ليت هارون بيننا

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

ذهب موسى بالعصا، ثم عاد بالألواح. وبين ذهاب وأوبة، غيّر قوم التيه إلههم، وعبدوا عِجلاً له خوار، رغم أن عِجلهم لا يجيب مضطراً إذا دعاه، ولا يكشف السوء عن أحد. وإستبدّ الغضب بالنبي العائد، فألقى الألواح وأخذ بلحية أخيه يجرّه إليه، لكنه رغم ذلك تلطّف في القول إلى القوم الضالين الذين إستضعفوه. ثم يسكت الغضب عن موسى، ويكمل مسيرته مع قوم لا يؤمنون إلا بالذهب، ولا يسجدون إلا للمادة، وإن كان لها خوار.
نعود إلى هارون الذي بعث مع النبي نبياً، وكان لسان صدق لموسى، حلّ الله به عقدة لسانه، فأوضح بيانه، وشرح ما إستغلق على القوم فهمه من صحيح الرسالة. كان الرجل من فصيلة النبيين، وكان يحمل الأمانة مع أخيه كتفاً بكتف، فكيف لحامل لواء عقيدة أن يبقى مع عباد الذهب، فلا يحادد من حاد الله ولا يعادي من عادى رسوله؟ كيف يرى قومه يسجدون لصنم صنعوه بأيديهم، ويرى ظهورهم تتقوّس أمام محراب الأصفر الدنس، فلا ينتفض غاضباً، أو يهجرهم على أضعف إيمان؟ هل كان الإستضعاف (إن القوم إستضعفوني) سبباً وجيهاً لمجالسة نبيّ لأهل الباطل ومخالطتهم؟ أم أن الخوف من البطش والتنكيل (وكادوا يقتلونني) هو الذي حدا بخليفة موسى أن يلتزم الصمت حيال كفر بني إسرائيل وزيغهم؟ أم تراه الخوف من تشتيت شمل القوم وإن اجتمعوا على باطل (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل)؟ أو لهذه الأسباب مجتمعة تحمّل هارون تمتمات بني إسرائيل الفاجرة بين يدي عجل الذهب حتى عاد موسى بألواح الرحمة؟
أرّقتني تلك الأسئلة كثيراً وأنا أضع أقدامي غير الواثقة فوق أعتاب المراهقة. وظللت أبحث في حواشي التاريخ عن واقعة تبرّر جلوس نبيّ لا حول له ولا ألواح خلف صفوف المارقين في إنتظار من ذهب للقاء ربه. وحين تفجّرت ثورات الربيع العربي الكاذب، عاودتني تلك التساؤلات وإن بزخم أكبر. وبدأت تتجلّى أمامي، مع كل إعتقال وقنص، ومع كل تفجير وقصف، حكمة هارون الذي ترك قومه يتوحّدون على عجل له خوار بدل أن يفرّقهم أمماً، ليذيق بعضهم بأس بعض. وتنشطر الأسئلة الكبيرة إلى شظايا موجعة: ألم يكن سكوت الثوار على فساد حسني مبارك وزبانيته خيراً من شطر البلاد إلى نصفين؟ ألم يكن الصبر على سفاهة معمر القذافي وتفاهته خيراً من توزيع الأراضي والأعراض في ليبيا على المقتتلين بإسم الرب؟ ألم تكن حياة صدام حسين خيراً لشعب العراق الذي باع أرضه كلها للشيطان مقابل رأس واحدة؟ ألم يكن جلوس علي عبد الله صالح على عرش اليمن خيراً لليمن وأهله من توزيعه كجيفة نتنة بين القادمين من أقصى حدود الغباء؟ ثم ألم يكن بشار الأسد المستبد خيراً لشعب سوريا المستباح من بشار السفاح الذي لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة؟ وهنا يقف على أعتاب الوجيعة إستهجان يستحق الإلتفات: تعني أن نداهن الظالمين ونتملّقهم كي نحظى بحياة – أي حياة؟ تعني أن نتوقف عن إنتقاد الظالمين والضرب على أياديهم حتى وإن بغوا وطغوا وأكثروا في الأرض الفساد؟ تعني أن لا نقول كلمة حق عند سلطان وإن جار أو حاكم وإن فسق؟ وهو أمر لم أعنِه هنا، ولم أُلمِّح إليه من قريب أو بعيد. لكنني هنا أستخدم معيار النتائج لقياس حصيلة المصالح والمفاسد. وهنا يحق لي أن أتساءل كمواطن شريف كان ثورياً بامتياز حتى صدمته القوارع: هل كان هارون النبي على باطل؟ وهل كان يستحق من موسى التأنيب والتوبيخ؟ أم أنه كان حكيما سابقا لعصره، حافظ على وحدة بني إسرائيل في زمن الفتنة، وظل معهم – على مضض – حتى أتاهم اليقين؟ شتان بين رجل وقف في بلاط الملك فأمره ونهاه، كما فعل الشيخ الغزالي في بلاط مبارك ذات شجاعة، وبين أناس أتوا من كل حدب ليشهدوا منافع لهم، لم يجمعهم إلا الصوت، ولم يفرقهم إلا السوط. شتان بين علماء حرّكهم اليقين، فوقفوا يدافعون في بلاط الحاكم عن إيمان وقر في القلب وصدقه العمل، وبين أناس لم يجتمعوا على رأس، ولم يتوحّدوا على رأي. قد لا تكون الثورة الأولى شركاً ومؤامرة .. لكن إستمرارها رغم كل ما تشهده العواصم المهدّمة من فظائع أمر يستحق الدهشة. جديرة تلك العواصم العربية التي لا تزال على قيد التوحد أن تبقى فوق الخرائط. ويستحق المناضلون الشرفاء الذين دافعوا عن حرية أوطانهم أن يخرجوا من غياهب المعتقلات والسجون، ويستحق المواطنون إلتفاتة بلا تمييز ولا تصنيف. ويستحق الوطن هدنة تسمح بإلتقاط ما سقط من وعي وما ضاع من ثقة، وتستحق الميادين دبيباً غير عاصف، وكلمة حق غير مُسفّة، ويستحق المواطنون واقعاً أفضل وغداً أكثر إحتمالاً.

• كاتب وصحافي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى