“شعراؤنا” الأرمن هل كانوا لبنانيين أم عرباً؟!

ما هي علاقة الأدب الأرمني بالأدب العربي؟ وتحديداً بأدباء المهجر اللبنانيين أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وأمين الريحاني وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة ورشيد أيوب وغيرهم؟! هل هي المأساة التي جمعتهم إبان الإحتلال التركي وصنوف العذاب والتنكيل التي تلقاها أهل بلاد الشام على أيدي العثمانيين الذين لم يوفروا جماعة إثنية عاشت تحت حكمهم من المذابح التي طاولت السريان والأرمن والأكراد والأشوريين جماعياً وبغير رحمة؟! أم هي المصادفة وحدها التي جعلت أوجاع الشعراء واحدة وهمومهم واحدة وقضاياهم واحدة؟!

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

بيروت – جوزف قرداحي

لعل الغزوات الكثيرة والإحتلالات التي تعرّض لها البلدان (أرمينيا ولبنان)، ومن الشعوب نفسها: (أشوريون، يونان، رومان، عرب، مغول، فرس، أتراك وروس) لم تكن وليدة مصادفة ربما. فالموقع الجغرافي الاستراتيجي لكلا البلدين، جذب جيوش تلك الشعوب.
تقول مؤلفة الكتاب جولي مراد: “لو ألقيت نظرة على خارطة أرمينيا الحالية وعكست اتجاهها بالمقلوب، لرأيت خارطة لبنان. إنه أمر فاجأني لأنني لم أكن أدرك مدى التشابه بين لبنان وارمينيا حتى بالجغرافيا، مع الفارق أن أرمينيا لا تقع على البحر بسبب قضم أراضيها من الجانب التركي. لهذا تجد أن المعاناة جراء الغزوات والإحتلالات التي تعرض لها الشعبان اللبناني والأرمني هي واحدة، وخصوصاً إبان الإحتلال التركي الذي جوّع اللبنانيين والسوريين في العام 1914، والمذابح الجماعية التي تعرّض لها الشعب الأرمني في العام 1915، ما جعله يجد في الوطن اللبناني ملاذاً آمناً، وشعباً يشبهه في الكثير من العادات والتقاليد. من هنا تجد هذا الاندماج السريع للشعب الأرمني في البيئة اللبنانية، وتكيفه مع مختلف مفاصل الحياة فيها، إلى درجة أنك لا تعود قادراً على التمييز ما بين الشعبين المنصهرين إلى حد الإندماج.
هذا الإندماج الأدبي والتراثي ما بين الشعبين الأرمني واللبناني، يلاحظه د. ربيعة أبي فاضل في أكثر من قصيدة في كتاب جولي أبو مراد “شعراؤنا/ صانعو مجد أرمينيا”، ولا سيما أن إمكانية الترجمة من لغة الى لغة وإن اعتبره البعض خيانة للشعر وللنص واللغة، إلا ان التجارب الآتية من وجع مشترك ومن قضية واحدة، من شأنها أن تساهم في تقريب هذا الاحساس ما بين لغتين مهما تباعد في النطق والسمع.
يقول ربيعة ابي فاضل: “ثمة تلاقِ رهيب ما بين التجربتين اللبنانية والأرمنية في الشعر والأدب، وعلى سبيل المثال يقول الشاعر الأرمني غيفونت أليشان (مواليد 1820) في قصيدة “النهر/ هراستان”:
ها هي الأرض… للغرباء تُركت
فأصبحتُ “هائماً” أعيش في غربة
أين أهلي؟
يا هراستان يا مياه وطني، أين أعيادي، طقوسي، أين مقدساتي…
أين صروحي
أين أشجار اللوز
هل “ذرّتها” الرياح؟ (صفحة 104)”.
يتابع د. أبي فاضل: “في الوقت عينه، تقرأ لجبران خليل جبران “مات أهلي”، فتلحظ أن الروح واحدة والمعاناة واحدة:
مات أهلي جائعين،
ومن لم يمت جوعاً قضى بحد السيف.
نكبةُ بلادي مأساة
حبلت بها رؤوس الأفاعي والثعابين”.
يؤكد أبي فاضل: “السؤال “أين أهلي” تأكيد لموتهم، تماماً كما جبران حين أعلن موت أهله في مجاعة 1915-1918.
على الرغم من الفارق الزمني مابين قصيدة “النهر/ هراستان” لأليشان التي كتبها في العام 1847 أبان الغزو الفارسي، وقصيدة جبران “مات أهلي” التي كتبها في مجلة “الفنون” المهجرية العام 1917، إثر المجاعة التي اجتاحت سكان القرى في لبنان إلا أن التشابه في الوصف يكاد يكون واحداً. أليشان يأخذنا في قصديته بعيداً إلى سهول ووديان أرمينيا حيث أهله يقاسون نير الإحتلال الفارسي:
أين أهلي يا هراستان
هل أسرهم الفرس
أدخلوا في صدر الثرى؟
آه… يا هراستان… أيها النهر
يا مياه وطني
أيتها الشطآن… أبصمت تنتحبين؟!
يكفيك يا نهري دمعي ونحيبي (صفحة 105)”.
يبدو جلياً مقدار المعاناة التي عاشها الشاعر غيفونت أليشان غريباً في وطنه، أو ربما في غربة المنفى، حيث ولد في القسطنطينية على ما تقول سيرته الذاتية وعاش وترعرع متنقلاً ما بين فيينا سعياً للدراسة، وموسكو وإيطاليا وباريس في بحثه عن لقمة العيش!
لا يسعنا اختصار كتاب “شعراؤنا/ صانعو مجد أرمينيا”، الأقرب إلى موسوعة منه إلى كتاب من الحجم الكبير، من خلال القاء الضوء على سيرة وأعمال شاعر واحد من مجموع الشعراء الأرمن الذين جمعتهم جولي مراد في هذا المجلد الضخم والأنيق، في عمل أدبي تميّز بالبحث الدقيق، والجهد المضني امتد إلى سنوات، للخروج بترجمة أمينة لعشرات القصائد المختارة بعناية، ونقلها إلى قراء العربية، محافظة على هذا النبض الإبداعي في الوصف والبنية الشعرية، حتى ليخال قارىء لغة الضاد أنه أمام قصائد لشعراء لبنانيين أو سوريين أو مصريين بفضل أمانة الترجمة وسلاسة نصوصها.
اللافت في كتاب جولي مراد الصادر عن “دار المراد” بتجليد فني فاخر، هو الجمع ما بين الشعراء والرسامين التشكيليين وشهداء الكنيسة الأرمنية، وكأن مراد الأديبة والصحافية المتعمقة في اللغات شاءت نقل تاريخ متكامل للحضارة الأرمنية إلى العربية، في محاولة لبث الروح إلى هذا التراث المجهول من غالبية الناطقين بلسان العرب. على الرغم مما تحمله هكذا إصدارات من مغامرة كبرى على مستوى الإقبال، في زمن الاستهلاك الإلكتروني والقراءة الرقمية المقتصرة على ما تنشره وسائل التواصل الإجتماعية من أخبار سريعة، خفيفة، وثقافة فايسبوكية هشة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى