هل يقف الروس فعلاً وراء تسريب “وثائق بنما”؟

سُرّبت سجلات أربعين عاماً من مكتب محاماة “موساك فونسيكا” في بنما إلى صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ الإلمانية” والاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين. 11.5 مليون وثيقة، أُطلق عليها “وثائق بنما”، تفصّل عقوداً من إنشاء المكتب لشركات وهمية (أوف شور) وحسابات خارجية للسماح لعملائها بغسل الأموال، والتهرب من الضرائب، وتجنب العقوبات. وقد ورد العديد من أسماء السياسيين والملوك العرب في سجل مكتب “موساك فونسيكا”، بمن فيهم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ورئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي، والأمير السابق لقطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ورئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، ورئيس الوزراء الأردني الأسبق علي أبو الراغب، وأبناء عم الرئيس السوري بشار الأسد، وجمال مبارك نجل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
ولكن، لماذا كان تسريب هذه الوثائق؟ ومن يقف وراء هذه العملية؟

الكرملين: في داخله وكالة المراقبة المالية الروسية
الكرملين: في داخله وكالة المراقبة المالية الروسية

لندن – باسم رحال

تبدو “وثائق بنما” لكثير من الخبراء على أنها قصة غريبة جداً لفيلم تجسس رخيص.
في أوائل العام 2015، أرسل (مجهول) (من الفراغ) بريداً إلكترونياً إلى الصحيفة الألمانية “زود دويتشه تسايتونغ” (Süddeutsche Zeitung)، يعرض عليها 11.5 مليون وثيقة من مكتب محاماة في بنما تتعلق بشركات “أوف شور” مختلفة. قبلت الصحيفة الألمانية العرض. وتحت إشراف الإتحاد الدولي للمحققين الصحافيين (ICIJ)، أمضى نحو 400 صحافي من 80 دولة عاماً كاملاً في غربلة هذه الوثائق. ومن ثمّ، في إعلان مُنسّق، قدموا أول النتائج التي توصلوا إليها: في لغة متطابقة تقريباً في جميع وسائل الإعلام الدولية (وصولاً الى محطة تلفزيون محلية في واشنطن)، تحدثوا عن أسرار جديدة كبرى في مجالات الفساد، وغسل الأموال، والسرية المالية التي يمارسها أكثر من 140 زعيماً حول العالم.
معظم التقارير، بغض النظر عن المكان، أبرزت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كمتصدّر للعناوين. ولكن ذلك قد يحجب قصة أكبر بكثير وأكثر إلتواءً حسب بعض المتابعين.

الكلب الذي لم ينبح

رغم العناوين المضخمة البارزة، لا يوجد أي دليل على مشاركة بوتين المباشرة — ليس في أي شركة سُرِّب إسمها- في نشاط إجرامي أو سرقة أو التهرب من دفع الضرائب أو غسل الأموال. هناك وثائق تُظهر أن بعض “أصدقائه” قد حوّل “ما يصل إلى ملياري دولار” من خلال شركات “أوف شور” في بنما.
لا يوجد أي دليل هنا على تورّط بوتين المباشر.
ولكن ليس هناك في “وثائق بنما” معلومات تكشف أي شيء جديد عن بوتين. بل إن ما سرّب هو في الواقع أقل بكثير من القصة التي كانت مزعومة لفترة طويلة. لأكثر من 10 سنين، كانت هناك شكوك بأن بوتين يملك ثروة شخصية هائلة، قُدرت في البداية بأنها بحدود ال20 مليار دولار، ثم 40 ملياراً، و70 ملياراً، وحتى 100 مليار دولار… والآن كل ما وجدوه هو “ربما” بضعة مليارات دولار تخصّ صديق؟
هذا هو الكلب الذي لم ينبح.
إن بعض السياق الجيوسياسي مهم هنا. في السنوات الأخيرة، أصبحت وسائل الإعلام ساحة المعركة الرئيسية التي حاولت روسيا والغرب من خلالها تشويه سمعة أحدهما الآخر. في أوائل العام الفائت، سعت الدوائر في الغرب إلى إستخدام وسائل الإعلام للرد على ما وصفته ب “الحرب الهجينة” التي تقوم بها روسيا خصوصاً في مجال حرب المعلومات، في أعقاب الضم الروسي لشبه جزيرة القرم والأنشطة ذات الصلة. وحدّدت هذه الدوائر بأن الفساد يشكل قضية حيث يبدو بوتين فيها ضعيفاً ومُعرَّضاً جداً. ومن الجدير القول هنا أنه ينبغي النظر إلى “وثائق بنما” في هذا السياق: الصحافيون يستهدفون بوتين أكثر بكثير من نسبة الأدلة التي يُقدّمونها.
الواقع أنه بعدما يتعمق المرء في العناوين، فلا يجد بعدها أن هناك أي قصة في النص الذي يليها. “صديق لبوتين” إرتبط بشركات قامت بتحويل بضعة مليارات من الدولارات من خلال شركات أوفشور. لماذا؟ للتهرب من دفع الضرائب الروسية؟ هل هذه هي الحقيقة؟ لإخفاء الملكية؟ مِن مَن؟ لا تحتاج إلى تسجيل شركة أوفشور للقيام بذلك. للتهرب من العقوبات؟ هذا هو سبب معقول، ولكن ذلك لا يبدو منطقياً إلّا إذا تم تسجيل الشركات بعد منتصف 2014. هل هي كذلك؟
إن هذه المعلومات لا تضرّ ببوتين على الإطلاق، بدلاً من ذلك، إنها تعطيه غطاء أو تغطية، حيث يتسنى له التغاضي والقول: “أنظروا، الجميع يفعل ذلك”. والإحتمال الأخطر من ذلك هو أن البيانات المُسرّبة ستؤدي إلى فضائح في جميع أنحاء الغرب، حيث الفساد يُعتبر مسألة مهمة – نقطة سوف نناقشها. والنتيجة الصافية، فقد فاز الروس.
مبدأ المصلحة العامة يربط الأرباح بالدوافع، متسائلاً من سيكون المستفيد من عمل معين. اذا كان الروس هم الذين فازوا، أليس من الممكن أنهم بطريقة أو بأخرى هم على الأقل وراء جزء من هذه القصة؟

من هو “المجهول”؟

يصف الإتحاد الدولي للمحققين الصحافيين نفسه بأنه يضم النخبة من المحققين الصحافيين — ولكن ماذا إكتشفت هذه النخبة عن مصدر كل هذه الوثائق؟ المعلومات الوحيدة التي لدينا عن “المجهول” هو من الصحيفة الألمانية والتي تبدأ قصتها: “منذ أكثر من عام، إتصل مصدر مجهول ب”زود دويتشه تسايتونغ” وأرسل إلينا وثائق داخلية مُشفرة من مكتب المحاماة موساك فونسيكا”. وعندما سأل الموظفون في الصحيفة المصدر المجهول عن دوافعه، ردّ في رسالة بالبريد الالكتروني: “أريد أن أجعل هذه الجرائم بتصرف الرأي العام”.
ولكن كيف يمكن للصحافيين – والرأي العام- التأكد من أنه مصدر جدير بالثقة، وأن الوثائق حقيقية وكاملة، وغير مُتلاعَب فيها؟ ليس من الواضح إذا كان المصدر المجهول فرداً واحداً أو أكثر، من ناحية، ولا لماذا كان واثقاً من أنه يمكنه كشف الوثائق من دون الكشف عن نفسه. لديه أيضاً منفذٌ إلى مخبأ وثائق مدهش، مما يوحي بأن وكالة إستخبارات يمكن أن تكون شاركت في العملية.
علاوة على ذلك، إن هذا الكشف الذي يجلب أضراراً قانونية جانبية لرجال أعمال وأفراد أبرياء — لم يُثر أي قلق؟ من وجهة نظري، ليس هناك شخص مسؤول لديه قلق حقيقي بالنسبة إلى سيادة القانون سيؤيد هذا النوع من تسريب بهذا الحجم من الوثائق. قد يكون هناك العديد من العواقب غير المقصودة. يمكنها الإطاحة بأنظمة حاكمة، مع عواقب غير متوقعة. إنها فوضوية نقية وساذجة، إذا كان التفكير (كما يبدو من الخارج) لخلق الحد الأقصى من الفوضى والأمل بتطهير النظام من جميع شروره. في أي حال، فإن إمكانية استخدام مثل هذا التسريب لأغراض سياسية تبدو هائلة.
إذا كانت الولايات المتحدة أو الغرب قد سرّب هذه الوثائق، فإن الدافع على ما يبدو سيكون لإحراج بوتين. هذا هو جزء من الخيال والفانتازيا بأنه يمكن للغرب هزيمة بوتين في حرب المعلومات. إذا كان هذا هو الدافع، فإن النتيجة هي مثيرة للشفقة: لم يحدث أي ضرر حقيقي لبوتين، ولكن هناك أضراراً جانبية لحلفاء الولايات المتحدة.
إذا فعلها الروس، قد يكون الدافع الجيد هو تفادي حملة الغرب ضد فساد بوتين. ولكن كما شرحنا سالفاً، إن أي ضرر فعلي لسمعة بوتين وروسيا ناجم من “وثائق بنما” هو في الواقع تافه جداً. لذا مقابل هذه الكلفة الرخيصة، يكون الروس: 1) عرّضوا السياسيين الفاسدين في كل مكان، بما في ذلك “نموذج” الديموقراطيات الغربية، و 2) وضعوا إسفيناً لزعزعة حقيقية لإستقرار بعض الدول الغربية. والذي يحير هنا: هل هو فخ؟ لقد رمى الروس الطعم، والولايات المتحدة تلقفته. إن قصص “أوراق بنما” إجتازت بوتين من دون أي تأثير. ولكن لديها تأثيراً سلبياً على الإستقرار الغربي.
لذلك دعونا نقول أن “مَن”؟ هم الروس، و”لماذا”؟ لتشتيت الإنتباه وإظهار أن “الجميع يفعل ذلك”. ولكن كيف؟ نظراً إلى قدرات أدعياء القرصنة في روسيا، وهي وحدة إنترنت خاصة في الكرملين قد تكون تمكّنت من الحصول على الوثائق. (“موساك فونسيكا” تؤكد وتدّعي على أن التسريب ليس من الداخل). ولكن من الأرجح أن تكون هذه العملية قد نفّذتها وكالة الرقابة المالية الروسية. هذه الوحدة تشكل الإستخبارات المالية الشخصية لبوتين – التي أنشأها بنفسه ولا ترفع تقاريرها إلّا له. فمن المشروع تماماً والمعترف به على نطاق واسع بأنها أقوى وكالة من نوعها في العالم، حيث تحتكر المعلومات حول غسل الأموال، ومراكز ال”أوف شور”، والقضايا التي هي ذات صلة بروسيا أو المواطنين الروس. فإن أي عملية مثل “أوراق بنما”، التي ليست سوى إستخبارات مالية، يجب أن يتم تشغيلها عبر وكالة الرقابة المالية الروسية. وليس المخابرات الروسية، أو بعض العصابات المتخصصة في الكرملين. في حين أنه قد لا يكون لديها (قانونياً) منفذ على الأسرار التي تحتفظ بها شركة مثل “موساك فونسيكا”، فإنها تطلع على الكثير من المعلومات المالية الدولية من خلال الهيئة الدولية التي هي عضو بارز فيها، “مجموعة العمل المالي” (Financial Action Task Force). بإختصار، الروس هم أفضل تجهيزاً من أي دولة أخرى — أكثر قدرة وأقل تقييداً – لإقتحام الملفات السرية.
أما عن كيفية تسرب الوثائق، فإنه سيكون الأمر في الواقع بارعاً جداً “تجريم” روسيا بطريقة خطيرة (وعناوين صحف بارزة) من دون الكشف عن واقع المعلومات التي تدينها. هذا هو بالضبط ما لدينا. لم تكشف وثائق بنما أي سر روسي. لم تُضِف شيئاً إلى الشائعات المنتشرة بالفعل عن ثروة بوتين الخاصة المزعومة. والقصة، التي ليست قصة، أبرزها وعمّمها الإتحاد الدولي للمحققين الصحافيين. لذلك، فإن آخر شيء يمكن أن يشك فيه المرء بأن “أوراق بنما” هي عملية روسية.

دافع روسي أكثر خطورة؟

كما أسلفنا، ستكون العملية معقدة إذا هدفت إلى نزع فتيل حملة الغرب التي تشير إلى أن بوتين “كليبتوقراطي” أي يستخدم سلطته لسرقة موارد بلده. ولكن ربما يكون هناك دافع آخر.
كما سبق وذكر كثيرون، فمن الغريب أن “وثائق بنما” لم تذكر أي أميركي. ولكن من الممكن أن تكون هناك أسماء أميركية وأن الإتحاد الدولي للمحققين الصحافيين لم يكشف تلك المعلومات. ربما، لأن الإتحاد يُموَّل من الأميركيين، فلا يريد أن يعض اليد التي تطعمه. ولكن لنفترض أن الإتحاد ليس لديه في الواقع معلومات عن أميركيين – فهذا يشكك في البيانات الأصلية، والتي إذا فعلاً كانت حقيقية وغير خاضعة للرقابة ينبغي على الأرجح أن تشمل بعض الأميركيين. مما لا شك فيه أن هناك العديد من الأفراد والشركات في أميركا تعاملوا مع “موساك فونسيكا”، وأنه لن يكون هناك معنى لجمع 11.5 مليون وثيقة تشمل شركات أوفشور لحذف الأميركيين تماماً. ربما قد طهّر “شخص ما” هذه الإشارات وأزالها قبل تسليم الوثائق للصحيفة الألمانية. و”شخص ما” سيكون، حسب فرضيتي، الروس — وعدم وجود معلومات تجريمية عن أميركيين هو تلميح مهم على ما أعتقد إلى الغرض الحقيقي من هذا التسرب.
تحتوي وثائق بنما على معلومات مالية سرية لشركات، ومعظمها – حتى الآن – لم يكشف عن نشاط إجرامي. في أيدي سلطات إنفاذ القانون، يمكن إستخدام هذه المعلومات لمقاضاة الشركات والأفراد؛ وفي أيدي طرف ثالث، تصبح سلاحاً للإبتزاز. لكي تكون المعلومات فعّالة كسلاح للإبتزاز، يجب أن تبقى سرية. وعندما تُكشَف، كما هو الحال في قضية وثائق بنما، لن تعود مُجدية للابتزاز. لقد تم تدمير قيمتها.
لذا، أقترح أن الغرض من عملية “وثائق بنما” قد يكون هذا: إنها رسالة موجهة إلى الأميركيين والقادة السياسيين الغربيين الآخرين الذين يمكن ذكرهم ولكن لم تُنشر أسماءهم بعد. والرسالة هي: “لدينا معلومات عن مخالفاتكم المالية أيضاً. أنتم تعرفون ذلك. يمكننا الاحتفاظ بها سراً إذا عملتم معنا”. بعبارة أخرى، إن الأفراد المذكورين في الوثائق ليسوا الأهداف. إن أولئك الذين لم ترد أسماؤهم هم الأهداف.
وخلاصة القول، في إعتقادي أن هذا الأمر يمكن أن يكون عملية مخابرات روسية، التي دبرت عملية تسرب رفيعة المستوى، وخلقت مصداقية تامة ب”توريط” (لا توريط حقيقي) روسيا والحفاظ على المصدر خفياً. وسوف يُستخدَم بعض الوثائق في حملات مكافحة الفساد في عدد قليل من البلدان – حيث تسقط بعض الأنظمة الصغيرة، وتدمّر عدداً قليلاً من المهن والثروات. بحلول ذلك الوقت تعمل روسيا على إبتزاز الأهداف الحقيقية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى (الأفراد الذين ليسوا في التسريب الحالي)، لجعلهم دمية روسية للحصول على ال”كونترول” والنفوذ.
إذا كان الروس يقفون وراء وثائق بنما، فهناك أمران وكلاهما يعود إلى بوتين شخصياً: أولاً، إنها عملية تديرها وكالة الرقابة المالية الروسية، مما يعني أن بوتين قد أدارها. ثانياً، إنها في نهاية المطاف تهدف الابتزاز. وهذا يعني أن القصة الحقيقية تكمن في المعلومات التي تم إخفاؤها، ولم تُكشَف. إن كشف الأسرار هو للتدمير، وإخفاؤها هو من أجل السيطرة. والمعروف عن بوتين أنه ليس مدمراً، إنه يعشق السيطرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى