإتّبعوا سبلاً ديبلوماسية بشكل مستقل عن دول مجلس التعاون. وفيما تواصل عُمان لعب دور أساسي في جهود إيران لتطوير أسواق جديدة عبر المحيط الهندي والشرق الأوسط الكبير، فإن مسألة تعميق العلاقات بين مسقط وطهران من المرجح أن تظل مصدراً للتوتر في مجلس التعاون الخليجي. إن المجلس من دون شك حذر وقلق من إتباع عُمان سياسة خارجية مستقلة يمكن أن تُضعف إطار الأمن الجماعي لدول الخليج العربية.
ولكن فيما التجارة العُمانية الإيرانية تنمو، وموانئ مثل الدقم تقدم فرصاً عريضة لإيران لا تعد ولا تحصى، فإن أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي لديهم أيضا الكثير لكسبه من تعزيز البنية التحتية في السلطنة وقدرتها على الوصول إلى بحر العرب والمحيط الهندي. عندما بدأ العُمانيون بناء ميناء الدقم في العام 2013، إعترفت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بالفرصة التي تقلّل إعتمادهما على مضيق هرمز لنقل نفطهما وأطلقت كل منهما خططاً لوصل الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب بالدقم.
كبلد مستقر سياسياً في الزاوية الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية، فإن عُمان مُحاطة ببعض خطوط الصدع الجيوسياسية الأكثر حساسية في العالم، وممرات تجارية مهمة. تحت قيادة السلطان قابوس بن سعيد، إستطاعت مسقط أن تُبحِر بحذر وواقعية عبر بحار الإنقسامات الجغرافية الطائفية في المنطقة للحفاظ على علاقات إيجابية مع كل القوى. وثمة ركيزة أساسية للسياسة الخارجية في السلطنة تتمثل في تحقيق توازن بين مصالح جيرانها الأكثر قوة لدفع مصالحها الخاصة.
من جهتهم نظر العمانيون طويلاً إلى المملكة العربية السعودية باعتبارها جارة متعجرفة، واليوم هناك خلافات قوية بين المسؤولين في مسقط والرياض حول العديد من القضايا، بدءاً من إنتاج النفط الى التدخل العسكري السعودي في اليمن. إن تعميق العلاقات مع إيران تسمح لعُمان بتأمين إستقلال جيوسياسي عن الرياض، والذي سوف يستمر فيما المزيد من العقوبات تُرفع ضد إيران، وتقدّم فرصاً جديدة للسلطنة في الإقتصاد العالمي. إن تزايد الممر التجاري العُماني – الإيراني سوف يسهّل تأكيد وضمان نهج سلطنة عُمان بإتباع سياسة خارجية مستقلة متجذّرة في تاريخ البلاد الفريد كمركز لإمبراطورية المحيط الهندي. في الواقع، فيما يُخطّط العُمانيون لمستقبلهم، فإنهم ينظرون، في الوقت عينه، إلى ماضيهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى