لعبة بوتين في سوريا

عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشهر الفائت عن قراره بسحب قواته من سوريا، تفاجأ الجميع بهذا القرار أكثر مما تفاجأوا بتدخله في تلك البلاد، حيث إعتبروه إنسحاباً جدياً. ولكن يبدو الأمر أنه لا يعني ذلك أبداً كما يروي التقرير التالي لمراسل “أسواق العرب” في دمشق.

الغارات الجوية الروسية على "داعش": ستستمر
الغارات الجوية الروسية على “داعش”: ستستمر

دمشق – محمد الحلبي

في 14 آذار (مارس) الفائت، أعلن فلاديمير بوتين، من دون أي تحذير مُسبَق، أنه سيسحب قواته الرئيسية من سوريا مع الإحتفاظ بالقواعد وبعض القوات الروسية في المحافظتين الساحليتين اللاذقية وطرطوس. جاء ذلك بمثابة مفاجأة للكثيرين، ولكن إعلان الرئيس الروسي لم يكن في الواقع إنسحاباً من سوريا، بل كان خطوة تتفق وتتوافق مع إستراتيجيته هناك حتى الآن.
وكما كتب الخبير في شؤون الشرق الأوسط ديمتري أدامسكي في مجلة “فورين أفيرز” في الخريف الماضي، كان الكرملين يتبع سياسة “الإكتفاء المعقول” في سوريا، والذي يعني إستخدام ما يكفي من القوة للتأكيد على أن روسيا لا يزال لديها نفوذ كبير في البلاد، ولكن ليس لجرّها إلى حرب فوضوية. لضمان التوازن الصحيح بين إستعمال القليل جداً والكثير من القوة، إستخدمت موسكو مزيجاً من الديبلوماسية والتدخل العسكري في بلاد الشام، وهو النهج الذي يندرج في إطار مذهب معروف بإسم “جيل الحرب الجديد”. إن موسكو تتفهم وضع جيشها وتعرف أن العملية الديبلوماسية في سوريا بعيدة من نهايتها، ولكن تقييمها الشامل لتدخلها إيجابي، نظراً إلى أنه قد عَكَس مسار الحرب، وحقّق معظم أهدافها الأولية.
في رأي موسكو، إن غاراتها الثقيلة على القوات المهاجمة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد قد أضعفت إلى حد كبير المعارضة وقتلت المئات من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش)، وعزّزت وضع النظام القائم وجعلت العملية السياسية أكثر جاذبية لكل الأطراف المتقاتلة. وقد وسعت روسيا أيضاً معقلها في سوريا، واضعةً نفسها على أنها لاعب لا غنى عنه في الشرق الأوسط الذي نجحت فيه حيث فشلت واشنطن، وحوّلت الأنظار عن الصراع في أوكرانيا. وما تعتبره موسكو أيضاً إنجازاً آخر يشمل إختبار أحدث أنظمة أسلحتها في سوريا، مُبرِزة قدراتها العسكرية لتعزيز مبيعاتها من الأسلحة وإرسال إشارات تهديد لحلف شمال الاطلسي. وعلاوة على ذلك، فإن هذا يثبّت وسيلة فعالة من حيث التكلفة لتدريب قواتها. إلى جانب هذا كله، فإن موسكو قد قامت بتسهيل إجتماعات ديبلوماسية موازية مع المجتمع الدولي في جنيف وفيينا، فضلاً عن محادثات مصالحة منفصلة مع جماعات المعارضة داخل سوريا. وكان هدف الكرملين من مزيج توجيه الضربات العسكرية وإستخدام الديبلوماسية هو وقف القتال بين الجماعات المسلحة، وإعادة الإستقرار إلى سوريا، والحفاظ على وحدة أراضيها، وضمان تسوية سياسية تصون وتضمن سيطرة موسكو هناك.
الواقع أن تحركات بوتين في سوريا تعكس تكتيكاته التي إستخدمها خلال الحرب الشيشانية الثانية من 1999 إلى 2000. في ذلك الوقت، سعى إلى تقسيم المعارضة عسكرياً وسياسياً من طريق التملّق من جهة، وتهدئة أولئك الذين يمكن كسبهم وجذبهم إلى تحالف يقوده أحمد قادروف المؤيد لزعيم الكرملين من جهة أخرى. بعدها أقدم سيد الكرملين على نبذ وسحق الفصائل غير المتعاونة.
في سوريا أيضاً، فتحت عملية بوتين العسكرية فرصة لتقسيم المعارضة المناهضة للأسد بين أولئك الذين سوف يحترمون وقف إطلاق النار، وأولئك الذين لا يريدون ذلك. لقد هدف الرئيس الروسي إلى تسريع تطرّف هؤلاء الأخيرين، إذ أن هذا العمل من شأنه أن يدفعهم إلى الإنضمام إلى “داعش” أو “جبهة النصرة” مما يضفي شرعية على إستخدام بوتين القوة ضدهم.
في شباط (فبراير)، بعدما وافقت الولايات المتحدة وروسيا على وقف الأعمال العدائية في سوريا، خفّضت موسكو عدد طلعاتها وغاراتها الجوية. عند هذه النقطة، مع تحقيق أهدافها إلى حد كبير ومع عدد قليل من الضحايا بين قواتها، فإنه من المرجح أن موسكو قد إعتبرت أنها اللحظة المُثلى لمرحلة الإنسحاب، ولكنها كانت في معظمها للإستعراض والتسويق. في الأساس، لا شيء تغير، لا إستراتيجية موسكو ولا عملياتها. هذا الإعلان عن الإنسحاب، في رأي موسكو، ببساطة خفّف من المخاطر في سوريا، ووسّع مجالها للمناورة، وخلق الظروف المُثلى لشيء يأتي بعده، ودحضت ما قالته الولايات المتحدة بأنها سوف تتورط وتغرق في المستنقع السوري.
إن المهمة الروسية الحالية تكمن في الحفاظ على وقف الأعمال العدائية، على الرغم من ان غاراتها الجوية سوف تستمر ضد “داعش” و”جبهة النصرة”. وسوف يستمر الخبراء العسكريون والمستشارون الروس في التدريب، والتجهيز، والتخطيط، والمساعدة في العمليات السورية على جميع المستويات — من الجنرالات وصولاً الى الكتائب. ووفقاً لبوتين، إن القوة الحالية تمكّن روسيا من الحفاظ على “توازن القوى” بين قوات الأسد والمعارضة. على الرغم من أن الرئيس الروسي قد سحب ثلث أسطوله الجوي، فإن قواته للتدخل السريع — التي تنطوي على قوات الجو، والبحر، والبر – ما زالت في المكان. في الواقع، في أعقاب إتفاق شباط (فبراير)، وخصوصاً بعد التحرير الأخير لمدينة تدمر، أرسل بوتين المزيد من المساعدات اللوجستية البحرية ومروحيات هجوم برية متقدمة، ووحدات من خبراء العسكر في مجال الألغام والمتفجرات. وكانت روسيا قد سلمت صواريخ الإسكندر البالستية المتقدمة الى سوريا في مرحلة ما، وفقاً لتقارير ظهرت في 27 آذار (مارس). وبإختصار، فإن مصطلح كلمة “إنسحاب” هي تسمية خاطئة.
داخل سوريا، أمِلت روسيا بأن إعلانها عن الإنسحاب سيكون مؤشراً إلى حسن نواياها، ويشجّع على التعاون بين أحزاب المعارضة، وفي الوقت عينه يحدّ من الطموحات العسكرية للحلفاء. وعلى الصعيد الإقليمي، فإنه أسقط أي ذريعة للمملكة العربية السعودية أو تركيا للتدخل في بلاد الشام. في ذلك الوقت، إشتبهت موسكو بأن الرياض وأنقرة تفكران وتعدان العدة لنشر بعض من قواتهما في الأراضي السورية. بالنسبة إلى واشنطن، فقد سعت روسيا، من خلال إعلان الإنسحاب، إلى خلق مناخ ملائم لوزير الخارجية الاميركي جون كيري قبل زيارته لموسكو في أواخر آذار (مارس) الفائت.
أخيراً وليس آخراً، فقد إسترضى بوتين جمهوره المحلي. منذ أوائل شباط (فبراير) من هذا العام، بدأت الآلة الإعلامية الروسية تسوّق سرد “المهمة قد أُنجِزت”، قائلةً بأن تصرفاتها في سوريا هي التي أدّت إلى محادثات السلام، وإتفاقات وقف إطلاق النار، وتحقيق الإستقرار المزعوم في البلد. في أوائل آذار (مارس) المنصرم، ظهرت تسريبات حول القرار المُرتَقب للإنسحاب من سوريا في وسائل الإعلام غير الرسمية. بعد إعلان بوتين عن الإنسحاب، نشر الكرملين دعاية رسمية كثّفت الرسالة أكثر بين الجمهور الروسي مُسوِّقةً بأن العملية في سوريا كانت ناجحة تماماً. منذ بداية التدخل في بلاد الشام، كان الكرملين يدرك الصعوبات التي تواجهه في الحفاظ على دعم الجمهور فيما الإقتصاد الروسي يتراجع. إن خفض البدل اليومي للإنفاق في سوريا له صدى مع السكان الذين يعيشون إحباطاً مع شد الحزام الإقتصادي. خلال حفل توزيع الجوائز في الكرملين في 18 آذار (مارس) الفائت، تحدث بوتين أمام المئات من المشاركين في العملية السورية، مشدداً على أهمية التنمية الإقتصادية والرفاه للمواطنين. إن صياغة الكلام والرمزية أمران مهمّان في الثقافة الإستراتيجية الروسية. وقد إستغلهما بوتين على حد سواء في خطاب “النصر”. فهو إستخدم عبارة “إنسحاب القوات” ليعكس اللغة التي إستخدمها القادة السوفيات للإعلان عن الإنسحاب من أفغانستان. الأهم من ذلك، أعطى بوتين خطابه في قاعة “جورجيفسكي” في الكرملين، وهي القاعة التى ألقى فيها ستالين خطاب النصر المشهور في العام 1945. للإستفادة القصوى من هذا المعنى الضمني، فقد أكد بوتين على رمزية إجراء الإحتفال الذي أقيم في قاعة “مُشبعة بروح النصر” من المحاربين الروس.
في الواقع، ترك بوتين الباب مفتوحاً في سوريا للتدخل مرة أخرى إذا إحتاج الأمر إلى ذلك. لقد أظهر عزيمته وعزمه وقدرته على إرسال قوات إلى سوريا في غضون ساعات أو شنّ هجمات من روسيا إذا تصاعد الوضع.
بالنسبة إلى البعض، كان إعلان موسكو بسحب قواتها أكثر غرابة من قرار بوتين بالتدخل. ولكن كما أشارت الباحثة كيمبرلي مارتن، إن حب بوتين لفلسفة “الجودو” قد أثرت عميقاً في مقاربته للسياسة الخارجية. وتتضمن لعبة “الجودو” التمكّن من تحقيق أقصى قدر من النتائج مع الحد الأدنى من الجهد، وهي الفلسفة التي تتوافق وتلتقي بوضوح مع مبدأ “الإكتفاء المعقول”. وأيضاً، إن إخفاء المرء لنواياه وجعل المعارضين يحتارون في تخمين الخطوة التالية هي جزء من الفنون القتالية الآسيوية، والتي يتقنها بوتين أيضاً وليس غريباً عنها. حتى لو لم تكن مناوراته السياسية مُصمَّمة لكي تكون مفاجئة، فإن زعيم الكرملين يعلم بأن المنافس الماهر لن يفوِّت الفرصة لإستغلالها لكي يشوّش على خصمه ويفقده توازنه.
وبالنسبة إلى المستقبل، تشمل التحديات الفورية للكرملين الحفاظ على عملية المصالحة، وضمان الحد الأدنى من الإستقرار في سوريا، وإستمرار الحملة ضد “داعش” و”جبهة النصرة” وجماعات معيّنة من المعارضة. وهناك مهمة صعبة أخرى تكمن في ضمان أنه إذا تم إستبدال الأسد، فإن خلفه سوف يحافظ على الوجود الروسي في سوريا تحت أي ديناميكية سياسية، بما في ذلك الفيديرالية الممكنة في البلاد. في هذه المرحلة، يمكن للمنافسة بين روسيا وإيران أن تتكثّف، إذ أن طهران تسعى أيضاً إلى ترسيخ سيطرتها في بلاد الشام وشرق البحر الأبيض المتوسط، ولكن وفقاً لشروطها.
من ناحية أخرى، قد تعثر موسكو أيضاً على عدد من الفرص في الشرق الأوسط. ومن المرجح أن تستفيد من مكانتها كقوة وسيطة إقليمية فعّالة والترويج لنفسها كوسيط فاعل، على قدم المساواة مع واشنطن. وقد تسعى موسكو حتى إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الصديقة للولايات المتحدة تقليدياً — المملكة العربية السعودية، والعراق، والأردن، والإمارات العربية المتحدة — محاولةً القيام بدور الوسيط الجديد المُحتمَل للسلام بين السنة والشيعة. كما أن هناك سبلاً أخرى يمكن أن تستكشفها روسيا وهي تشمل توسيع جهودها للتوفيق بين مصر وسوريا أو التوسط بين إيران والمملكة العربية السعودية، وإستغلال الفراغ الذي أنتجته الولايات المتحدة. إن موسكو قد تجد أن العمل مع الأكراد سوف يعطيها عدداً من نقاط القوة ضد تركيا، التي تخشى من أن يؤدي نجاح القوات الكردية في السيطرة على الأراضي من “داعش” الى تشجيع الأقلية الكردية لديها وزيادة تمردهم. وأخيراً، قد تجذب موسكو إسرائيل من طريق محاولتها العمل على ضمان أن سلاح الحرس الثوري في إيران و”حزب الله”، لا ينتقل أو يتوجه إلى الجزء السوري من هضبة الجولان.
بإختصار، إن العالم سيكون أفضل بحفاظه على الهدوء والإستمرار في ما هو عليه، فيما روسيا لم تنسحب حقاً من بلاد الشام. في الواقع، إن بوتين هو في سوريا لكي يبقى كلاعب محوري في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى