كيف نجحت دولة الإمارات العربية المتحدة في عَلمَنَة سياستها الخارجية

تتبع دولة الإمارات العربية المتحدة سياسة خارجية علمانية ميّزتها عن باقي شقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي، فهي لم تدعم فريقاً يستخدم الدين وسيلة لمآربه الخاصة، الأمر الذي أكسبها إحترام العالم الخارجي. وهذه السياسة أيضاً تطبق داخلياً إلى حد كبير، مما جذب إليها الباحثون عن الإستثمار والتحالفات السياسية والإقتصادية وفي مقدمتهم أميركا.

الشيخ محمد بن زايد آل نهيان: نهجه "جيفرسوني"
الشيخ محمد بن زايد آل نهيان: نهجه “جيفرسوني”

لندن – دايفيد ب. روبرتس*

يتميَّز الخليج العربي بأنظمة تمزج بين الدين والدولة في سياساتها الخارجية. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تستضيف إثنين من أقدس المواقع الإسلامية، وتنبع قوة أسرتها الحاكمة من صفقة توصّل إليها مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود مع الطائفة الوهّابية السنية السلفية. وإيران، من جهة أخرى، هي أكبر دولة شيعية في العالم، ودعمت، وما زالت، الجماعات الشيعية في جميع أنحاء المنطقة منذ الثورة الإيرانية في العام 1979. وقد تصرّفت كلٌّ من الدولتين بشكل غير مسؤول في إستخدامهما التكتيكي والإستراتيجي للإسلام من أجل تعزيز سياساتهما الخارجية وتعزيز الدعم السياسي المحلي.
ولكن بين هاتين القوتين الإقليميتين الكبيرتين تقع الإمارات العربية المتحدة، الدولة الصغيرة والغنية بالنفط والغاز، التي منذ حصولها على الإستقلال عن المملكة المتحدة في العام 1971، برزت كعنصر فاعل مؤثّر في الشرق الأوسط، وكانت أقل إهتماماً في الجغرافيا السياسية الطائفية على الرغم من أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. بدلاً من ذلك، فقد فضّلت غالباً دعم الجماعات القومية وسعت جاهدة إلى فرض السياسة “الجيفرسونية” (نسبة إلى الرئيس الأميركي توماس جيفرسون) بفصل الدين عن السياسة المؤسساتية، في الداخل والخارج على حد سواء.
الواقع أن صناع القرار الإماراتيين يؤمنون بشكل عميق بأهمية فصل الدين عن الدولة في العالم العربي. إنهم يشهدون ويأخذون الدروس التحذيرية والعبر من تطور الإسلام السياسي في داخل دولتهم. فعلى سبيل المثال، يُنظَر إلى “الإخوان المسلمين”على أنهم مجموعة دولية تسعى تدريجاً وعلى نحو ثابت إلى نشر نفوذها في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لممارسة الضغط على الطبقة السياسية بإستخدام الإسلام نفسه. إن جماعة الإخوان، يقول المفكرون الإماراتيون، تستفيد من عدم المساواة المالية والإقتصادية والفروقات الإجتماعية لجمع المؤيدين وإدعائها بالتفويض الإلهي. في هذا الخط من التفكير، فإن جماعة “الإخوان المسلمين” ونظيراتها تسعى إلى السلطة سعياً وراء أهدافها الخاصة، وعدم إحترام الحدود الوطنية، وحتماً تأجيج التطرف البطيء ولكن المؤكد في المجتمع. وهكذا ركّزت الإستجابة الإماراتية على مواجهة ومكافحة الإسلاميين الذين يسعون إلى إستغلال الدين لأهدافهم الخاصة لفرض (وإنفاذ، حيثما أمكن) حكم بديل إسلامي متزمّت في منطقة الشرق الأوسط.
في الوقت عينه، لتعزيز نفوذها، فإن دولة الإمارات تتطلع وتسعى لكي تصبح حليفاً نشيطاً وفاعلاً للولايات المتحدة يمكن الإعتماد عليه. وقد أدّى تجنّبها المزج والفصل بين الدين والسياسة – بالإضافة إلى الرسائل السياسية المموَّلة جيداً والمهنية في واشنطن – إلى فوزها بدعم مهم في الكونغرس الأميركي. هذا النهج، مع ذلك، سوف يكون من الصعب بيعه إلى الجيران في الفناء الخلفي لدولة الإمارات، خصوصاً فيما القوى الإقليمية الأخرى تكثّف إستخدامها الخاص للإسلام في السياسة الخارجية.

الإختلافات الإستراتيجية

تُدار وتُوَجَّه السياسة الخارجية الإماراتية من أبو ظبي، العاصمة الرائدة للإتحاد الذي تشكّله سبع إمارات. في المدينة، يضع ولي عهد إمارة أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والمقربون منه الأسلوب والنهج والنبرة. وقد ساهمت كل الشخصيات الإماراتية القيادية في الإتحاد في دعم السياسات “الجيفرسونية” الفكرية والعملية (معارضة الفساد، والإصرار على الفضيلة، والحقوق المتساوية لجميع المواطنين، وفصل الدين عن الدولة)، وهي مواقف كانت واضحة خصوصاً منذ بداية “الربيع العربي”.
في أوائل العام 2011، كانت دولة الإمارات وقطر من الداعمين الفاعلين ل”الربيع العربي”. كان لكلا الدولتين دور حاسم في عملية حلف شمال الأطلسي (الناتو) “الحامي الموحّد” التي سعت إلى الدفاع عن المعارضة الليبية ضد معمر القذافي. وقد قدمت الإمارات ست طائرات “أف -16” و ست طائرات “ميراج “2000 للمساعدة في فرض منطقة حظر جوي في ليبيا وللإثبات والتأكيد بأن عملية “الناتو” في ليبيا ليست مجرد حالة أخرى من التحالفات الغربية لقصف دولة عربية.
على الرغم من أن قطر والإمارات بدأتا على الموجة ذاتها في ليبيا، فإنهما سرعان ما إختلفتا. فقد قدّمت قطر التمويل والتدريب والعتاد العسكري والدعم السياسي للإسلاميين المتشددين. وشمل ذلك دعم عبد الكريم بلحاج، وهو زعيم ميليشيا كان سابقاً قائداً لجماعة مرتبطة بتنظيم “القاعدة”، ولكنه تخلّى عن ماضيه المتطرف لبدء ميليشيا جديدة وحزب سياسي سماه “الوطن” بعدما بدأ “الربيع العربي”. في المقابل، دعمت دولة الإمارات عادة المجموعات التي كانت مناهضة بشكل حاد للإسلاميين المتشددين. وتألفت هذه الجماعات من الحركات القومية مثل كتائب “الزنتان”، و”الصواعق”، وكتائب “القعقاع”. وبالمثل، برزت الإمارات كداعم مهم للجنرال خليفة بلقاسم حفتر بحلول ربيع العام 2014. وحفتر هو قائد عسكري ليبي سابق يعمل على إنقاذ الدولة من سيطرة الإسلاميين بعد سقوط نظام القذافي. وقد إستخدمت الإمارات طائراتها وقواتها الخاصة، من المرجح بالتعاون مع مصر، لمساعدة الجماعات الموالية لها خلال القتال ضد الإسلاميين في طرابلس ودرنة.
تعمّق الخلاف بين دولة الإمارات وقطر أكثر في مصر. بعد “الربيع العربي”، شعر السعوديون والإماراتيون بالخوف والقلق من وصول جماعة “الإخوان المسلمين” إلى السلطة. وبعد إنقلاب تموز (يوليو) 2013 الذي أطاح الرئيس محمد ميرسي التابع لجماعة “الإخوان المسلمين” من منصبه، دعمت البحرين، والكويت، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة وأيّدت بقوة االرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي المدعوم من الجيش. من جهتها إنتقدت قناة الجزيرة الفضائية القطرية بشدة حكومة السيسي في حين أن الدعم المالي الذي قدمته دولة قطر لحكومة مرسي قد أُعيد. وتدخلت دولة الإمارات — جنباً إلى جنب مع السعودية والكويت – لسد الفجوة المالية.
وبعد سنوات عدة من الصراع الخافت المستوى بين الإمارات وقطر، فقد ركّزت أبو ظبي أخيراً إهتمامها على منافستها في الخليج. وبحلول آذار (مارس) 2014، إستطاع ولي عهد أبو ظبي إقناع الرياض بأنه ينبغي كبح جماح قطر. ونتيجة لذلك أقدمت البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات على سحب سفرائها من الدوحة لإجبارها على قطع علاقاتها مع جماعة “الإخوان المسلمين”. خلال الأيام التالية، أشارت تسريبات صحافية إلى أن السعودية تدرس إغلاق الممر الأرضي الوحيد الحدودي لقطر – خطوة كان من شأنها أن تقطع وصول ربع مصادر الواردات في البلاد من حيث القيمة. بعد تسعة أشهر من الضغط، إزدادت مخاوف السعودية من إنقسام منظمة مجلس التعاون الخليجي، ورأت القيادة في الرياض أن قطر قد قدمت ما يكفي من التنازلات. بحلول كانون الاول (ديسمبر) 2014، عاد سفراء الدول الخليجية الثلاث إلى الدوحة، وإلتقى ممثلو دول مجلس التعاون الخليجي في قمتهم السنوية المقررة في قطر. مع ذلك، فقد عُقدت القمة ليوم واحد فقط بدل يومين، ولم يحضر ثلاثة زعماء من الدول الخليجية الأعضاء.
طوال ربيع 2015، واصلت دولة الإمارات تدخلها وتورطها في الصراعات الإقليمية. على وجه الخصوص، فقد إنضمت مع المملكة العربية السعودية إلى إئتلاف من دول المنطقة، تقوده الأخيرة، للتدخل العسكري المباشر في اليمن الذي كان أكبر وأكثر تعقيداً مما توقّع المحللون. هناك وحدة في الهدف بين أبو ظبي والرياض في اليمن: منع الحوثيين، المجموعة اليزيدية (الشيعية) المحلية، من تشغيل صواريخ “سكود” التي إستولوا عليها من الحكومة اليمنية. كما سعى التحالف أيضاً إلى حرمان الحوثيين، الذين يتلقون بعض الدعم من إيران، من ترسيخ سلطتهم في الدولة اليمنية ومنعهم أيضاً من االتنامي والتحوّل إلى نسخة في شبه الجزيرة العربية عن “حزب الله” اللبناني، المدعوم من إيران والحزب السياسي الذي أصبح مؤثراً جداً في السياسة اللبنانية. إن الإرتباط الديني هنا لا يقل أهمية عن المبررات الجيوسياسية. إن دولة الإمارات تعتبر بأن الزيدية هي جزء من الشيعة، لذا ترى أن ذلك يشكل سبباً مهماً لتدخل إيران ودعمها للحوثيين. وعلى الرغم من أن هذا الارتباط مُبسَّط ثيولوجياً، فإنه يتماشى ويتوافق مع نهج الإمارات “الجيفرسوني” الأوسع. وعلى هذا النحو، فقد دعمت دولة الإمارات، مع الإئتلاف، الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي كزعيم وطني.
في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، حافظت الإمارات على خطها “الجيفرسوني” فيما هي تحارب تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). لقد دعمت طائراتها غارات التحالف الجوية والحملة الأوسع نطاقاً ضد أهداف “داعش” في العراق وسوريا منذ العام 2014 حتى الآن. في الحرب الأهلية السورية نفسها، لوحظ غياب نسبي للإمارات بشكل خاص؛ لقد كانت مترددة في دعم وتمكين أيٍّ من مئات الميليشيات الاسلامية المتشددة من أجل أن يكون لها رأي مسموع في الصراع.
عندما يتعلق الأمر بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فقد إنتهجت أبو ظبي نهجاً “جيفرسونياً” على نطاق واسع أيضاً، وأيّدت مشروع قيام دولتين الذي دعت إليه الجامعة العربية في قمتها التي عُقدت في بيروت في العام 2002. كما كانت الإمارات تتعاون منذ فترة طويلة مع الزعيم السابق لفرع حركة “فتح” في غزة ، محمد دحلان. إن “فتح” هي منظمة سياسية فلسطينية علمانية، ودحلان معروف أيضاً بموقفه المناهض للإسلاميين، فضلاً عن عمله كمستشار لدى ولي العهد في أبو ظبي لإنشاء جهاز أمن داخلي. إن إستعداد دحلان للعمل عن كثب مع الإسرائيليين هو واحد من الأشياء التي ساهمت في إبعاده من السياسة الفلسطينية – ولكنه من الواضح أنه لفت إنتباه الإماراتيين. في تشرين (نوفمبر) 2015، أعلنت إسرائيل أنها بصدد تأسيس مكتب ديبلوماسي رسمي في أبو ظبي. وعلى الرغم من أن المكتب سيكون أدنى منزلة من سفارة أو قنصلية، فسيكون مكتباً إسرائيلياً في الوكالة الدولية للطاقة المتجددة وهي تعد خطوة مهمة لكلا الدولتين.

كل السياسات محلية

إن إمارة أبو ظبي هي إلى حد بعيد الأكبر والأغنى في الإتحاد والتباين في الثروة صارخ بين الإمارات السبع. على سبيل المثال، إن الناتج المحلي الإجمالي لإمارة أبوظبي بالنسبة إلى الفرد الواحد يبلغ حوالي 70,000 دولار. وفي ثلاث إمارات أخرى، الفجيرة، رأس الخيمة، وأم القيوين، يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 20,000 دولار. والحقيقة أنه في هذه الهوامش التي تبدو فيها الفوارق الإجتماعية والإقتصادية واضحة إزدهرت الجماعات الأصولية المتشدّدة، مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، في العقود الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط. إن القلق من تمدّد “الربيع العربي” إلى الإمارات في العام 2011 قاد أبو ظبي للرد مع حُزَم من المساعدات والإستثمار والقروض السكنية، وزيادة المعاشات التقاعدية للعسكريين، ودعم المواد الغذائية بقيمة مليارات عدة من الدولارات. وهدفت كل هذه المبادرات في المقام الأول إلى مساعدة الإمارات الشمالية على التعامل مع الضغوط المالية التي قد تسمح للإسلام السياسي المتشدد في الإنتشار.
لكن هناك إختلافات أكثر جوهرية بين الإمارات الغنية والفقيرة داخل الإتحاد. طوال تاريخ البلاد، مالت الإمارات الشمالية إلى توجّه محافظ ومتحفّظ سياسياً ودينياً أكثر من أبو ظبي. تأسست حركة “الإصلاح” التابعة ل”الإخوان المسلمين” في دبي في العام 1974، لكنها ما لبثت أن أنشأت روابط وفروعاً في الإمارات الشمالية. وقد تبوّأ قياديون من هذه الجماعة الإخوانية في رأس الخيمة مناصب وزارية في التعليم؛ والعمل والشؤون الاجتماعية؛ والعدل؛ والشؤون الإسلامية؛ والأوقاف في سبعينات وثمانينات القرن الفائت.
وسرعان ما إنتشرت الأخبار والتصورات بأن حركة “الإصلاح” صارت تتمتع بنفوذ كبير، وبأنها تتصرف مثل “المافيا” بسيطرتها على العمل والتوظيف في الوزارات التي تشرف عليها، الأمر الذي أثار قلق أبو ظبي ودبي. في أواخر ثمانينات القرن الفائت، طلبت دبي من كل الأئمة إعطاء نسخ مُقدَّماً من خطبهم للحكومة لأخذ الموافقة المُسبقة. وفي الوقت عينه، أبو ظبي، التي كانت تسعى إلى تركيز وتوحيد الإمارات تحت قيادتها، لم تكن تريد أي منافسة، لذا بدأت من جهتها التضييق على أنشطة حركة “الإصلاح” للحد من نفوذها. وبعد محاولة إغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك التي قامت بها مجموعة إسلامية متشددة في العام 1995، أُجبِر بعض الأعضاء في “الإصلاح” على التقاعد من مناصبهم ووظائفهم في الوزارات، وتم ترحيل أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين” الأجانب البارزين في قطاع التعليم من الإمارات.
ولكن المنافسة الداخلية بين الإمارات ما لبثت أن عثّرت حملة أبو ظبي ودبي على حركة “الإصلاح”. وكما تشير الباحثة والكاتبة كورتني فرير في بحثها الذي يدرس تطور جماعة الإخوان في الخليج، فإن الشيخ صقر القاسمي، أمير رأس الخيمة 1948-2010، حمى حركة “الإصلاح”، التي كان يعتبرها بأنها قوة للخير. طوال هذا الوقت، حاولت أبو ظبي التفاوض مع “الإصلاح”، لكنها إضطرت أخيراً إلى تصعيد نهجها في مواجهة تعنّت المجموعة. في نهاية المطاف، أرادت أبو ظبي من المجموعة التراجع عن مواقفها المتشدّدة ونبذ أية إرتباطات خارجية والإعلان عن عدم إنتمائها للمرشد العام ل”الإخوان المسلمين” في القاهرة، وبالتالي تحذو حذو المنظمة الشقيقة في قطر، التي حلّت نفسها في العام 1999. لكن حركة “الإصلاح” رفضت الأمر، ويالتالي تصاعدت التوترات.
على أثر هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، التي شارك فيها رجلان من الإمارات (واحدٌ من رأس الخيمة وآخر من الفجيرة)، تأكّد لأبو ظبي مدى المخاطر المتأتية من السماح لمثل هذه المجموعات بالعمل الذي يخلق مناخاً يمكن أن يولّد التطرف. لذا، إعتقلت الحكومة المئات من أعضاء “الإصلاح” وغيرهم في مختلف الوزارات للحد من نفوذهم. في هذه الحملة، برز الشيخ محمد بن زايد كشخصية وطنية رئيسية، حيث قاد المناقشات في 2003 لإقناع حركة “الإصلاح” بالحدّ من أنشطتها المحلية. كان المنطق الذي يقف خلف نهجه هو، كما تقول فرير، “إذا لم تكن المجموعة تخريبية سياسياً، فإنها لا تتطلب قدرة تنظيمية مستقلة”. مع ذلك، لم تؤدِّ هذه المحادثات الى أي نتيجة، وطرد المئات من أعضاء تنظيم “الإصلاح” من دوائر الحكومة البيروقراطية المختلفة في العام 2006. ومع ذلك، فإن الجماعة بقيت متعنتة ورفضت التراجع.
تغيرت الأمور مع “الربيع العربي” الذي أدى الى رد فعل ثنائي في أبو ظبي. جنباً إلى جنب مع حُزَم المساعدات التي تهدف دعم الإمارات الشمالية، فإن الحكومة أيضاً هاجمت مباشرة تنظيم “الإصلاح”: ألقي القبض على المئات من أعضائه وحُكم عليهم بالسجن، وحُلّت حركة “الإصلاح” رسمياً، وأُعلِنت جماعة “الإخوان المسلمين” مجموعة إرهابية. بالإضافة إلى ذلك، حُظّرت، أو طُردت، مجموعة من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني ومراكز البحوث، أو لم تجدد تصاريح تشغيل وإقامة موظفيها. كثير من هذه المجموعات، مثل مركز الخليج للأبحاث ومركز “كونراد – أديناور-ستيفتونغ” الإلماني، لم يكن لديها أية علاقة بالإسلاميين لكنها وقعت في مرمى النيران. وفُرِضت قيود على حرية التعبير فيما كانت تستعد الحكومة لتحصين نفسها، خوفاً من بعض أنواع الإضطرابات المستوحاة من “الربيع العربي”.
لم يحدث أي شيء، ولكن الطريقة التي سيطر فيها الإسلاميون بعد “الربيع العربي” على الساحات السياسية بلورت فرضية العمل بين النخبة في أبو ظبي بالنسبة إلى عدم الثقة أساساً بالإسلاميين. إنها ترى الاسلاميين على أنهم إنتهازيون ينتظرون على هامش المجتمع لإستغلال فرصتهم للاستيلاء على السلطة. وعلى المرء فقط رؤية الكوارث التي حلت في ليبيا وسوريا واليمن، وإلى حد أقل مصر، لمعرفة ما هي المشاكل التي تظهر عندما تسيطر هذه المجموعات. وكان درس “الربيع العربي” هذا مركزياً بالنسبة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث حدّد سياساتها المحلية والدولية منذ ذلك الحين.

خلافات في الرأي

على الرغم من أن الولايات المتحدة تنسّق بشكل واسع مع المملكة العربية السعودية منذ عشرات السنين، فإن التحالف بين الدولتين حدث على الرغم من، وليس بسبب، نهج الرياض في السياسة. مع ذلك، إن النهج “الجيفرسوني” لدولة الإمارات العربية المتحدة يعكس المبادئ الأميركية الأساسية للحكم، ويمكن أن يؤدي في الواقع إلى تحالف أكثر دواماً بين البلدين. إن موقف أبو ظبي من الإسلام السياسي هو خبر سار ومشجع لواشنطن. ما كُتِب حول الإسلام السياسي يؤطّر هذه المسألة من حيث ما إذا كانت جماعة معتدلة نسبيًا، مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، هي “الحزام الناقل” لمزيد من التطرف أم أنها جدار الحماية ضده. إن دولة الإمارات العربية المتحدة هي من الدعاة الواضحين لنظرية “الحزام الناقل”، وهي تسعى قبل كل شيء إلى تقديم هذه الحالة بلباقة وبطريقة مقنعة إلى الولايات المتحدة. وهناك مشروع قانون للعام 2016 في مجلس النواب الأميركي يدعو إلى إعتبار جماعة “الإخوان المسلمين” منظمة إرهابية. ومن غير المرجح أن يمر هذا المشروع، ومع ذلك فإنه يدل على أن هناك جهات متنفذة في مبنى “الكابيتول” (الكونغرس) يتخذ نهجاً مماثلاً.
ويدل ذلك أيضاً على نجاح جهود دولة الإمارات الديبلوماسية مع أميركا. في وسط هذه العملية هو السفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة. سياسي ماهر يُتقن اللغة الإنكليزية من دون أية لكنة، فقد إستطاع العتيبة تدريجاً ترسيخ دور مؤثر في العاصمة الأميركية. وقد إستعانت الإمارات بشركات الضغط (اللوبي) التي تساعد على تشكيل وإيصال الرسائل الرئيسية حول البلاد أيضاً. ونتيجة لذلك، فقد فازت الإمارات بتغطية إخبارية إيجابية تصف البلاد بالمتطورة عسكرياً والحليفة المسؤولة والحكيمة التي يمكن الإعتماد عليها في منطقة الخليج. وقد دفعت جماعات الضغط أيضاً العاملين في واشنطن إلى تسمية قطر وإعتبارها دولة داعمة للإسلاميين وحليفة غير مؤكّدة.
تتخذ الإمارات العربية المتحدة أيضاً نهجاً بارعاً وحساساً: لقد أصبحت الدولة الخليجية واحدة من أكبر الجهات المانحة الخيرية في واشنطن وإستثمرت مليارات الدولارات في الصناعات الأميركية. كما إفتتحت حرماً لجامعة نيويورك في أبو ظبي، وأطلقت مؤسسة بحثية تحظى بإحترام دولي “معهد دول الخليج العربي” في واشنطن. والأدوات والتجهيزات التقليدية للضغط، مثل مركز الخمس نجوم لسباقات الفورمولا 1 في أبو ظبي وغيره، عمّقت الإنطباع لدى صانعي القرار الأميركي الرئيسيين بأن دولة الإمارات العربية المتحدة هي بلد عصري جذاب، وأضافت إلى مصداقية إدعاءاتها بأن الإسلاميين، مثل جماعة “الإخوان المسلمين” وحلفاؤها، يشكلون خطراً على المنطقة.
بصرف النظر عن القضية الخطابية ضد الإسلاميين، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة قد عززت مصداقيتها بإعتبارها معتدلة، وقادرة، ودولة شريكة عربية فاعلة للولايات المتحدة، التي هي على إستعداد لتحمل بعض العبء في الحفاظ على أمن الخليج – وهذا شيء غير عادي في منطقة، حيث كانت واشنطن تُدعى مراراً من أجل القيام بدور الشرطي. أرسلت أبو ظبي قواتاً للمشاركة في مهمة ل”قوة المساعدة الأمنية الدولية” التابعة ل”الناتو” في أفغانستان، وساهمت بطائرات لمهمة “الناتو” في ليبيا، وإنضمت إلى التحالف ضد “داعش”. وقد وضعت قواتها في المعمعة في عملية عسكرية محفوفة بالمخاطر وطموحة مع المملكة العربية السعودية في اليمن. عندما يتعلق الأمر بالأمن الإقليمي، فإن الإمارات العربية المتحدة تتدخل بنشاط وترد على الدعوات المتزايدة في السياسة الأميركية لقيام دول الخليج بنصيبها العادل في هذا المجال.

فصلٌ وليس علمانية

على الرغم من أن السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة تضعها في تحالف مع الولايات المتحدة، فإنها تأتي مع بعض التناقضات الرئيسية. إن دولة الإمارات تحارب الإسلام السياسي المتطرف، ولكنها لا تريد أن تصبح دولة علمانية. وينبغي النظر إلى بناء مسجد الشيخ زايد العملاق في أبو ظبي بكلفة كبيرة في هذا السياق كوسيلة لحكومة الإمارة لتجسيد الأهمية التي يحتلها الدين الإسلامي في الدولة. كما أنها أيضاً قوة صغيرة تسعى، على نحو متزايد، لكي تصبح لاعباً سياسياً رئيسياً. وليس هناك تناقض في العلاقات أبرز مما هي عليه تناقضات الحكم في أبو ظبي والرياض. تأسست الدولة السعودية على إتفاق واضح ودائم لتقاسم السلطة بين القوى الدينية والسياسية والذي لا يمكن أن تأمل دولة الإمارات تغييره.
مع ذلك، فقد قبلت أبو ظبي التناقضات لثلاثة أسباب. أولاً، المملكة العربية السعودية هي دولة شاسعة مع جيش قوي وعدد ضخم من السكان. بالإضافة الى ذلك، فهي تخدم الحرمين الشريفين. وبالتالي فإن دولة الإمارات ليست في وضع جيد لإنتقاد الإتفاق السياسي الجوهري الذي يقع في قلب الدولة السعودية. ثانياً، أينما وجدت السياسة الخارجية الإماراتية التي تدعمها مُثُل “جيفرسون”، فإنها تشعر بالقلق في المقام الأول بالنسبة إلى تشكيل الدولة في أعقاب الثورة. إن المملكة العربية السعودية هي مستقرة نسبياً وقوية، وغنية، وهناك إحتمال ضئيل لثورة يمكن من خلالها إستخراج الدين من الحمض النووي للدولة. ثالثاً، هناك إتفاق بين النخب في السعودية ودولة الإمارات بشأن القضايا الرئيسية. كلاهما كان مؤمناً وراسخاً بأن الحوثيين في اليمن ينبغي وقفهم، وأن الشراكة ترى الأسئلة حول الحكم الديني مسألة ثانوية بالنسبة إلى المخاوف الأمنية الأكثر إلحاحاً في المنطقة.
ولكن حتى مع تعاون الرياض وأبو ظبي في اليمن، فإن بعض أساليبهما بدأت تتباعد. كلا الدولتين تستخدم قواتاً بالوكالة لمحاربة الحوثيين، ولكن دولة الإمارات العربية المتحدة تميل إلى إستخدام القبائل التي تربطها علاقات عائلية بالإمارات ومرتزقة من أميركا الجنوبية، في حين أن السعوديين قد طوّروا علاقاتهم مع الفرع اليمني ل”الإصلاح”. مثل دولة الإمارات، فإن السعودية سمّت جماعة “الإخوان المسلمين” منظمة إرهابية، في شهر آذار (مارس) 2014. ومع ذلك، في ظل قيادة الملك سلمان، الذي إعتلى العرش في كانون الثاني (يناير) 2015، فقد أنعشت الرياض العلاقات مع مختلف عناصر المجموعة المحظورة لتعزيز أهدافها في اليمن وأماكن أخرى. ويبقى أن نرى كيف سوف تتسامح أبو ظبي مع هذا النهج السعودي وإلى متى. ويشير التاريخ الحديث أن دولة الإمارات العربية المتحدة ستكون منزعجة وغير راضية للسماح لمجموعة مثل تنظيم التجمع اليمني للإصلاح من لعب دور فعّال في أي إتفاقات لتقاسم السلطة في مرحلة ما بعد الصراع.
إن الصعوبات التي تواجهها دولة الإمارات العربية المتحدة في اليمن تؤكد التحديات الأوسع نطاقاً عندما يتعلق الأمر بتعزيز الحكم العلماني في المنطقة. في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإن الخطاب الديني يهيمن بشكل علني على الدوائر السياسية والعامة. إن المجموعات الوطنية التي تدعمها دولة الإمارات ضد هذا المد الأوسع ليست نتاج الدعم الخارجي، لكنها لا تحظى بدعم كبير في العالم العربي. ومهما كان غنى دولة الإمارات وتمويلها جيداً، فإنها لا يمكنها أن تستمر في تقديم الدعم لهذه المجموعات إلى الأبد — خصوصاً إذا بقيت أسعار النفط هابطة إلى مستويات قياسية. أبو ظبي، بالطبع، تدرك جيداً هذه التحديات. وهي تدرك أنها تسبح ضد التيار في منطقة الشرق الأوسط، وأن فصل العلاقات بين الدين والسياسة في المنطقة يعني كشف المواقف الفلسفية الراسخة.
مع ذلك، تحتاج القيادة الإماراتية إلى مقاومة حماسها الكبير في تنفيذ سياسات “جيفرسون” لبناء الدولة إذا لم تكن هناك أدلّة على التعنّت العقائدي والخطير جداً الذي تشكو من أنه غالباً ما يميّز الإسلام السياسي. لقد بدأت دولة الإمارات تبنّي نهج رمادي غامض بالنسبة إلى هذه المسألة — لا سيما عندما لم تعارض أبو ظبي تمكين المملكة العربية السعودية لقادة “الإصلاح” المحليين في المدينة اليمنية تعز.
إذا كانت أبو ظبي تريد مواصلة مهمتها العبثية الشاقة لفصل الدين عن السياسة في الشرق الأوسط، ينبغي عليها أن تنسج مساراً دقيقاً بين البراغماتية والعلمانية.

• دايفيد ب. روبرتس أستاذ محاضر في جامعة كينغز في لندن.
• هذا المقال كُتِب بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى