ثورة الطاقة النظيفة

في 22 نيسان (إبريل) الفائت جمع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أكثر من مئة رئيس دولة وحكومة في مقر المنظمة الدولية في نيويورك حيث وقّعوا على الإتفاق الدولي الذي تم التوصل إليه في نهاية العام الفائت في ضاحية “بورجيه” الباريسية حول سبل الحد من غازات الدفيئة والتكيّف مع إنعكاساتها السلبية، الأمر الذي فتح الطريق أمام ثورة في مجال الطاقة النظيفة عمادها الإبتكار تقودها الولايات المتحدة.

سيارة "تيسلا" الكهربائية: جذبت إستثمارات خاصة وعامة
سيارة “تيسلا” الكهربائية: جذبت إستثمارات خاصة وعامة

واشنطن – محمد زين الدين

فيما كان مؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ في باريس يختتم أعماله في كانون الأول (ديسمبر) 2015، رفع وزراء الخارجية، الذين حضروا من جميع أنحاء العالم، أياديهم كعلامة إنتصار. في الواقع، كان هناك شيء للإحتفال به في العاصمة الفرنسية أكثر مما كان عليه الوضع في أي قمة مناخ سابقة. قبل المؤتمر، قدّم أكثر من 180 بلداً خططاً مُفصّلة للحد من إنبعاثات غازات الدفيئة لديها. وبعد أسبوعين من المفاوضات المُكثّفة، وافق 195 بلداً على تقديم خطط جديدة وأقوى كل خمس سنوات.
ولكن من دون تقدّم كبير في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، فإن إتفاق باريس قد يؤدي بدول كثيرة إلى تحقيق تحسينات متواضعة في خططها المستقبلية الخاصة بالمناخ. وهذا لن يكون كافياً. حتى لو إستوفيت ونُفّذت التعهدات القائمة، فإنه من المرجح أن ترتفع حرارة الأرض بين 2.7 إلى 3.5 درجة مئوية – الأمر الذي يُهدّد الكوكب بكارثة. كما أن خفض الإنبعاثات أكثر من ذلك ليس مُحبَّذاً أو مُحبَّباً سياسياً، وبخاصة في البلدان النامية: مثل الهند، حيث يتعيّن على صناع القرار فيها الإختيار بين دفع النمو الإقتصادي والتخلّص التدريجي من الوقود الأحفوري القذر. لذا، طالما إستمرت هذه المقايضة، فإن الديبلوماسيين سوف يأتون إلى مؤتمرات المناخ وأيديهم مُكبّلة.
في الواقع، على هامش القمة فقط، كانت باريس تُسرّب الأخبار الجيدة على جبهة التكنولوجيا. لقد كشف بيل غيتس النقاب عن “إئتلاف إختراق الطاقة” (Breakthrough Energy Coalition)، الذي يضم أكثر من عشرين من الراعين الأغنياء الذين يُخطّطون للإستثمار في شركات تكنولوجيا مبتدئة للطاقة النظيفة. وأعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما “مهمة الإبتكار”، التي تقوم على إتفاق بين 20 بلداً — بما فيها أكبر ثلاثة بلدان في العالم في إنبعاثات الكربون: الصين، والولايات المتحدة، والهند — لمضاعفة التمويل الحكومي في مجال البحث وتطوير الطاقة النظيفة إلى 20 مليار دولار سنوياً بحلول العام 2020. الواقع أن واشنطن سوف تُحيي، أو تَقضي على، هذا التعهّد، إذ أن أكثر من نصف الهدف سيأتي من مضاعفة موازنة الحكومة الأميركية الحالية البالغة 6.4 مليارات دولار سنوياً.
إن مكافحة تغيّر المناخ بنجاح سوف تتطلب سياسات حكومية حسّاسة بالتأكيد بالنسبة إلى تكافؤ الملعب الإقتصادي بين الطاقة النظيفة والقذرة، مثل وضع سعر على إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. ولكن ذلك يتطلب سياسات تُشجِّع الإستثمار في تكنولوجيات جديدة للطاقة النظيفة، والتي قد لا تولّد فرصاً متكافئة من تلقاء نفسها. وهذا الأمر سوف يتطلب قيادة أميركا، البلد الوحيد الذي يتمتع بالقدرة على الإبتكار المطلوب. في الماضي، شهدت الولايات المتحدة طفرة إستثمارات في مجال الإبتكار في الطاقة النظيفة، إلا أنها خمدت بعد فترة. لمنع ذلك من الحدوث مرة أخرى، فإنه ينبغي على الإدارة الأميركية زيادة الدعم بشكل كبير للشركات في القطاعين الخاص والعام في الداخل والخارج التي تهتم في الأبحاث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة. للتأكيد، إن المهمة شاقة، وكذلك هي مخاطر عدم التحرك.

لا توقّف عن التفكير في الغد

المفتاح لمستقبلٍ مُنخَفِض الكربون يكمن في الطاقة الكهربائية. إن التحسينات في هذه الصناعة مهمة ليس فقط بسبب أن الطاقة الكهربائية تشكّل أكبر حصة من إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ولكن لأن جني ثمار مصب الإبتكارات — مثل المركبات الكهربائية — يتطلب إمدادات منبع نظيف للكهرباء. تمثّل محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالوقود الأحفوري الآن حوالي 70 في المئة من الكهرباء تقريباً على مستوى العالم. ولكن بحلول العام 2050، حذّرت وكالة الطاقة الدولية بأن هذه النسبة سوف تنخفض إلى سبعة في المئة فقط لإعطاء العالم فرصة، لا تتعدّى نسبتها 50 في المئة، للحدّ من ظاهرة الإحتباس الحراري بدرجتين مئويتين. إن المزيد من الطاقة العاملة بالوقود الأحفوري يكون مقبولاً إذا كان في الإمكان إلتقاط إنبعاثات الكربون وتخزينها تحت الأرض. ومصادر الطاقة الخالية من الكربون، مثل الشمس والرياح والطاقة الكهرومائية والطاقة النووية، سوف تحتاج إلى النمو بسرعة، إلى درجة أن تكون قادرة على توفير معظم الطاقة الكهربائية في العالم بحلول منتصف القرن.
مع ذلك، فإن المشكلة هي أن التكنولوجيات النظيفة الآن تحقق تقدماً على هامش عالم الوقود الأحفوري قد لا يكون كافياً في عالم تهيمن عليه الطاقة النظيفة. إن تكاليف طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية، على سبيل المثال، تنخفض قريباً من تلك للغاز الطبيعي والفحم في الولايات المتحدة، ولكن هذا كان ممكناً بسبب مولّدات الوقود الأحفوري المرنة، التي تخفّف الطاقة المتفاوتة للغاية التي تنتجها الشمس والرياح. وتكثيف المعروض من هذه المصادر المتقطعة سوف يتجاوز العرض على الشبكة الكهربائية في أوقات معينة، مما يجعل الطاقة المتجددة أقل قيمة وتتطلب تقلبات متطرفة لتضاؤل إنتاج الوقود الأحفوري. إن الطاقة النووية والكهرومائية، من جانبهما، هما أكثر موثوقية، ولكن كلاهما واجه معارضة بيئية شديدة على حد سواء. نتيجة لذلك، فإن محاولة خلق شبكة كهرباء خالية من الكربون مع التقنيات المتاحة الآن فعلياً ستكون مُكلفة ومُعقّدة، ولا تحظى بشعبية.
بالمثل، إن تنظيف صناعة المواصلات والنقل سوف يتطلب قفزات تكنولوجية كبيرة إلى الأمام. فالوقود البديل بالكاد يكون تنافسياً عندما ترتفع أسعار النفط، وفي العقود المقبلة، إذا نجحت السياسات المناخية في الحد من الطلب على النفط، فإن سعره سينخفض، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة لأنواع وقود بديلة للمنافسة. إن الغرق الأخير لأسعار النفط يقدّم الطعم المُنذر للمشاكل التي ستأتي: لقد أدى بالفعل إلى إفلاس شركات الوقود الحيوي وأبعد المستهلكين من السيارات الكهربائية.
كل هذا يعني بأن نظاماً للطاقة النظيفة، بأسعار معقولة، ويمكن الإعتماد عليه، سوف يتطلب مجموعة متنوعة من تقنيات مُنخفِضة الكربون متفوّقة على الخيارات الموجودة. لا تزال مولّدات الطاقة النووية والفحم والغاز الطبيعي ضرورية لتوفير الطاقة التي يمكن التنبؤ بها. ولكن تصاميم المفاعلات الجديدة قد يمكنها جعل الإنصهار النووي مستحيلاً مادياً أو فيزيائياً، والأغشية الهندسية المُعتمِدة على تقنية “النانو” يمكنها منع إنبعاثات الكربون في محطات توليد الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري. كما أن الطلاء الشمسي الرخيص مثل ورق الجدران يمكنه تمكين المباني من توليد المزيد من الطاقة أكثر مما تستهلك. وتكنولوجيات التخزين المتقدمة — من البطاريات كثيفة الطاقة إلى المحفزات التي تسخّر أشعة الشمس لتقسيم المياه وخلق وقود الهيدروجين – تستطيع أن تحقق إستقرار شبكات الكهرباء وطاقة المركبات. وقائمة الأمنيات تطول: طرق جديدة للاستفادة من خزانات الطاقة الحرارية الأرضية التي كان يتعذّر الوصول إليها في السابق، والوقود الحيوي الذي لا يتنافس مع المحاصيل الغذائية، ومعدات فائقة الكفاءة لتدفئة وتبريد المباني.
كل واحد من هذه الأشياء السالفة ممكن، ولكن هناك حاجة ماسة إلى إختراق رئيسي في المختبر أو حدوث أول إختبار من نوعه للمشروع في الميدان. على سبيل المثال، إن السعي إلى محفز مثالي لإستخدام أشعة الشمس لتقسيم المياه لم ينتج نصراً كيميائياً، وطلاء الطاقة الشمسية الكفوء الذي يُسمى “بيروفسكايت” “perovskite” لا يزال غير جاهز للإستخدام على نطاق واسع. لذلك فمن المثير للقلق بأنه من العام 2007 إلى العام 2014، حتى فيما تضاعفت التدفقات المالية العالمية لنشر الطاقة النظيفة الناضجة إلى 288 مليار دولار، فقد إنخفض الإستثمار الخاص في الشركات الجديدة إلى نحو 50 في المئة، إلى أقل من 2.6 ملياري دولار. ولكن يمكن للولايات المتحدة عكس هذا الاتجاه.

المرة الثالثة ثابتة؟

منذ تطوير الطاقة النووية المدنية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت أميركا طفرتين في حقل الإبتكار في الطاقة النظيفة، تلتهما أزمتان. الطفرة الأولى، التي كانت رداً على الصدمات النفطية في سبعينات القرن الفائت، كان الدافع وراءها الإستثمار العام. من العام 1973 إلى العام 1980، ضاعفت واشنطن الإستثمار أربع مرات في البحث والتطوير في مجال الطاقة، مموّلةً تحسينات كبيرة في مصادر الوقود الأحفوري والطاقة المتجددة على حد سواء. ولكن عندما إنهارت أسعار النفط في ثمانينات القرن الفائت، حثّت إدارة الرئيس رونالد ريغان الكونغرس على الإبقاء على قرارات الإستثمار في الطاقة لقوى السوق. وقد أذعن الكونغرس، مخفّضاً التمويل في مجال البحث والتطوير في قطاع الطاقة بنسبة تزيد على 50 في المئة خلال فترتي ريغان.
بفضل حزمة الحوافز التي قدّمتها إدارة أوبامافإن التمويل الإتحادي ما لبث أن تبع؛ ومن 2009 إلى 2011، أنفقت الحكومة الأميركية أكثر من 100 مليار دولار في القطاع من خلال مزيج من المنح والقروض والحوافز الضريبية (على الرغم من أن معظم هذا التدفق دَعم إستخدام التكنولوجيات القائمة) . بعض الشركات المبتدئة من هذه الفترة أصبح شركات ناجحة متداولة علناً، بما في ذلك صانعة السيارات الكهربائية “تيسلا”، ومثبّتة الألواح الشمسية “سولار سيتي” ( SolarCity)، وصانعة البرامج “الكومبيوترية” “أوباور” (Opower).
ولكن الغالبية العظمى فشلت، وتلك التي صمدت منها عوّضت قليلاً جداً من الخسائر. في الواقع، من أصل مبلغ 36 مليار دولار إستثمرته شركات صنادبق رأس المال من 2004 إلى 2014، فإن ما يصل إلى النصف قد خُسِر وضاع. لقد إنتهت الطفرة فجأة: من 2010 إلى 2014، خفّضت شركات رأس المال الإستثماري محافظها الاستثمارية في قطاع الطاقة النظيفة بنسبة 75 في المئة. والحكومة الأميركية الإتحادية، التي كانت تعاني من رد فعل سلبي سياسي حول إفلاس بعض المستفيدين من ضمانات القروض الفيديرالية (وأشهرها، الشركة المصنعة لألواح الطاقة الشمسية “سوليندرا”)، قلّصت دعمها للمشاريع المحفوفة بالمخاطر أيضاً.
مع ذلك، لم يكن كل شيء خاسراً، ففشل هاتين الموجتين يقدم دروساً لكيفية التأكد من أن الواحدة الآتية ستُثبت على أنها أكثر دواماً. أولاً، لقد كشفتا عن مدى أهمية التمويل الحكومي: بعد خفض الدعم الإتحادي للبحث والتطوير في قطاع الطاقة الأميركي في ثمانينات القرن الفائت، فقد إنخفض معه عدد إيداعات البراءات التي تشمل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة النووية. اليوم، على الرغم من أن الولايات المتحدة هي أكبر مموّل للبحث والتطوير في مجال الطاقة في العالم، فهي تُنفق بشكل مزمن دون المستوى المطلوب بالمقارنة مع إستثماراتها في أولويات بحثية وطنية أخرى. إن مبلغ ال6.4 مليارات دولار المخصّص للبحث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة هو مجرد جزء صغير إذا ما قورن بالمبلغ الذي أنفق على إستكشاف الفضاء (13 مليار دولار)، والطب (31 مليار دولار)، والدفاع (78 مليار دولار). نظراً إلى هذه الفجوة الكبيرة، ينبغي على الكونغرس الإهتمام ومتابعة تعهّد “مهمة الإبتكار”، وعلى الأقل مضاعفة تمويل البحث والتطوير للطاقة النظيفة. وفعلياً، وافق الكونغرس على زيادة الإنفاق في مجال البحث والتطوير التطبيقي للطاقة بنسبة عشرة في المئة في موازنته للعام 2016، أكثر من الزيادة التي قررها للإنفاق على أي بحث أو تطوير لأي برنامج أو وكالة أو إدارة رئيسية أخرى. ولكن إبتداء من العام 2017، فإن مضاعفة الموازنة في غضون خمس سنوات سوف يتطلب زيادات سنوية لا تقل عن 15 في المئة.
الدرس الثاني هو أن على الحكومة ليس فقط تمويل البحوث الأساسية فحسب، بل تطبيق مشاريع البحوث والإختبار أيضاً. يعود إنحياز واشنطن في هذا المجال إلى عقود. في تقريره المؤثّر في العام 1945، “العلوم، الحدود التي لا نهاية لها” (Science, the Endless Frontier)، حثّ فانيفار بوش، كبير مستشاري العلوم لدى الرئيس فرانكلين روزفلت، الحكومة الأميركية على التركيز على البحوث الأساسية، التي من شأنها أن تولّد أفكاراً كان من المفترض أن يترجمها القطاع الخاص إلى تكنولوجيات تجارية. وقد إهتمت غالبية الإدارات المتعاقبة بنصيحته، وضاعف ريغان جهوده في هذا الحقل، مُخفّضاً كل التمويل تقريباً للبحث والتطوير في مجال الطاقة التطبيقية. بحلول أواخر تسعينات القرن الفائت، صارت البحوث الأساسية تشكل نحو 60 في المئة من مجموع الإنفاق الفيديرالي على البحث والتطوير للطاقة. مع ذلك، بدلاً من خلق مجالٍ أمام القطاع الخاص لإلتقاط العملية حيث تركتها الحكومة، فإن التخفيضات في الموازنة خوّفته وأبعدته. لذا إنكمش الإستثمار الخاص بمقدار النصف بين 1985 و1995، فاتحاً السُبُل أمام الإدارة الأميركية للإستثمار العام في أنواع بديلة من الوقود، وألواح الطاقة الشمسية، والمفاعلات النووية المتقدمة.
من ناحية أخرى، تكشّفت قصة مماثلة في نهاية الطفرة الثانية من الإبتكار في مجال الطاقة النظيفة. عندما إنتهت فترة التمويل التحفيزي بعد العام 2011، فإن التمويل العام لمشاريع الإختبار – التي تثبت ما إذا كانت التقنيات الجديدة تعمل في ظروف العالم الحقيقي — إنخفض بأكثر من 90 في المئة. كان من المتوقع أن يتشارك المستثمرون من القطاع الخاص في الخطر في هذه المشاريع مع الحكومة الإتحادية، ولكن عندما تبخّر التمويل الحكومي، سحب المستثمرون أموالهم – الأمر الذي أدّى، من بين أمور أخرى، إلى إلغاء مشاريع عدة لإلتقاط وتخزين إنبعاثات الكربون من محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم.
وبالتالي، يتعيّن على صناع القرار في أميركا زيادة هذا النوع من الإستثمار العام الذي يجذب رؤوس الأموال الخاصة. وتحقيقاً لهذه الغاية، ينبغي أن تكون الأولوية الأولى إعادة التمويل العام لمشاريع الإختبار. آخر معقل لدعم هذه المشاريع يمكن العثور عليه في برنامج ضمان القروض المُحاصَر سياسياً في وزارة الطاقة. لعزل التمويل عن الهوى السياسي، فإن مجلس الإبتكار الأميركي في مجال الطاقة، الذي يضم مجموعة من كبار رجال الأعمال، قد إقترح إنشاء شركة محاسبة رسمية فيديرالية مستقلة تقوم بتمويل مشاريع الإختبار. كما إقترح آخرون تمكين الولايات أو المناطق لتمويل مشاريعها الخاصة، مع المطابقة والتقيد بالمنح الإتحادية. إذا إستطاع الإقتراحان المرور عبر الكونغرس، فإن كلاهما قد يفتح باب الإستثمار الخاص بشكل كبير.
من جهتها أحرزت وزارة الطاقة الأميركية مزيداً من التقدم في دعم التقنيات غير الناضجة بما فيه الكفاية للإختبار. في العام 2009، مع وحي من وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة الأميركية، أو “داربا” (DARPA)، أنشأت حاضنة التقنيات عالية المخاطر لدى الجيش الأميركي، “وكالة مشاريع البحوث المتقدمة – للطاقة”، أو “ARPA-E”. وقد إجتذب العديد من مشاريع “ARPA-E” بالفعل إستثمارات من القطاع الخاص. في العام 2013، على سبيل المثال، إستحوذت شركة “غوغل” على “مكاني باور” (Makani Power)، وهي شركة مبتدئة تعمل على تطوير طائرة ورقية تحوّل طاقة الرياح على إرتفاعات عالية إلى طاقة. كما أقامت الوزارة أيضاً شراكات بين القطاعين العام والخاص شملت الحكومة والأكاديميين والشركات أُطلق عليها إسم “مراكز الإبداع” – لتطوير التكنولوجيات المتقدمة. وقد تعهد الرئيس أوباما بزيادة موازنة “ARPA-E” ثلاثة أضعاف إلى مليار دولار بحلول العام 2021 وإنشاء عشرة مراكز جديدة للبحوث للقطاعين العام والخاص في جميع أنحاء البلاد. هنا يجب على الكونغرس الموافقة على هذه المقترحات.
ينبغي على وزارة الطاقة الأميركية توسيع نطاق دعمها لنوع واحد من الشراكة بين القطاعين العام والخاص على وجه الخصوص: الإتحادات الصناعية التي تجمع الموارد لتحقيق أولويات بحثية مشتركة. مرة أخرى، توفّر وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة الأميركية “داربا” نموذجاً. في ثمانينات القرن الفائت، ساعدت في تمويل مجموعة من مصنّعي رقائق الكومبيوتر تدعى “سيماتيك” (SEMATECH)، التي من خلالها إستثمرت الصناعة في معايير بحث وتطوير وتقنية مشتركة. وبحلول العقد التالي، إستطاعت الولايات المتحدة إستعادة ريادتها في السوق من اليابان. والإبتكار في مجال الطاقة النظيفة، على النقيض من ذلك، يعاني من فتور الشركات. من العام 2006 إلى العام 2014، أنفقت الشركات الأميركية 3 مليارات دولار سنوياً على البحث والتطوير المحلي في الطاقة النظيفة وكانت مترددة في الاستعانة بمصادر خارجية في مجال البحث والتطوير في قطاع الطاقة أيضاً، وإكتفت في الحصول على نصف الطاقة النظيفة المبتدئة فقط في كثير من الأحيان كما فعلت مع الشركات الطبية الحيوية المبتدئة.
يجب على الشراكات بين القطاعين العام والخاص في أميركا أن تساعد على تنويع مجموعة مستثمري القطاع الخاص لتمويل الإبتكار في مجال الطاقة النظيفة. في الواقع، إن أصحاب رؤوس الأموال وحدهم لا يكفون، لأن الإستثمارات في مجال الطاقة النظيفة تتطلب أموالاً لفترات أطول مما يريده أو يفضّله أصحاب رؤوس الأموال عموماً. إن “إئتلاف إختراق الطاقة” قد يساعد على حلّ هذه المشكلة من طريق منح القطاع المزيد من رأس المال “الصبور”. وأوضح غيتس أنه وزملاءه المستثمرين سيكونون على إستعداد للإنتظار لسنوات، بل عقود، للحصول على العائد على إستثماراتهم. ولكن رؤيته تعتمد على تكثيف الحكومة أيضاً دعمها.
إن إخفاقات الماضي تُقدّم الدرس الثالث والأخير لواضعي السياسات: الحاجة إلى رفع مجال اللعب حيث تُنافس تكنولوجيات الطاقة النظيفة الناشئة تلك القائمة. في قطاع الكهرباء على وجه الخصوص، إن شركات الإبتكار المبتدئة هي في وضع غير مؤات، لأنها تفتقر إلى متكيّفين أوائل على إستعداد لدفع علاوة على المنتجات الجديدة. أكبر العملاء، المرافق الكهربائية، تميل الى أن تكون على درجة عالية من التنظيم الإحتكاري الإقليمي، والتي لديها القليل من التسامح مع الخطر ولا تنفق الكثير على البحث والتطوير (عادة 0.1 في المئة من إجمالي الإيرادات). تعمل كلٌّ من نيويورك وكاليفورنيا على إصلاح أنظمتهما لتشجيع المرافق على تبنّي التقنيات الجديدة بشكل أسرع. ينبغي على الحكومة الإتحادية أن تدعم هذه الجهود مالياً، أو على أقل تقدير، الخروج من الطريق.
في الواقع، يمكن أن يؤدي تدخّل الحكومة في بعض الأحيان إلى نتائج عكسية. العديد من السياسات الحالية للطاقة النظيفة في أميركا، مثل سلطات الولاية على المرافق للحصول على نسبة معينة من طاقتها من الطاقة المتجددة والإعفاءات الضريبية الاتحادية لمنشآت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، تدعم ضمناً التكنولوجيات الموجودة أصلاً الناضجة. قد تستطيع سياسات أفضل من تنحية المخصصات أو تعرض جوائز للتكنولوجيات الناشئة التي تكلف أكثر الآن ولكن يمكنها أن تكلّف أقل وترفع مستوى الأداء في وقت لاحق. يمكن للإدارة الأميركية حتى أن تصبح عميلة. الجيش، على سبيل المثال، قد يقوم بشراء تقنيات مبتدئة مثل ألواح شمسية مرنة، وبطاريات كثيفة الاستخدام للطاقة، أو مفاعلات صغيرة نووية.

الإبتكار في الخارج

الإبتكار في مجال الطاقة النظيفة على المستوى الدولي يعاني من مشاكل مماثلة. مثل واشنطن، فإن حكومات أخرى تنفق القليل جداً على البحث والتطوير، مع إنخفاض حصة البحث والتطوير في الطاقة النظيفة المموَّلة من القطاع العام من 11 في المئة في أوائل ثمانينات القرن الفائت إلى أربعة في المئة في العام 2015. وبفضل “مهمة الإبتكار”، يمكن أن ينعكس هذا الإتجاه قريباً. ولكن إذا إرتفع الإنفاق بطريقة غير منسَّقة فإن الحكومات قد تكرّر بعض مجالات البحث وتغفل أخرى.
ولأن الحكومات تقدّس إستقلاليتها، فإن الطريقة الخاطئة لحل هذه المشكلة ستكون من خلال عملية مركزية من أعلى إلى أسفل لتوجيه الأولويات البحثية لكل بلد. بدلاً من ذلك، يجب على إحدى المؤسسات القائمة تنسيق الإنفاق من خلال نهج من أسفل إلى أعلى. إن الهيئة الأكثر منطقية لهذه المهمة هي “هيئة الطاقة النظيفة” (Clean Energy Ministerial)، وهي منتدى عالمي تخيلته إدارة أوباما لجمع مسؤولي الطاقة تقريباً من كل بلد مشارك في “مهمة الإبتكار” في الطاقة النظيفة. ومع ذلك، فإن هذا المنتدى من دون موظفين دائمين، ودعم من الإدارة الأميركية المُقبلة، فسوف ينحل تلقائياً. لذا يجب على إدارة أوباما التحرك بسرعة لإقناع شركاء “مهمة الإبتكار” للمساعدة على تمويل أمانة عامة دائمة والموازنة التشغيلية للمنتدى. وعندما يحدث ذلك، يمكن للهيئة أن تصدر التقرير السنوي لنفقات البحث والتطوير لكل عضو، وأي بلدان يمكنها أن تدعو أقرانها للمساءلة عن تعهداتها لتمويل مضاعف. يمكن للمنتدى أيضاً أن يدعو مسؤولين لتبادل الإتجاهات حول حدود البحوث التطبيقية، التي يستقيها من طلبات المنح المُقدَّمة لهيئات التمويل الوطنية.
ثم هناك مشكلة نفور الشركات الأجنبية من الإستثمار في الإبتكار. إن منتجي كل شيء بدءاً من الألواح الشمسية إلى البطاريات، ومعظمهم في آسيا، ركّزوا بدلاً من ذلك على خفض التكاليف بشكل قاس وفي كثير من الحالات إستفادوا من المساعدات الحكومية لبناء القدرات التصنيعية الهائلة لإنتاج التقنيات المفهومة جيداً. اليوم، يتم إنتاج أكثر من ثلثي الألواح الشمسية في الصين، حيث تُنفق غالبية الشركات أقل من واحد في المئة من عائداتها على البحث والتطوير (في الواقع، كان تدفق الألواح الشمسية الرخيصة من الصين، إلى حد كبير، تسبب بإفلاس شركات الطاقة الشمسية المبتدئة في الولايات المتحدة في بداية هذا العقد).
ليس فقط أن هذا السباق العالمي إلى الأسفل يُعيق نمو الإبتكار في مجال الطاقة النظيفة، فهو يطابق أيضاً بشكل سيئ القوة التنافسية للولايات المتحدة. في الصناعات الأخرى، إن الشركات الأميركية الرائدة تولّد مكاسب إقتصادية في الداخل والخارج على حد سواء من خلال الإستثمار بشكل كبير في البحث والتطوير. في الإلكترونيات، والموصلات، والصناعات الطبية، على سبيل المثال، تعيد الشركات الأميركية إستثمار ما يصل الى 20 في المئة من عائداتها في البحث والتطوير.
لتشجيع الشركات الأجنبية على الإستثمار أكثر في البحث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة، ينبغي على أميركا إحتضان التعاون بين القطاعين العام والخاص. إن النموذج الجيد الذي يمكن أن يُحتذى به هو مركز أبحاث الطاقة النظيفة الصيني – الأميركي، الذي أنشئ في العام 2009 ويتم تمويله من قبل حكومتي الولايات المتحدة والصين، والمؤسسات الأكاديمية، والشركات الخاصة. والجدير بالذكر أن هذا المركز قد أزال عقبة رئيسية أمام التعاون الدولي: سرقة الملكية الفكرية. يلتزم المشاركون بقواعد واضحة حول ملكية وترخيص التقنيات التي يبتكرها ويخترعها المركز. وما لم تتفق الدولتان على غير ذلك، فإنه يجب أن تُقدَّم المنازعات إلى التحكيم الدولي الذي تحكمه قواعد الأمم المتحدة. وقد وقّعت عليه أكثر من 100 شركة، وفي العام 2014، مدّدت بكين وواشنطن بحماس هذه الشراكة. لقد حان الوقت بالنسبة إلى الولايات المتحدة لكي تطبق إطار الملكية الفكرية لمركز الأبحاث الصيني الأميركي على التعاون مع الدول الأخرى، مثل الهند، والتي ليس لديها معها أي اتفاق من هذا القبيل.

الثورة المقبلة

من خلال الإستثمار المحلي وقيادة حملة تكنولوجية في الخارج، فإن الولايات المتحدة سوف تُعطي للإبتكار في مجال الطاقة النظيفة دفعة ملحّة مطلوبة. مديرو شركات الطاقة سوف يتشاركون مع كبار الأكاديميين في مؤتمرات التكنولوجيا. والإتحادات الصناعية سوف توفّر خرائط الطريق للتحسينات التكنولوجية الهائلة التي تتوقع إختراقات في المستقبل. ومستثمرو المؤسسات سوف يراهنون على الشركات المبتدئة ويوافقون على الإنتظار عشر سنين أو أكثر قبل أن يرون العوائد.
بالنسبة إلى الكثيرين في واشنطن، هذا يبدو وكأنه فانتازيا خيالية مُكلفة. والواقع، أن تحويل قطاع الطاقة إلى قوة إبتكار من شأنه أن يُثبت أنه أصعب وأكثر تكلفة من مشروع مانهاتن أو مهمة “أبولو” الفضائية. في كلتا الحالتين، فقد أنفقت الحكومة مليارات الدولارات على هدف محدد، في حين أن النجاح في الابتكار في مجال الطاقة النظيفة يتطلب معاً الإستثمار العام والخاص في مجموعة واسعة من التقنيات.
إلا أن الولايات المتحدة قد حققت تحوّلات مماثلة من قبل. خذ صناعة الطب الحيوي. مثل الطاقة المبتدئة النظيفة، فقد تحمّلت الصناعة الطبية المبتدئة دورات من الإزدهار والكساد في مجال الاستثمار في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت. ولكن اليوم، وجزئياً بفضل التمويل الحكومي المُرتفع والمُستدام، فإن القطاع الخاص يستثمر على نطاق واسع في مجال إبتكار الطب الحيوي. يمكن للمرء أن يعترض على أن لدى صناعة الطب الحيوي هوامش ربح عالية، على النقيض من تلك الضئيلة التي تميّز صناعة الطاقة النظيفة، والذي سمح بزيادة الإستثمار في البحث والتطوير. ولكن قطاع الطاقة النظيفة لا ينبغي أن يكون محكوماً بشكل دائم بالأرباح الصغيرة: إن شركات الإبتكار يمكن أن تكسب هوامش أعلى من منتجي السلع الأساسية اليوم من خلال تطوير منتجات جديدة تخدم المطالب التي لم تُلبَّ بَعد.
مع الطاقة النظيفة، قد لا تكون المخاطر أعلى. إذا أراد العالم تجنب كارثة مناخية، فإنه يحتاج إلى خفض إنبعاثات الكربون بنسبة 80 في المئة بحلول منتصف هذا القرن — وهو هدف ببساطة بعيد التحقيق والمنال مع التكنولوجيا الحالية. لكن مُسلَّحةً بترسانة أكثر إنخفاضاً بالكربون، يمكن للبلدان التعهّد بخفض الإنبعاثات التي كانت طموحة وواقعية. إن الإقتصادات الناشئة لم تعد تواجه المفاضلة بين الحد من الوقود الأحفوري الضار ورفع سكانها من فقر الطاقة. ويبدو أن الولايات المتحدة سوف تضع نفسها في طليعة الثورة التكنولوجية المقبلة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى