المملكة العربية السعودية تحت سيف إقتصادي مُسلَّط

للمرة الأولى منذ نحو 15 عاماً، تواجه المملكة العربية السعودية خفضاً حقيقياً في الإنفاق هذا العام حيث بلغ في بعض القطاعات 60 في المئة وتجد بالتالي سوق مشاريعها نفسها أمام تحديات وتعثرات وتداعيات.

الأمير محمد بن سلمان: الكلمة له لتنفيذ المشاريع
الأمير محمد بن سلمان: الكلمة له لتنفيذ المشاريع

الرياض – راغب الشيباني

عدد كبير من الإعلانات التي صدرت في الفترة الأخيرة تكشف عن مدى المأزق الذي تواجهه سوق المشاريع السعودية. في كانون الثاني (يناير) الفائت، كشفت الهيئة العامة للطيران المدني بأن العمل قد توقف في مطار الملك عبد الله بن عبد العزيز في جيزان، جرّاء الكبح الصارم على الإنفاق الذي أطلقته وزارة المالية في تشرين الاول (أكتوبر) الماضي. وفي الوقت عينه، فقد واجهت مشاريع البنى التحتية الرئيسية مثل مخططات السكك الحديدية المحورية والمترو تأخيراً.
مع تلقّي أكبر مؤسسة للبناء في المملكة، مجموعة بن لادن السعودية، الأخبار السيئة في كانون الثاني (يناير) بشأن مشاركتها وتورطها في توسعة المسجد النبوي في المدينة المنورة، فقد كان من الواضح أن بداية هذا العام ليست ميمونة أو مبشّرة. إن رعاة المشاريع والمقاولين في هذه الأيام مشغولون في محاولة إستيعاب أثر تخفيضات الإنفاق الرأسمالي التي تم كشف النقاب عنها في الموازنة الوطنية للعام 2016 في أواخر كانون الاول (ديسمبر) الفائت.
لقد خفّضت الحكومة السعودية 60 في المئة من الإنفاق في قطاع النقل والبنية التحتية هذا العام إلى 6.4 مليارات دولار مقارنة مع 16.8 مليار دولار في العام 2015. وفي كانون الثاني (يناير) الفائت، خفّضت وزارة المالية المبالغ المدفوعة مُقدَّماً للمقاولين إلى خمسة في المئة، مع شرط بأن هذه المدفوعات يجب ألّا تتجاوز 50 مليون ريال سعودي (13.3 مليون دولار).
مع تخفيضات الإنفاق على هذا النطاق، فسوف يكون هناك حتماً إلغاء وتقليص في حجم المشاريع، وخصوصاً تلك المخططات التي لا تحمل صفة حرجة وملحة مثل مطار جيزان.
وحتى مع ذلك، هناك حاجة إلى منظور لرؤية الوضع كما هو. قد يبدو أثر التخفيضات ضاراً، ولكن عموماً فإن الإنفاق الإستثماري المحدّد في الموازنة السعودية لهذا العام، كما تشير شركة جدوى للإستثمار في الرياض، لا يزال بنسبة 21 في المئة أعلى مما كان عليه منذ خمس سنوات.
علاوة على ذلك، يتم إجراء تغييرات هيكلية جنباً إلى جنب مع خفض الإنفاق الذي يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى نهج أفضل وأمثل للنفقات الرأسمالية. الواقع أن إنشاء الوكالة الوطنية لإدارة المشاريع، المُكلَّفة بالتنسيق مع القطاع العام بالنسبة إلى المشاريع والإشراف على الإنفاق الرأسمالي، يبدو أنه يمثّل تحركاً واضحاً لتنفيذ مشاريع القطاع العام بشكل أكثر كفاءة. بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء وحدة للمالية العامة في وزارة المالية لفرض سقوف الموازنة في المدى المتوسط هو أيضاً شيء مهم وكبير. وسيضمن هذان الكيانان في المستقبل من أن الإنفاق سيبقى تحت المراقبة وأن جميع أجزاء السلسلة تتواصل وتعمل معاً.
وقد أشير إلى الكثير من هذا في نيسان (ابريل) من العام الماضي حين وافق مجلس الوزراء السعودي على أن أيّ مشروع يكلّف أكثر من 100 مليون ريال سعودي يشترط موافقة الملك.
سوف يشعر المقاولون بقوة شحّ الإنفاق هذا العام. ونظراً إلى أن الحكومة تدفع عادة حوالي 20 في المئة من قيمة العقود مُقدَّماً للشركات العاملة في المشاريع العامة، وتخفيض هذه النسبة إلى خمسة في المئة، فإن ذلك سيُجبر الكثيرين على التفكير بعناية أكثر حول المشاريع التي هم على إستعدادٍ للقيام بها.
وهناك تدابير أخرى توحي بأن العام الجاري سيكون صعباً بالنسبة إلى سوق المشاريع السعودية. وفقاً لشركة “جدوى”، فإن مشاريع تنمية قليلة من المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ في العام 2016، في حين أن الطلب الضعيف المستمر على الإستيراد والتصدير سوف يعني أن النمو في نقل المعدات والمواد في جميع أنحاء المملكة سيكون بطيئاً، على الرغم من أنه كاف لمواصلة تأجيج النشاط.
وترى “جدوى” أن الإنفاق الإستثماري في الموازنة قد خُفّض إلى 204 مليارات ريال سعودي في العام 2016، مع المحافظة على حجم الإنفاق عينه بالنسبة إلى مشاريع البنية التحتية الرئيسية الإجتماعية.
كيف إذاً، في هذه الأوقات الضاغطة، سوف تُقسَّم السلطات السعودية الكعكة؟ رسمياً، وفقاً لبيان الموازنة، إن المشاريع التي تستثمر في التنمية والبرامج التي تخدم المواطنين مباشرة، مثل التعليم والصحة والأمن والخدمات الإجتماعية والبلدية، والمياه والصرف الصحي والكهرباء والطرق والتعاملات الإلكترونية والبحث العلمي، ستُعطى الأولوية. وكما تشير “جدوى”، من المرجح أن تكون الكهرباء والغاز والماء بمنأى عن التخفيضات الكبيرة في الإنفاق، وسوف تستمر في تسجيل نمو قوي خلال العام الجاري.
ووفقاً لفريق البحوث في “مجموعة سامبا المالية”، فإن الإنفاق الرأسمالي هو من الواضح أسهل للتخفيض من الناحية السياسية، وهذه سوف تتحمل حتماً وطأة التعديل. وتشير تقديراتها إلى أن الإستثمار العام قد إنخفض في العام الماضي بحوالي الربع، وتعتقد أن الخفض هذا العام من المحتمل أن يرتفع ثمانية في المئة. حتى الآن، من غير المرجح أن توضع المشاريع الإستثمارية الجارية على الرف، تقول “سامبا”، ولكن الوفورات في المساهمات سوف تُدرَس ويُنظَر إليها ومن الممكن تمديد جداولها الزمنية. وكما كان الحال في العام الفائت، لن يُسمح للوزارات بنقل وإعادة تخصيص الإنفاق من مشروع إلى آخر: إذا لم يتم تنفيذ مشروع معيّن، أو تبيّن أنه يكلف أرخص مما كان متوقعاً، فإن أي وفورات لا يمكن أن تُنفَق على أي مشروع آخر. بشكل عام، إن المشاريع التي لا تقدم حالة إقتصادية جيدة من غير المرجح أن تتم الموافقة عليها من قبل مجلس الشؤون الإقتصادية والتنمية، الذي يرئسه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
تشمل عناصر مشروع البطاقة العامة الكبيرة إنفاق 44 مليار ريال سعودي على توسعة المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة المنورة، على الرغم من أن ذلك لا يأخذ برامج إضافية في مجال الإسكان والنقل والبنية التحتية التي من شأنها أن تسحب أموالاً من فوائض الموازنة السابقة. بحلول نهاية السنة المالية الحالية، تقدّر “جدوى”، سوف تكون هذه المشاريع تلقت 22 مليار ريال، مسحوبة من حسابات مخصصة في مؤسسة النقد العربي السعودي.
لا يزال هناك مصدر تمويل كبير متاح في شكل صناديق التنمية الحكومية. وتشمل هذه: الصندوق السعودي للتنمية الزراعية، وصندوق التنمية الصناعية السعودي، وبنك التسليف والإدخار السعودي، وصندوق التنمية العقارية، والتي من المتوقع أن توفر مجتمعة أكثر من 13.3 مليار دولار في تمويل المشاريع.
وقد تم وضع بعض المرونة في النظام، مع توفير دعم في الموازنة يبلغ 183 مليار ريال والذي أُنشىء لإعادة توجيه النفقات الرأسمالية والتشغيلية على حد سواء للمشاريع الجارية والجديدة وفقاً للأولويات التنموية الوطنية.
من ناحية أخرى، ما زال هناك مكان إضافي في صندوق السعودية مع زيادة إصدار السندات السيادية، التي بلغت ما يعادل حوالي 20 مليار ريال فى الشهر منذ منتصف العام 2015، والتي ينبغي أن تجعل من الأسهل تمويل مشاريع البنية التحتية الإستراتيجية. ومن المرجح أن الإنفاق في المستقبل سيكون مرتبطاً بشكل أوثق بإصدار دخل ثابت، والتخفيف من الضغط على رصيد المملكة الذي لا يزال كبيراً من إحتياطات النقد الأجنبي (تقدر بأكثر من 600 مليار دولار).
حتى في ذلك الحين، هناك حدة متميزة بين شركات المقاولات السعودية التي، على الرغم من إدراكها من القيود التي يسببها إنخفاض أسعار النفط على الإنفاق العام، تشعر بالقلق من أن ينتهي بها الأمر مثقلة بتراكمات المشاريع الضخمة ومصاعب مالية كبيرة من المخططات التي كانت ضخمة في البداية قبل ضرب الركود المالي. أحد كبار المقاولين السعوديين، عبد الرحمن الزامل، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس مجلس الغرف السعودية، أرسل رسالة إلى الملك سلمان، محذّراً من الصعوبات المالية التي تواجهها الشركات بسبب التأخر في السداد على المشاريع الحكومية.
وحذّر من أن الشركات ستكون في خطر التخلف عن السداد أو التوقف تماماً عن العمل. واحدة من أكثر الشركات تضرراً حتى الآن كانت تلك التي يملكها المقاول السعودي عبد الله الخضري، والتي سجّلت خسارة صافية في الربع الرابع من العام 2015، مشيرة الى إنخفاض في الإيرادات وزيادة الرسوم المالية بسبب سوء الأداء. حتى هؤلاء المتعاقدون المُعرَّضون بشكل كبير لمشاريع مكة والمدينة المنورة يعانون. في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، إضطرت مجموعة بن لادن السعودية إلى تسريح أكثر من 15,000 عامل. بدورها سجّلت شركة جبل عمر للتطوير، المسؤولة عن تطوير مشاريع في مكة، خسائر بلغت 78 مليون ريال في الربع الأخير من العام 2015. وقد إضطرت إلى الطلب من الحكومة لوضع بنود مالية أكثر سخاء، حيث وقعت في منتصف شباط (فبراير) الفائت إتفاقاً مع وزارة المالية مدّدت بموجبه آجال السداد لقرض لمدة 8 سنوات من الحكومة لثلاث سنوات إضافية.
ومن المتوقع أن يبحث مقاولون كثر في عقد مثل هذه الصفقات مع الحكومة في العام الجاري، لتوفير مهلة للدفع جرّاء قطع التمويل الصارم الذي وضعته الحكومة. ومن المرجح أن يكون تمويل المشاريع الكبرى على الأرض رقيقاً هذا العام. لكن هناك صفقة كبيرة واحدة فقط في طور الإعداد، وهي تتمثل في تمويل مشروع الفاضلي المستقل للطاقة لفائدة الشركة السعودية للكهرباء المملوكة للدولة (وأرامكو).
على الرغم من قلق المقاولين والمتعهدين والشركات الواضح، فهذا ليس سبباً للذعر الفوري. بعد كل شيء، كما أشارت مؤسسة الأبحاث “ديلوجيك”، كانت المملكة العربية السعودية حتى الآن السوق الخليجية الأكثر نشاطاً من حيث تمويل المشاريع في العام الماضي، حيث بلغ مجموع تدفق الصفقات ما يقرب من 14.7 مليار دولار.
في نهاية المطاف، سوف توفّر قيود الإنفاق الحكومي قدراً أكبر من النفوذ للمخططات المموَّلة والمُدارة من القطاع الخاص. إن هيئة الطيران المدني هي مؤسسة رائدة في نشر نماذج تمويل القطاع الخاص، وتسعى إلى خصخصة جميع المطارات في السنوات الأربع المقبلة. يجب أن تظهر الشراكات بين القطاعين العام والخاص كآلية مُجرَّبة ومُختبَرة أكثر بالنسبة إلى خطط تمويل البنية التحتية، على الرغم من الحاجة إلى مزيد من الأساس القانوني.
بعض الكيانات الكبيرة المدعومة من الدولة لا يزال يتمتع بالشجاعة للإنفاق على المشاريع. أرامكو السعودية لم تُظهر أي علامة على التراجع عن مشروع خط الأنابيب، وهذا العام كان يجب أن يرى مكافآت بقيمة تصل إلى مليار دولار على مشاريع مثل توسعة شبكة الغاز الرئيسية في نهاية كانون الثاني (يناير).
على الرغم من ذلك، قد يكون عملاء كبار آخرون أكثر ميلاً إلى تأجيل المشاريع، أو على الأقل إعادة جدولة توقيتها. هيئة تطوير مدينة الرياض، المولجة بالإشراف على تنفيذ مترو الرياض، الذي يكلف مليارات عدة من الدولارات، قد بحثت في السبل لتمديد مدة سنتين للتأكد من أن أهداف التمويل قد تم الإحتفاظ بها.
لا أحد يشك في أن 2016 سيكون عاماً مليئاً بالتحديات. ولكن مرّت المملكة بما هو أسوأ، ويجب أن يكون ما زال هناك ضوء في نهاية النفق بالنسبة لأولئك الداعمين للمشاريع والمقاولين القادرين على إجتياز فترة إنخفاض أسعار النفط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى