خيار أميركا في الشرق الأوسط: القتال أو الإنسحاب

نادراً ما كان الشرق الأوسط الحديث هادئاً، لكنه لم يكن أبداً بهذا السوء، يكتب الخبير في شؤون المنطقة كينيث بولاك. إن الرئيس الأميركي المقبل سوف يواجه خياراً في العالم العربي: بذل المزيد من الجهود لتحقيق الإستقرار فيه، أو فك الارتباط معه أكثر مما هو عليه الوضع الآن. وفي كلتا الحالتين هناك تداعيات إقليمية ودولية.

الحرب في اليمن: التدخل السعودي مكلف
الحرب في اليمن: التدخل السعودي مكلف

بقلم كينيث بولاك*

لم يعرف الشرق الأوسط الحديث إلّا نادراً الهدوء، لكن أوضاعه لم تكن أبداً بهذا السوء. رياح الحروب الأهلية تعصف بغضب في العراق وليبيا وسوريا واليمن. والنزاعات الناشئة تنضج في مصر، وجنوب السودان، وتركيا. وأشكال مختلفة من التمدّد لهذه الحروب الأهلية تهدّد الإستقرار في الجزائر، الأردن، لبنان، المملكة العربية السعودية، وتونس. كما تصاعدت حدة التوتر بين طهران والرياض إلى آفاق جديدة، رافعةً شبح الحرب الدينية على مستوى المنطقة. وشهدت إسرائيل والفلسطينيون تجدد العنف على مستوى منخفض. وقد نجت كلٌّ من الكويت، المغرب، سلطنة عُمان، قطر، والإمارات العربية المتحدة وتجاوزت العاصفة حتى الآن، ولكنها، مع ذلك، تبدو قلقة وخائفة مما يجري حولها. الواقع أن الشرق الأوسط لم يشهد منذ غزوات المغول في القرن الثالث عشر إنتشار مثل هذه الفوضى الكبيرة.
علاوة على ذلك، فإنها من غير المُحتمَل أن تتراجع في أي وقت قريب. بغض النظر عن عدد المرات التي أصرّ فيها الأميركيون على ترك شعوب الشرق الأوسط تعود إلى رشدها وحل خلافاتها بأجهزتها الخاصة، فإن ذلك لم يحدث. في غياب التورط الخارجي، فإن قادة المنطقة يختارون بإستمرار إستراتيجيةً تؤدي إلى تفاقم النزاع وتغذية عدم الإستقرار الدائم. إن الحروب الأهلية هي مشاكل مستعصية بشكل خاص، ومن دون تدخل خارجي حاسم، فإنها تبقى وتستمر عادة لعقود. الحرب الأهلية الكونغولية تدخل عامها ال22، وحرب البيرو عامها ال36، والأفغانية عامها ال37. ولا يوجد أي سبب للتوقع بأن نيران النزاعات في الشرق الأوسط ستخمد من تلقاء نفسها على حد سواء.
ونتيجة لذلك، فإن الرئيس الأميركي المقبل سوف يواجه خياراً في الشرق الأوسط: بذل المزيد من الجهد لتحقيق الإستقرار فيه، أو فك الارتباط معه أكثر. ولكن نظراً إلى مدى الإضطرابات التي تجتاح المنطقة، فإن الخيارين – خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء- سيكلفان الولايات المتحدة أكثر بكثير مما تتصور عادة. إن إستقرار المنطقة من شبه المؤكد أنه يتطلب المزيد من الموارد، والطاقة، والإنتباه، ورأس المال السياسي أكثر مما يعترف معظم المدافعين عن الموقف الذي يميل إلى تدخل الولايات المتحدة أكثر. وبالمثل، فإن التخلي عن مزيد من السيطرة والتخلي عن المزيد من الالتزامات في المنطقة يتطلب قبول مخاطر أكبر بكثير مما يعترف به معظم المراقبين في هذا الفريق. إن تكاليف زيادة التدخل هي أكثر سهولة من مخاطر التراجع، ولكن كلاً من الخيارين يبقى أفضل من سياسة التخبط.

الرجل، الدولة، والحرب الأهلية

إن إستيعاب الخيارات الحقيقية التي تواجه أميركا في الشرق الأوسط يتطلب فهماً صادقاً حول ما يجري في تلك المنطقة. على الرغم من أنه من المألوف أن يوضع اللوم لمتاعب المنطقة على الأحقاد القديمة أو على رسم الخرائط الفقير للبريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، فإن المشاكل الحقيقية قد بدأت مع نظام الدولة العربية الحديثة. بعد الحرب العالمية الثانية، صارت الدول العربية مستقلة. معظمها خرج من نير القوى الإستعمارية الأوروبية، وإعتمد أنظمة سياسية أكثر حداثة، سواء جمهوريات علمانية (عملياً ديكتاتوريات) أو ملكيات جديدة.
لم تعمل أيٌّ دولة من هذه الدول بشكل جيد. لشيء واحد، إن إقتصاداتها إعتمدت بشكل كبير على النفط، إما مباشرة، من طريق ضخه بأنفسها، أو غير مباشرة، من طريق التجارة والمساعدات وتحويلات العاملين في الخارج. هذه الإقتصادات الريعية أنتجت عدداً قليلاً جداً من فرص العمل والكثير من الثروات التي لا يسيطر عليها أو يولّدها سكانها المدنيون، الأمر الذي شجّع النخب الحاكمة على معاملة مواطنيها كمُعالين وتابعين. وقد ولّدت أموال النفط الفساد المستشري، جنباً إلى جنب مع قطاع عام متضخّم غير مهتم في إحتياجات أو تطلعات الشعب على نطاق أوسع. ومما زاد الطين بلّة، أن الدول العربية خرجت من الإستعمارين العثماني والأوروبي مع نظمها التقليدية الاجتماعية والثقافية سليمة، والتي ساهمت الثروة النفطية والإستبداد في الحفاظ عليها وحتى الإنغماس فيها.
هذا النموذج إستمر لعقود عدة، قبل أن يبدأ بالإنهيار في أواخر القرن العشرين. أصبح سوق النفط أكثر تقلباً، مع فترات طويلة من إنخفاض الأسعار، مما خلق صعوبات إقتصادية حتى في الدول الغنية بالنفط مثل الجزائر والعراق والمملكة العربية السعودية. لقد جلبت العولمة إلى المنطقة أفكاراً جديدة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فضلاً عن التأثيرات الثقافية الخارجية. وقد طالب المواطنون العرب (والإيرانيون، في هذه المسألة) على نحو متزايد حكوماتهم بالمساعدة على إصلاح وحل مشاكلهم. ولكن كل ما حصلوا عليه من إستجابة هوالإهمال الخبيث.
بحلول تسعينات القرن الفائت، كانت درجة حرارة السخط الشعبي قد إرتفعت في جميع أنحاء الشرق الأوسط. جماعة “الإخوان المسلمين” والمنظمات العديدة التابعة لها نمت بسرعة كمعارضة سياسية للأنظمة. آخرون تحوّلوا إلى العنف – مثيرو الشغب في منطقة نجد في السعودية، والمتمرّدون الإسلاميون في مصر، وجماعات إرهابية مختلفة في أماكن أخرى – وكلهم يسعون للإطاحة بحكوماتهم. في نهاية المطاف، بعض هذه الجماعات قرر أنه ينبغي أولاً إبعاد الداعمين الخارجيين لتلك الحكومات، بدءاً بالولايات المتحدة.
الإحباط المكبوت والرغبة من أجل التغيير السياسي إنفجرا أخيراً في “الربيع العربي” في العام 2011، مع إندلاع إحتجاجات واسعة النطاق في جميع الدول العربية تقريباً، وإسقاط أو شل النظام في خمس منها. لكن الثورات دائماً ما تكون من الأمور الصعبة التي تسير بشكل صحيح. وقد ثبت أن هذا الأمر ينطبق بصفة خاصة على العالم العربي، حيث المستبدّون في كل بلد قد قضوا على أي زعيم معارض صاحب “كاريزما” الذي يمكنه أن يوحّد البلاد بعد سقوط النظام، وحيث لم تكن هناك أفكار شعبية بديلة حول كيفية تنظيم دولة عربية جديدة. لذلك كانت النتيجة في ليبيا وسوريا واليمن فشل الدولة، وفراغاً أمنياً، وحرباً أهلية.
إذا كانت المشكلة في الدرجة الأولى في منطقة الشرق الأوسط هي فشل النظام العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أصبح إندلاع الحروب الأهلية مشكلة من الدرجة الثانية لا تقل أهمية. وقد قسّمت هذه الصراعات أبناءها وأخذت طابعاً خاصاً، لتصبح محرّكات لعدم الإستقرار الذي يشكّل الآن أكبر خطر فوري على كل شعوب المنطقة وبقية العالم.
وتتميّز الحروب الأهلية بعادة سيئة تتمثل بالتمدّد والإنتشار إلى جيرانها. أعداد كبيرة من اللاجئين تعبر الحدود، كما تفعل أعداد أصغر، ولكن ليست أقل إثارة للمشاكل، من الإرهابيين ومقاتلين مسلحين آخرين. هكذا أيضاً تفعل الأفكار التي تشجع المسلحين، والثورة والإنفصال. وبهذه الطريقة، يمكن للدول المجاورة أنفسها أن تقع فريسة لعدم الإستقرار أو حتى للصراع الداخلي. في الواقع، وجد الخبراء أن أقوى مؤشر إلى أن الدولة سوف تشهد حرباً أهلية هو ما إذا كانت تقع حدودها مع دولة متورّطة فعلياً في واحدة.
وللحروب الأهلية أيضاً عادة سيئة في إستيعاب البلدان المجاورة. في سعيها لحماية مصالحها ومنع تمدد الحرب، تختار الدول عادة مقاتلين معينين للدعم. ولكن ذلك يسحبها ويدخلها في صراع مع الدول المجاورة الأخرى التي إنتقت أفرقاءها المفضّلين وتحالفت معهم. حتى لو كان هذا التنافس لا يزال معركة بالوكالة، فإنه من الممكن أن يشكل إستنزافاً إقتصادياً وسياسياً، وحتى مدمّراً. في أسوأ الأحوال، يمكن أن يؤدي النزاع إلى حرب إقليمية، ذلك أنه عندما تكون الدولة، مقتنعة بأن وكلاءها لا يقومون بالمهمة، فإنها ترسل قواتها المسلّحة. وللتدليل على هذه الديناميكية، لا يحتاج المرء النظر إلى أبعد من التدخل السعودي في اليمن، أو العمليات العسكرية الإيرانية والروسية في العراق وسوريا.

أعراض الانسحاب

كما لو كان فشل النظام العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية وإندلاع أربع حروب أهلية ليسا سيئين بما فيه الكفاية، في خضم كل هذا، فقد نأت الولايات المتحدة بنفسها عن المنطقة. لم يكن الشرق الأوسط من دون إشراف دولة عظمى من نوع أو آخر منذ الفتوحات العثمانية في القرن السادس عشر. هذا لا يعني أن الهيمنة الخارجية كانت دائما حسنة لا تشوبها شائبة؛ لا لم تكن. ولكنها في كثير من الأحيان لعبت دوراً بناء في تخفيف الصراع. جيداً أو سيئاً، لقد إعتادت دول المنطقة على التفاعل مع بعضها البعض مع وجود طرف ثالث سائد في الغرفة، مجازياً وغالباً حرفياً.
كان فك الإرتباط الأكثر ضرراً في العراق. إن إنسحاب أميركا من البلاد كان أهم عامل من مجموعة العوامل التي جرفتها مرة أخرى إلى حرب أهلية. وقد إعترف الخبراء منذ فترة طويلة أن رعاية أمة للخروج من حرب أهلية تتطلب وجود قوات حفظ للسلام داخلية أو خارجية لضمان شروط ترتيب جديد لتقاسم السلطة بين الأطراف المتحاربة. مع مرور الوقت، يمكن أن يصبح دورها رمزياً على نحو متزايد، كما كان الحال مع منظمة حلف شمال الأطلسي في البوسنة. إن وجود الحلف هناك إنخفض إلى قوة ضئيلة عسكرياً في غضون نحو خمس سنوات، لكنه لا يزال يلعب دوراً سياسياً ونفسياً حاسماً في طمأنة الفصائل المتناحرة من أن أياً منها لن يعود إلى العنف. في حالة العراق، لعبت الولايات المتحدة هذا الدور، وأدى فك الإرتباط في 2010 و2011 بالضبط إلى ما توقعه التاريخ.
وقد لعبت هذه الظاهرة بشكل أكبر في منطقة الشرق الأوسط. إن إنسحاب الولايات المتحدة قد أجبر الحكومات هناك على التفاعل بطريقة جديدة، من دون أمل بأن تقوم واشنطن بتوفير مسار تعاوني للخروج من المآزق الأمني المنتشر في المنطقة. إن فك الإرتباط الأميركي قد جعل العديد من الدول تخشى من أن دولاً أخرى سوف تصبح أكثر عدوانية من دون وجود أميركا لكبح جماحها. وقد دفعها هذا الخوف إلى التصرف ذاتياً والإقدام على العمل بقوة أكبر، وهذا بدوره أثار تحركات معاكسة أشدّ، مرة أخرى على أمل بأن الولايات المتحدة لن تتحقق من الخطوة الأصلية أو الرد عليها. وقد نمت هذه الدينامية الأكثر حدة بين إيران والمملكة العربية السعودية، التي يتزايد فيها الفعل ورد الفعل بينهما أكثر فأكثر. وقد إتخذت السعودية خطوة مذهلة من خلال التدخل المباشر في الحرب الأهلية في اليمن ضد الأقلية الحوثية في البلاد، والتي تعتبرها الرياض وكيلاً إيرانياً يهددّ جناحها الجنوبي.
حتى فيما يتجه الشرق الأوسط إلى الخروج عن نطاق السيطرة، فإن المساعدة ليست على الطريق. إن سياسات إدارة أوباما تجاه المنطقة لم تصمم لتخفيف، ناهيك عن إنهاء، مشاكلها الحقيقية. هذا هو السبب في أن وضع المنطقة قد إزداد سوءاً منذ دخول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض، ولماذا لا يوجد سبب للإعتقاد بأن ذلك الوضع سوف يتحسّن ويكون أفضل قبل أن يترك منصبه.
في خطابه في العام 2009 في القاهرة، زعم أوباما أن الولايات المتحدة ستحاول مساعدة المنطقة على التحوّل إلى نظام عربي جديد، لكنه لم يدعم خطابه بسياسة فعلية أو موارد. ثم، في العام 2011، فشلت إدارته في وضع إستراتيجية متماسكة للتعامل مع “الربيع العربي”، واحدة قد تساعد على الإنتقال إلى دولة ذات أنظمة تعددية أكثر إستقراراً. بعدما غابت عن أفضل الفرص المتاحة لها، فإن واشنطن بالكاد الآن تتشدّق بكلام عن الحاجة إلى إصلاح تدريجي في المدى الطويل.
أما بالنسبة إلى الحروب الأهلية، فقد ركّزت الإدارة الأميركية على معالجة أعراضها فقط — محاولة إحتواء تمدّدها وإنتشارها – من طريق مهاجمة تنظيم “الدولة الإسلامية”،(أو داعش)؛ وقبول بعض اللاجئين؛ والعمل على منع وقوع هجمات إرهابية في الولايات المتحدة. ولكن تاريخ الحروب الأهلية يوضّح أنه من الصعب للغاية إحتواء تمددها، والشرق الأوسط اليوم يثبت أنه ليس إستثناء. لقد ساعد التمدد من سوريا على دفع العراق الى حرب أهلية. بدوره، ولّد التمدد من الحروب الأهلية العراقية والسورية حرباً أهلية على مستوى منخفض في تركيا ويهدد أن يفعل الشيء نفسه في الأردن ولبنان. إن التمدد من ليبيا يساهم في زعزعة إستقرار مصر ومالي وتونس. وقد سحبت الحروب الأهلية العراقية والسورية واليمنية إيران ودول الخليج الى حرب سيئة بالوكالة شارك فيها الجميع في ساحات القتال الثلاث. كما أن تمدد اللاجئين، والإرهابيين، والتطرف من كل هذه الحروب قد خلق معضلات جديدة لأوروبا وأميركا الشمالية.
في الواقع، إنه من المستحيل القضاء على نحو فعال على أعراض الحروب الأهلية من دون علاج الأمراض الكامنة. بغض النظر عن آلاف اللاجئين الذين سيقبلهم الغرب، فطالما بقيت الحروب الأهلية مشتعلة فإن ملايين إضافية سيهربون. وبغض النظر عن عدد الإرهابيين الذين تقتلهم الولايات المتحدة، فمن دون وضع حد للحروب الأهلية، فإن المزيد من الشباب سوف يبقى يتحول إلى الإرهاب. على مدى السنوات ال15 الماضية، نما التهديد من السلفية الجهادية من حيث الحجم على الرغم من الضرر الذي ألحقته الولايات المتحدة بأسس وقيادة تنظيم “القاعدة” في أفغانستان. في أماكن ترزح تحت وطأة الحرب الأهلية، فإن فروع المجموعة الإرهابية، بما في ذلك “داعش”، تجد مجندين جدداً، وملاذات آمنة جديدة، ومجالات جديدة للجهاد. ولكن حيث يسود النظام، فإن هذه التنظيمات تتبدد. لا تنظيم “القاعدة” ولا “داعش” إستطاع تجنيد الكثير في أيٍّ من الدول القوية المتبقية في المنطقة. وعندما جلبت الولايات المتحدة الإستقرار في البداية إلى العراق في أوائل العام 2007، وصل تنظيم “القاعدة” هناك الى حافة الإنقراض، إلا أنه ما لبث أن وجد الخلاص في العام 2011، عندما إندلعت الحرب الأهلية المجاورة في سوريا.
علاوة على ذلك، على عكس الحكمة التقليدية، فمن الممكن لطرف ثالث تسوية حرب أهلية قبل فترة طويلة من إنتهائها من تلقاء نفسها. وقد وجد خبراء الحروب الأهلية بأنه في نحو 20 في المئة من الحالات منذ العام 1945، ونحو 40 في المئة من الحالات منذ العام 1995، كان الفاعل الخارجي فقط قادراً على هندسة مثل هذه النتيجة. القيام بذلك ليس سهلاً، بطبيعة الحال، ولكن ليس من الضروري أن يكون باهظ الثمن ومدمراً كما كانت تجربة الولايات المتحدة المؤلمة في العراق.
إنهاء حرب أهلية يتطلب من قوة التدخل تحقيق ثلاثة أهداف. أولاً، يجب أن تغيِّر الديناميات العسكرية مثل: أن أياً من الأطراف المتحاربة ينبغي أن يعتقد أنه قادر على إحراز نصر عسكري، ولا يخشى من أنه سيتم قتل أو ذبح مقاتليه بمجرد إلقاء أسلحتهم. ثانياً، يجب أن يتم التوصل إلى إتفاق لتقاسم السلطة بين المجموعات المختلفة بحيث تتمتع كلها بحصة عادلة في تشكيل حكومة جديدة. وثالثاً، يجب أن تُنشَأ في المكان مؤسسات قادرة على طمأنة جميع الأطراف من أن الشرطين الأولين سوف ينفذان ويصمدان. إلى حد غير معروف، فإن هذا هو بالضبط كان المسار الذي إتبعه حلف شمال الاطلسي في البوسنة في 1994-1995 وبعده الولايات المتحدة في العراق في 2007-2010.
ويفيد التاريخ أيضاً أنه عندما تضلّ القوى الخارجية عن هذا النهج أو لا تخصص الموارد الكافية لذلك، فإن تدخلها محكوم بالفشل لا محالة، وعادة ما يجعل الصراعات دموية أكثر لفترة أطول وأقل إحتواء. لا عجب بأن سياسة واشنطن تجاه العراق وسوريا (ناهيك عن ليبيا واليمن) قد فشلت منذ العام 2011. وطالما واصلت الولايات المتحدة تجنّب إتباع النهج الوحيد الذي يمكن أن يعمل، فليس هناك سبب لتوقع أي شيء آخر. على الأكثر، إن حملة الجيش الأميركي الحالية ضد “داعش” في العراق وسوريا سوف تهندس النتيجة عينها التي آلت إليها في وقت سابق ضد تنظيم “القاعدة” في أفغانستان: قد تضر الولايات المتحدة بشدة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن ما لم تضع حداً للصراعات التي تحافظ عليه، فإن المجموعة الإرهابية سوف تتحول وتنتشر في نهاية المطاف من طريق إبن “داعش”، تماما كما أن هذا الأخير هو إبن تنظيم “القاعدة”.

التدخل

تحقيق الإستقرار في الشرق الأوسط يتطلب نهجاً جديداً — واحدٌ يواجه الأسباب الجذرية للمشاكل في المنطقة ومدعوم بموارد كافية. وينبغي أن تكون الأولوية الأولى إنهاء الحروب الأهلية الحالية. في كل حالة، يتطلب الأمر أولاً تغيير ديناميات ساحة المعركة لإقناع جميع الفصائل المتحاربة أن النصر العسكري مستحيل. في عالم مثالي، ينطوي ذلك على إرسال أعداد قليلة من القوات القتالية الاميركية الى العراق (ربما 10,000) ومن المحتمل إلى سوريا. ولكن في حال عدم وجود الإرادة السياسية حتى للإلتزام بإرسال قوات متواضعة، عندها سيكون المزيد من المستشارين العسكريين، والقوة الجوية، وتبادل المعلومات الإستخبارية والدعم اللوجستي كافياً، ولكن مع إحتمال نجاح أقل.
بغض النظر، فإن على أميركا وحلفائها أيضاً بناء قوات مسلحة أصلية جديدة قادرة على إلحاق الهزيمة أولاً بالإرهابيين والميليشيات والمتطرفين ومن ثم تكون بمثابة الأساس لدولة جديدة. في العراق، هذا يعني إعادة تدريب وإصلاح قوات الأمن العراقية إلى درجة أكبر مما تتصور السياسة الأميركية الحالية. في ليبيا وسوريا واليمن، فإن ذلك يعني خلق جيوش جديدة أصلية وتقليدية التي (مع دعم أميركي كبير) ستكون قادرة على هزيمة أي منافس محتمل، وضمان أمن وسلامة المدنيين، وفرض شروط وقف إطلاق نار دائم.
في كل الحروب الأهلية الأربع، سوف يكون على الولايات المتحدة وحلفائها أيضاً بذل جهود سياسية كبيرة تهدف إلى إقامة ترتيبات لتقاسم السلطة بشكل منصف. في العراق، ينبغي على واشنطن أن تأخذ زمام المبادرة في تحديد كلٍّ من إحتياجات الحد الأدنى والمجالات المحتملة للإتفاق بين مختلف الفصائل الشيعية والسنية، مثلما أنجز ريان كروكر، السفير الأميركي في العراق بين 2007 و2009، وفريقه كجزء من إستراتيجية زيادة عدد القوات الأميركية. هذا، بالإضافة إلى أن إعطاء الموارد المادية لمختلف القادة السياسيين العراقيين المعتدلين من الشيعة والسنة ودوائرهم الإنتخابية، ينبغي أن يسمح للولايات المتحدة التوصل الى إتفاق جديد لتقاسم السلطة. مثل هذا الترتيب يجب أن يُنهي عزلة السكان السنة، التي تقع في قلب مشاكل العراق الحالية. وهذا، بدوره، سيجعل الأمر أسهل بكثير لحكومة حيدر العبادي والولايات المتحدة لتشكيل قوات عسكرية سنية للمساعدة على تحرير المناطق ذات الغالبية السنية في البلاد من “داعش” والمساعدة على التقليل من قوة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
في سوريا، إن محادثات السلام الجارية في فيينا توفّر نقطة إنطلاق للتوصل إلى حل سياسي. لكنها لا تقدم كثيراً، لأن الظروف العسكرية لا تفضي إلى تسوية سياسية حقيقية، ناهيك عن وقف دائم للأعمال العدائية. لا نظام الأسد ولا المعارضة المدعومة من الغرب يعتقدان بأنهما يستطيعان تحمل وقف القتال، وكل واحدة من أقوى ثلاث مجموعات من المتمردين الإسلاميين المتشددين – “أحرار الشام”، و”جبهة النصرة”، و”داعش”- لا تزال مقتنعة أنه يمكنها تحقيق نصر عسكري تام. لذلك، إلى أن يتحوّل الواقع في ساحة المعركة، فإن القليل يمكن أن يتحقق على طاولة المفاوضات. إذا تغيّر الوضع العسكري، عندها ينبغي على الديبلوماسيين الغربيين مساعدة المجتمعات السورية على صياغة ترتيب يوزّع السلطة السياسية والمنافع الإقتصادية بصورة عادلة. إن الصفقة يجب أن تتضمن العلويين، ولكن ليس بالضرورة الرئيس بشار الأسد نفسه، وتحتاج إلى طمأنة كل فصيل إلى أن الحكومة الجديدة لن تظلمه، بالطريقة التي ظلمت بها الأقلية العلوية الغالبية السنية في الماضي.
الإضطرابات في ليبيا تعكس تلك التي في سوريا، بإستثناء أنها تتلقى إهتماماً دولياً أقل بكثير. وبالتالي، فإن الخطوة الأولى هناك هو أن تُقنع الولايات المتحدة شركاءها بالقيام بدور أكثر إيجابية. إذا كان يجب على أميركا أن تقود في العراق وسوريا، عندها يتعيّن على أوروبا أن تقود في ليبيا. وبفضل علاقاتها الإقتصادية وقربها من القارة القديمة، فإن ليبيا تهدد المصالح الأوروبية مباشرة أكثر مما تفعل بالنسبة إلى المصالح الأميركية، وتدخل حلف شمال الأطلسي في العام 2011 في ليبيا يمكن أن يكون بمثابة سابقة للقيادة الأوروبية. وبطبيعة الحال، فإن الأوروبيين لن يشاركوا في هذا التحدي إذا لم يكونوا مقتنعين بأن الولايات المتحدة تعتزم القيام بدورها في قمع الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، مما يؤكد على أهمية وجود إستراتيجية أميركية متماسكة مدعومة بالموارد بشكل صحيح. لمساعدة أوروبا في القتال في ليبيا، ينبغي على واشنطن بلا شك الإلتزام بتقديم المساعدة المتعلقة بالعتاد، والقيادة، والسيطرة، والإستخبارات، وربما حتى المستشارين العسكريين.
في اليمن، لم تستطع الحملة الجوية لدول الخليج العربية من تحقيق الكثير، ولكن تدخل قوة برية صغيرة بقيادة دولة الإمارات العربية المتحدة أدى إلى نكسة لتحالف المتمردين، وخلق فرصة حقيقية للتفاوض على نهاية للصراع. وللأسف، فإن الدول الخليجية تبدو غير راغبة في تقديم شروط للمعارضة اليمنية التي من شأنها أن تقسّم بشكل منصف السلطة السياسية والمنافع الإقتصادية في البلاد، ويبدو أنها على قدم المساواة غير راغبة في تقديم ضمانات أمنية. لرسم نهاية لهذا الصراع، فإن على الولايات المتحدة وحلفائها القيام بتشجيع شركائها في الخليج على تقديم تنازلات ذات معنى. إذا لم تفلح في ذلك، عندها سيكون أنفع شيء يمكن القيام به هو محاولة إقناع دول الخليج بالحد من مشاركتها في اليمن قبل أن يهدد إجهاد وضغط التدخل تماسكها الداخلي.
بعد إنهاء الحروب الأهلية الحالية، فإن الأولوية التالية لإستراتيجية زيادة التدخل الأميركية في الشرق الأوسط ستكون دعم الدول المهددة أكثر من غيرها بالإنزلاق إلى حروب أهلية في المستقبل: مصر، الأردن، تونس، وتركيا. إن فشل الدولة — وليس هجوماً خارجياً من تنظيم “داعش”، وتنظيم “القاعدة”، أو وكلاء إيران – هو الذي يمثل المصدر الحقيقي للصراعات التي تؤرق الشرق الأوسط اليوم. هذه البلدان الأربعة المُعرَّضة للخطر، كلّها بحاجة ماسة إلى المساعدة الإقتصادية وتطوير البنية التحتية. ولكن قبل كل شيء، فهي بحاجة إلى إصلاح سياسي لتفادي فشل الدولة. وبناء على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها تقديم مجموعة من المزايا التجارية، والحوافز المالية، ومساعدات إقتصادية في مقابل خطوات تدريجية ولكن ملموسة نحو الإصلاح السياسي. هنا، لا يحتاج الهدف إلى أن يكون الديموقراطية في حد ذاتها (على الرغم من أنه ينبغي تشجيع تونس بقوة على مواصلة السير في هذا الطريق)، لكن يجب أن يكون الحكم الرشيد، الذي يتمثل في تحقيق العدالة وسيادة القانون، والشفافية، والتوزيع العادل للسلع الشعبية والخدمات العامة.
الجزء الأخير من هذا اللغز هو الضغط من أجل الإصلاح على نطاق واسع أكثر في جميع أنحاء الشرق الأوسط — إقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً. حتى لو نجحت الولايات المتحدة وحلفاؤها في إنهاء الحروب الأهلية اليوم، ما لم يأخذ نظام دولة جديد مكان تلك الواحدة الفاشلة في فترة ما بعد الحرب، فإن المشاكل القديمة نفسها سوف تتكرر. سيكون من الصعب بيع فكرة الإصلاح لزعماء المنطقة، الذين قاوموها لفترة طويلة من منطلق الخوف بأن ذلك من شأنه أن يجرّدهم من سلطتهم ومناصبهم. ومن المفارقات، مع ذلك، أن الحروب الأهلية قد تمدّ الحل لهذه المعضلة. جميع دول المنطقة مرعوبة من إمتداد هذه الصراعات، وهي في أمس الحاجة إلى مساعدة الولايات المتحدة للقضاء على هذا التهديد. على وجه الخصوص، إن العديد من حلفاء أميركا العرب قد نما لديه الإحباط بسبب المكاسب التي حققتها إيران من طريق إستغلالها لفراغ السلطة. كما أن أميركا وحلفاءها يجب أن تقدم للدول الهشّة في المنطقة المساعدات الإقتصادية مقابل الإصلاح، وعليها أيضاً ربط جهودها لإنهاء الحروب الأهلية بمدى إستعداد الدول الأقوى في المنطقة تبني إصلاحات مماثلة.

التراجع والإنسحاب

إذا كان الرئيس الأميركي المقبل ليس على إستعداد لزيادة التدخل لتحقيق الإستقرار في الشرق الأوسط، فإن البديل الحقيقي الوحيد هو التراجع والإنسحاب من المنطقة. ولأن الحروب الأهلية لا تتوقف من تلقاء نفسها بل بإستراتيجية صحيحة مع موارد مناسبة، فإن محاولة إتباع واحدة خاطئة تعني هدر موارد الولايات المتحدة في قضية خاسرة. وربما تعني أيضاً جعل الوضع أسوأ، وليس أفضل. في إطار سياسة فك إرتباط حقيقي، فإن واشنطن سوف تمتنع عن التدخل تماماً في الحروب الأهلية. بدلاً من ذلك سوف تحاول إحتواء إنتشارها وتمددها، مع ما يحمل ذلك من صعوبات، وإذا فشلت تلك السياسة، فسوف يكون على أميركا الدفاع فقط عن مصالحها الأساسية في الشرق الأوسط.
فقد قامت إدارة أوباما بعمل مشرف في دعم الاردن ضد تمدد الفوضى من العراق وسوريا حتى الآن، والتراجع من المنطقة قد يزيل الترتيبات والدعم الأميركي إلى المملكة الهاشمية وغيرها من الدول المجاورة المُعرّضة لخطر الحروب الأهلية، مثل مصر، لبنان، تونس، وتركيا. كل هذه الدول تريد وتحتاج إلى المساعدة الإقتصادية والديبلوماسية والتقنية والعسكرية الغربية. ولكن لأن تمدد الحروب الأهلية أثبت تاريخياً بأنه صعب للغاية على الإحتواء، فإن هناك إحتمالاً كبيراً بأن واحداً أو أكثر من هذه البلدان يمكن أن ينزلق الى حرب أهلية، وتوليد المزيد من التمدد والإنتشار.
لهذا السبب، فإن التراجع يتطلب أيضاً من واشنطن إجراء تقييم قاس حول ما هو أقل ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لتأمين مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنه قد يكون من المبالغة قول ذلك، في جزء كبير منها، إن مصالح أميركا في المنطقة تتمثل في نهاية المطاف: بإسرائيل، والإرهاب، والنفط.
وكما وجد إستطلاع بعد إستطلاع، فإن غالبية الأميركيين لا تزال ترى أن سلامة إسرائيل مهمة بالنسبة إليهم وإلى الولايات المتحدة. لكن إسرائيل اليوم هي آمنة أكثر من أي وقت مضى. يمكن للقوات الإسرائيلية هزيمة أي عدو تقليدي وردع أي تهديد غير تقليدي يمكن ردعه. وقد دافعت أميركا عن إسرائيل ديبلوماسياً وعسكرياً مرات عديدة وكثيرة، بما في ذلك تهديد ضمني بحرب نووية للإتحاد السوفياتي خلال حرب تشرين الأول (أكتوبر) (حرب الغفران) في العام 1973. وقد أزالت الولايات المتحدة حتى التهديد النووي الإيراني من جدول الأعمال على الأقل خلال العقد المقبل، وذلك بفضل الإتفاق الذي توسطت فيه في العام الماضي. إن التهديد الوحيد الذي لا يمكن للولايات المتحدة إنقاذ إسرائيل منه يتمثل بحربها المزمنة المدنية مع الفلسطينيين، ولكن أفضل حل لهذا الصراع هو التسوية السلمية التي لم يُظهر الإسرائيليون أو الفلسطينيون إهتماماً كبيراً بها. بإختصار، هناك القليل الذي تحتاج إليه إسرائيل من أميركا لأمنها المباشر الخاص، وماذا تحتاج إليه (مثل مبيعات الأسلحة) يمكن للولايات المتحدة أن تقدمه بسهولة حتى لو تراجعت من منطقة الشرق الأوسط.
ولعلّ أكبر ميزة لخفض وجود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هي أنه ينبغي أن تؤدي إلى التخفيف من خطر الإرهاب. إن إرهابيي المنطقة يهاجمون الأميركيين إلى حد كبير لأنهم يشعرون بالظلم بسبب سياسات واشنطن، كما إنهم يهاجمون فرنسا والمملكة المتحدة لأنهما من حلفاء أميركا الأقوياء (وقوى إستعمارية سابقة)، وبدأوا يهاجمون روسيا حالياً لأنها تدخلت في سوريا. وبقدر ما تخفّض الولايات المتحدة تدخلها في الشرق الأوسط، بقدر ما ينخفض تعرض مواطنيها للهجوم من قبل إرهابيي المنطقة. وليس من قبيل المصادفة أن سويسرا لا تعاني من إرهاب الشرق الأوسط.
بالطبع، حتى اذا إنسحبت أميركا من المنطقة قدر الإمكان، فإن الأميركيين لن يكونوا في مأمن تماماً من الإرهاب في الشرق الأوسط. إن دعاة المؤامرة في المنطقة يضعون اللوم على الولايات المتحدة لأشياء لم تفعلها، وكذلك على أشياء فعلتها، وهكذا يمكن للإرهابيين أن يجدوا الأسباب لإستهداف الأميركيين. الى جانب ذلك، حتى في ظل هذا النهج من الحد الأدنى، فإن الولايات المتحدة سوف تستمر في دعمها لإسرائيل والمملكة العربية السعودية، وكلاهما مكروه من الجماعات الإرهابية.
إذا إستطاعت مصالح أميركا المتعلقة بإسرائيل والإرهاب أن ترعى نفسها إلى حد كبير في حال قلصت واشنطن المزيد من دورها في منطقة الشرق الأوسط، فإننا لا نستطيع القول الشيء نفسه عن تدفق النفط. إن الفكرة القائلة بأن التكسير الهيدروليكي قد منح الإستقلال في مجال الطاقة لأميركا هي خرافة؛ ذلك أنه طالما يعتمد الإقتصاد العالمي على الوقود الأحفوري، فإن الولايات المتحدة سوف تكون عرضة لإضطرابات كبيرة في إمدادات النفط، بغض النظر عن مقدار ما تنتج. ولأن الإعتماد العالمي على النفط ومساهمة الشرق الأوسط في حصة في الإنتاج العالمي ليس من المتوقع لهما أن يتراجعان على مدى السنوات ال 25 المقبلة، فإن الولايات المتحدة ستكون لديها مصلحة حيوية في إستمرار الحفاظ على تدفق نفط الشرق الأوسط.
مع ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى الدفاع عن كل برميل أخير من النفط في المنطقة. والسؤال هو، ما هو الحدّ الكافي؟ هذا هو المكان الذي تتعقد فيه الأمور. إن العديد من البلدان تمتلك مخزوناً إستراتيجياً من النفط الذي يمكن أن يخفف حدة إنخفاض غير متوقع يحدث فجأة في الإنتاج. وبعضها، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، لديه طاقة فائضة كافية للضخ وتصدير المزيد من النفط إذا لزم الأمر. والتكسير الهيدروليكي، بالمثل، يسمح لمنتجي الصخر الزيتي في أميركا الشمالية التعويض جزئياً عن النقص. وعلى الرغم من أن إنتاج النفط في ليبيا قد إنخفض بنسبة أكثر من 80 في المئة منذ العام 2011 نتيجة للحرب الأهلية، فإن المنتجين الآخرين كانوا قادرين على تعويض النقص والخسارة.
المملكة العربية السعودية، مع ذلك، هي في فئة خاصة بها. تنتج البلاد أكثر من عشرة في المئة من جميع النفط المستعمل في العالم وتحتوي على الغالبية العظمى من الطاقة الفائضة؛ حتى إذا أفرغ كل بلد إحتياطاته النفطية الإستراتيجية وكسّر هيدروليكياً كالمجانين، فإنها كلها ما زالت لا تعوض عن فقدان إنتاج النفط السعودي. وهكذا، فإن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في حماية حلفائها السعوديين. ولكن ضد ماذا؟ لا توجد دولة في الشرق الأوسط (حتى إيران) لديها القدرة على قهر السعودية، والقوات الأميركية الجوية والبحرية المتواضعة حالياً في منطقة الخليج العربي هي أكثر من كافية لهزيمة هجوم إيراني على البنية التحتية للنفط في البلاد.
إن التهديدات الرئيسية للمملكة هي داخلية. على الرغم من أن أحداً لم يربح أبداً المال من مراهنته ضد آل سعود، فإن النظام الملكي يحكم بإختلال جوهري لدولة عربية ما بعد الحرب، واحدة تواجه ضغوطاً سياسية وإقتصادية وإجتماعية صعبة. الشيعة الذين يشكلون غالبية المنطقة الشرقية الغنية بالنفط في السعودية قد قاموا بأعمال شغب وقاوموا القمع الحكومي منذ عقود، وقد نما إستياؤهم مع إتساع الشرخ السني الشيعي في المنطقة. إجتازت المملكة “الربيع العربي” في المقام الأول بفضل برنامج إصلاح بعيد المدى (وإن كان تدريجياً) للملك عبد الله، إلى جانب المكافآت النقدية الهائلة للشعب. لكن عبد الله توفي في كانون الثاني (يناير) 2015، وخليفته الملك سلمان، لم يثبت بعد وجود إلتزام مماثل للإصلاح. حتى فيما لا تزال أسعار النفط منخفضة، فإن سلمان ينفق بطريقة مبذرة في الداخل والخارج (بما في ذلك التدخل المكلف في اليمن)، حارقاً من خلال صندوق الثروة السيادي للمملكة بين 12 و 14 مليار دولار في الشهر. وبناء على هذا المعدل، فان الصندوق سيكون فارغاً بعد حوالي أربع سنوات، إلّا أن الملك ربما قد يواجه تحديات داخلية قبل ذلك بفترة طويلة.
كيف يمكن للولايات المتحدة حماية المملكة العربية السعودية من نفسها؟ من المستحيل التخيّل أن أي رئيس أميركي سوف يقدم على نشر قوات هناك لقمع ثورة شعبية أو للحفاظ على تماسك النظام الملكي إذا فشل. وعلاوة على ذلك، بقدر ما تدوم نيران الحروب الأهلية في الإشتعال على الحدود السعودية الشمالية، في العراق، والحدود الجنوبية، في اليمن، فإنه على الأرجح بأن هذه الصراعات ستؤدي إلى زعزعة الإستقرار في المملكة — ناهيك عن إمكانية نشوب حرب أهلية أردنية. ولكن إستراتيجية التراجع عن المنطقة تعني أن الولايات المتحدة لن تحاول إنهاء الحروب الأهلية القريبة، وليس لدى واشنطن النفوذ المطلوب الذي يمكن إستخدامه لإقناع السعوديين بالإصلاح. كان يمكن أن يكون هناك نفوذ ضئيل خصوصاً اذا أقدمت على فعل الشيء الوحيد الذي يريده السعوديون حقاً: زيادة المشاركة الأميركية لإنهاء الحروب الأهلية ومنع إيران من إستغلالها. في هذه الظروف، فإن ليس لدى الولايات المتحدة عملياً أي قدرة على حماية المملكة العربية السعودية من نفسها إذا أصرّ حكامها على إتباع طريق مدمر. ولكن في سياق فك إرتباط أميركي أكبر، فإن هذا المسار هو المرجح أكثر الذي سيسلكه السعوديون.

لا يوجد مخرج

في نهاية المطاف، فإن التحدي الأكبر للولايات المتحدة اذا تراجعت من الشرق الأوسط هو هذا: معرفة كيفية الدفاع عن المصالح الأميركية عندما تهددها مشاكل حيث تكون أميركا مجهزة سيئاً لحلها. ولأن إحتواء تمدد الحروب الأهلية هو صعب جداً، فإن التراجع يعني المخاطرة بإنهيار في المدى القريب لمصر، الأردن، لبنان، تونس، وتركيا. ورغم أن أياً من هذه الدول تنتج الكثير من النفط، فإن عدم الإستقرار يمكن أن ينتشر إلى الدول المنتجة للنفط أيضاً في المدى الطويل. العالم قد يكون قادراً على البقاء على قيد الحياة بفقدان إنتاج النفط الإيراني، والعراقي، والكويتي، أو الجزائري، ولكن عند نقطة معينة، فإن عدم الإستقرار يؤثر في المملكة العربية السعودية. وحتى لو لم يفعل، فإنه ليس من الواضح ما إذا كان العالم يمكنه أن يخسر العديد من الدول المنتجة أقل للنفط أيضاً.
إن الفائدة الكبيرة لسياسة التراجع هي أنه من شأنها أن تقلل بشكل كبير من العبء الذي سيتعين على الولايات المتحدة أن تضعه لتحقيق الإستقرار في الشرق الأوسط. الخطر الكبير، مع ذلك، هو أنه سينطوي على مخاطر هائلة. عندما تبدأ واشنطن شطب بلدان — إختصار قائمة تلك التي ستدافع عنها ضد التهديدات — فإنه من غير الواضح إذا كانت قادرة على التوقف، وأن التراجع يمكن أن يتحول إلى هزيمة. إذا إنزلق الاردن أو الكويت الى حرب أهلية، هل ستنشر الولايات المتحدة 100,000 جندي لإحتلال وتحقيق الإستقرار في كلا البلدين لحماية المملكة العربية السعودية (وفي حالة الحرب الأهلية في الأردن، لحماية إسرائيل)؟ هل يمكن للولايات المتحدة أن تفعل ذلك في الوقت المناسب لمنع تمدد الحرب لزعزعة إستقرار المملكة؟ إذا لم يكن كذلك، فهل هناك طرق أخرى للحفاظ على المملكة نفسها من السقوط؟ بالنظر إلى كل هذه الشكوك وعدم اليقين، بالطبع فإن المسار الأكثر تعقلاً هو عدم نظر الأميركيين إلى التكاليف والمسارعة الى تحقيق الإستقرار في المنطقة.
مع ذلك، ما لا ينبغي على أميركا بالتأكيد القيام به هو رفض أن تختار بين زيادة التدخل والتراجع وبدلاً من ذلك تراوغ وتتخبط في مكان ما في الوسط، وتخصص الموارد الكافية لتكبير عبئها من دون زيادة إحتمال أن تؤدي تحركاتها إلى أي شيء أفضل. الحروب الأهلية لا تنهيها تدابير نصفية. ينبغي على قوة خارجية أن تفعل الشيء الصحيح، ودفع التكاليف المصاحبة، وإلّا سيؤدي تدخلها إلى تفاقم الوضع لجميع المعنيين، بما في ذلك نفسها. المأساة هي أنه نظراً إلى ميل النظام السياسي الأميركي إلى تجنب الخطوات الحاسمة، فإن الإدارة المقبلة سوف تختار حتماً سياسة التخبط. ونظراً إلى حجم الفوضى في الشرق الأوسط اليوم، فإن رفض الإختيار من المرجح أن يكون أسوأ خيار للجميع.

• كينيث بولاك خبير أميركي في الشؤون السياسية والعسكرية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث يركز بشكل خاص على العراق وإيران والمملكة العربية السعودية ودول أخرى في منطقة الخليج العربي. وهو حالياً زميل بارز في مركز سياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز الأميركي.
• كُتب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى