شَهوة إلغاء الآخر

بقلم ميرنا زخريّا*

قال الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير ذات مرّة: “قد أختلفْ معك في الرأي، ولكني على إستعداد أن أدفع حياتي ثمناً لضمان حقك في إبداء رأيك”. ليس المطلوب أن يكون العرب فولتيريّي الفكر، بحيث يستعدّون لدفع حياتهم ثمناً لضمان حقوق الآخرين؛ إنما، ما منْ شيء يمنع فكرة قبول الآخر، والتعاون للأفضل بدل التنافس للإلغاء.
ألله، عزَّ وجلَّ، خلقَ الناس مُختلفين واحدهم عن الآخر، لا لكيْ يُلغي واحدهم الآخر، بلْ لأن مبدأ الإختلاف هو أبعد من مُجرّد كونه حالة طبيعية، إنه حالة صحيّة. وعليه، لا يمكن معالجة خطوة إلغاء الآخر من دون المضي بخُطواتٍ متعدّدةٍ نحو منظومة الإصلاح الإجتماعي، ذلك أن الحلول لنْ تهبط من السماء ولنْ تترسّخ من دون عناء، والتالية هي منْ أهمّ النقاط:
1. سيكولوجيا الخوف على الذات: ما يُشير إلى عدم ثقة الفرد بقُدراته أو بتأييد المقرّبين له؛ أو ربّما إلى إستعمالهِ أساليب مُلتوية يخشى أن يتم فضْحها؛ وربّما إلى يقينه أن الآخر يتمتّع بمزايا تجعله يتفوّق عليه؛
2. إحترام الإنتماءات الشخصيّة والثقافية والحضاريّة: يلجأ البعض إلى الإنطواء فتراهُ يغيب عن المواجهة الثنائية الشفافة التي تُبرّر واحداً منهما؛ أو يقتحم بمُواجهة أحاديّة فتراه يفتقر إلى نُظم التحاور والتعاون؛
3. تكوين الوعي الوطني: من أجل بناء وطنٍ واعدٍ، ومن ثَم ترميم الوَعي القومي بهدف خلاص الهويّة العربيّة والتضامن حولها؛ فالوَعي يطال مُجمل النواحي المؤثرة وليس فقط الأخلاقية والدينية من دون غيرهما؛
4. الإقتناع بالتكامل مع الآخر: لا أحد يُمكنه أن يدّعي بأنه مُمسك بشتّى فروع المعرفة في قبضة يده، وأنه ليس بحاجةٍ لكائنٍ مَنْ كان. فالتكامل المعرفي يُعتبر نقطة إرتكاز ساعة الإنطلاق بمشروعٍ حضاريٍ؛
5. الإقرار بأهميّة التنوّع: البعض يغفل آثار غنى التنوّع، وبالتالي لا يهتم للسعي نحو تعميق الإدراك وإرساء قواعد الفهم المشترك التي تهدف إلى إيجاد حلولٍ مشتركة، لذا تجدهُ يُقفل على ذاته وعلى منْ حواليه؛
6. التنمية الشاملة: إن الإقتصاد الرَيعي المُقيّد يُشجّع على الهدر والفساد، ويُبعد ذوي الكفاءات والشهادات، ما يُعمّق جذور الرضوخ والتبعية ويؤدي إلى مزيد من المقدرة الباطلة على إبعاد الأدمغة بإتجاه الهجرة؛
7. إجراء مُصالحة مع الحداثة: لا يوجد نصّ ديني يُحرّم الحداثة والعلم والتكنولوجيا. لقد طال أمد إنتظار المُصالحة مع التطوّر والتطوير، ما سوف يُغني العلاقات الإقتصادية والسياسية والثقافية والإجتماعية.
إن ثقافة إلغاء الآخر أصبحت بمثابة موروث سائد بصورةٍ طبيعيةٍ في العديد من الدول العربية، إذ هناك دوماً ثمّة منْ يبغي إلغاء الآخر، وينوي محو مساحة الوسط ومسار الوسطيين؛ ما أدّى إلى تعاظم المشهد الإلغائي في الحكومات والأحزاب والمنظمات، وحتى داخل العائلات. وفي حال لمْ يتّعظ العرب منْ الآثار السلبية المترتّبة على هذا المنطق الذي يرفُض إشراك الآخر، فمنَ المتوقّع عندئذ أن تكون السنوات المقبلة حبلى بمزيدٍ من الإنتفاضات والثورات والمشكلات.
نحنُ أمّة لمْ نعتد على قراءَة وتفهّم الإختلاف، وبالتالي، لمْ نستفد منه. ذلك أن منْ يُعارضنا نعتبرهُ حُكماً وفوراً خصماً لنا. فما هي عناوين الموانع الثلاثة الأساسيّة؟
* أولاً، تجاهُل شرعة حقوق الإنسان: التي تفرُض الإعتراف بالآخر. إنما يبدو أنه كلما تطوّرت حركة الحقوق، كلما تطوّرت بالمقابل حركة الإنتهاكات. ذلك أن بعض الناس يتناول الحقوق منْ منظار الأناّ فقط، ما منْ شأنه أن يصبّ بإتجاه إلغاء الآخر، وهذا حتماً يتنافى مع مبدأ حقوق الإنسان؛
* ثانياً، سيادة العقل المُتسلّط: لا شك أن ثمّة خللاً في بُنية هذا العقل الذي يتوق إلى إلغاء الآخر والهيمنة على كل مفارق القرارات والإنجازات، ما يُجيز تعريف السُلطة بأنها القدرة الواعية أو غير الواعية التي تُخضِع الآخرين، علماً أن التسلّط هو ذو دلالة مُزدوجة، إذ هو قوّةً خارجية وضُعف داخلي؛
* ثالثاً، مزْج الديّن بالسياسة: مزيجٌ لطالما نادى بالديموقراطية. إنّما التجريم المعنوي لكل ما هو جديد والتأليه الأعمى لكل الثوابت القديمة، يجعل الفرد يتساءَل عن سرّ علاقة السياسة بالديّن؛ خُصوصاً أنه لا يوجد نُصوص دينية تُحرّم التطوّرات والتحديثات، كما لا يوجد إجتهاد يدعو إلى الجُمود والرُكود.
عالم البارحة، تطوّرَ اليوم بفعل الثورة التكنولوجية، وتحوّل: من جهةٍ مبدئية، إلى ساحةٍ تفاعلية بشريّة يتفاعل على أرضها كل الناس؛ ومن جهةٍ لاحقة، إلى ساحةٍ جغرافية تُلغي الحدود لكنها تُغني الهويّات. وما زال بني العرب يحاولون تهميش بعضهم البعض، إنها شهوة إلغاء الآخر.
فماذا لوْ حاول هؤلاء ال400 مليون نسمة الموزعون في 22 دولة عربية مُنفصلة سياسياً ومُتصلة جغرافياً، بالإضافة إلى ال40 مليون نسمة المهاجرين في باقي دول العالم؛ ماذا لوْ حاولوا التكامل مع بعضهم بدل الهيمنة على بعضهم، ماذا لوْ أجهدوا أنفسهم لأجل “الإتحاد بدل الإلغاء”؟ سوأل برسم العرب، كل بني العرب.

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى