السعودية: تَحوُّلٌ في إستراتيجية الطاقة له تداعيات على القطاع الصناعي

القرار السعودي في أواخر العام 2015 برفع أسعار الغاز والمدخلات الأخرى المحلية لها تداعيات في جميع أنحاء الاقتصاد، ولكنها ستكون لها فوائد في المدى الطويل كما يفيد التقرير التالي:

الملك سلمان بن عبد العزيز: إصلاح قطاع الطاقة له فوائد في المدى البعيد
الملك سلمان بن عبد العزيز: إصلاح قطاع الطاقة له فوائد في المدى البعيد

الرياض – سمير الحسيني

الوتيرة المسعورة لإعلانات سياسة الطاقة التي عرفتها المملكة العربية السعودية في الأسابيع الاخيرة كانت مهمة وحتى زلزالية، لكن مع ذلك لم يُعطها الإعلام ما تستحق من تغطية. في أوائل كانون الثاني (يناير)، مع تلهف أسواق النفط وإنتظارها لتقارير عن خطط لتعويم بعض الأسهم في شركة أرامكو السعودية، لم يكن هناك إلّا إهتمام قليل نسبياً في خطوة مهمة موازية أُطلقت في أواخر كانون الاول (ديسمبر) الفائت. لقد أعلنت حكومة الرياض في 28 كانون الأول (ديسمبر) 2015 سلسلة من الإصلاحات ذات صلة بإعانة ودعم الوقود، بما في ذلك رفع أسعار البنزين والديزل والكهرباء و- ربما الأكثر أهمية – زيادة أسعار المبيعات المحلية للغاز الطبيعي.
وقد رُفع هذا الأخير من 0.75 دولار إلى 1.25 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، كما زاد سعر “الإيثان”، المادة الخام الرئيسية التي تلقم البتروكيماويات، إلى 1.75 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بزيادة أكثر من 100 في المئة على السعر الثابت منذ عقود الذي يبلغ 0.75 دولار.
مع ذلك، فإن هذه التغييرات التي دخلت حيّز التنفيذ في بداية العام 2016، من المتوقع أن تجني المملكة من ورائها فوائد جوهرية. لقد شكّل دعم البترول نحو 80 في المئة من فاتورة الدعم السنوي في السعودية في العام الماضي، وفقاً لصندوق النقد الدولي، مكلفاً 3.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السعودي. وترى شركة جدوى للإستثمار المحلي أن دعم الطاقة الإجمالي قد كلّف 61 مليار دولار في العام الفائت، مع بلوغ كلفة الديزل 23 مليار دولار من هذا المبلغ.
الواقع أن خفض الدعم هو جزء من تحرك أوسع يهدف إلى تضييق عجز الموازنة في المملكة، والذي وصل إلى حوالي 367 مليار ريال (97.8 مليار دولار) في العام الفائت، أي ما يعادل تقريبا 16٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وتسعى موازنة هذا العام إلى تضييق الفارق الى 326 مليار ريال (86.9 مليار دولار)، على الرغم من أن أي إنخفاضات أخرى في أسعار النفط يمكن أن تجعل هذا الأمر صعب المنال.
وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي الذي صدر الشهر الماضي، فإن الإقتصاد السعودي سينمو بنسبة 1.2٪ في العام 2016، وهو أبطأ معدل للنمو منذ العام 2002 وأقل من نصف نسبة ال3.4٪ التي سُجّلت في العام 2015.
لقد قاد إرتفاع تكاليف المدخلات، جنباً إلى جنب مع الأسواق العالمية الأكثر تقلباً، الشركات الصناعية في المملكة إلى خفض مصروفات التشغيل. وبعدما سجّلت إنخفاضاً بنسبة 29٪ في العام على أساس سنوي في أرباح الربع الاخير من العام الماضي، فقد أعلنت شركة البتروكيماويات العملاقة “سابك” تدابير وخطط لتحسين الكفاءة في مصانعها لخفض التكاليف.
على أقل تقدير، ينبغي على التغييرات الأخيرة أن توفّر على خزانة الدولة مبلغاً كبيراً سنوياً. خذ أسعار الفناء. تحت غطاء إنخفاض أسعار النفط، الذي عزل مستخدمي السيارات عن التأثير الكامل لإرتفاع الأسعار، فقد وضعت الحكومة تغييرات شهدت زيادة بنسبة 50 في المئة في أسعار البنزين 95 أوكتان ذي الجودة العالية، وبزيادة 66 في المئة على البنزين 91 أوكتان الأقل جودة، وزيادة بنسبة 74 في المئة على أسعار وقود الديزل. وقد إستهدفت رسوم الكهرباء بشكل أكثر حدة الأغنياء السعوديين الذين يشكلون أكبر المستهلكين للطاقة، وينبغي على الغالبية العظمى من السعوديين عدم مواجهة أي زيادات في فواتيرها.
وقد وضع المسؤولون الحكوميون هذه الإصلاحات ضمن خطة خمسية لإنشاء إقتصاد منتج أكثر كفاءة. على هذا النحو، فإن الآثار ليست فورية بالضرورة. ووفقاً لوكالة التصنيف الدولية “موديز”، إن الوفورات التي ستحققها دول مجلس التعاون الخليجي من زيادة أسعار الوقود من المرجح أن تكون صغيرة – في المتوسط نصف نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في دول المجلس في العام 2016. وحتى لو إختارت الحكومات ربط أسعار الوقود بأسعار النفط العالمية، فإن المكاسب ستكون أقل بكثير من العجز المالي المتوقع للدول الخليجية العربية والمقدر ب12.4 في المئة.
“إن التحركات الأخيرة لدعم الإصلاح تشير إلى إرادة سياسية لمعالجة الآثار الضارة لإنخفاض أسعار النفط على الموازنات. ومع ذلك، فإنها لا ترقى إلى حجم الإصلاح الإقتصادي والمالي المطلوب لتحقيق التوازن في الموازنة “، يقول ماتياس أنغونين، المحلل في وكالة “موديز”.
ومع ذلك تقول “موديز” أن هذه الإصلاحات في أسعار الوقود وخفض النفقات الجارية تعزز مالية الحكومة التي تراجعت بسبب إنكماش سعر النفط العالمي، في الوقت الذي تحدّ من التشوّهات الإقتصادية الكلية.
“إن إعادة تشكيل أوسع لأسعار الطاقة – الآخذة في الإعتبار إصلاحات الطاقة كجزء من تحوّل أوسع بكثير للإقتصاد السعودي – بدلاً من الحجم الفعلي لزيادات الأسعار، هي الأكثر أهمية”، يقول جوستين دارجن، خبير الطاقة الدولية في أوكسفورد (بريطانيا).
“وقد أشارت هذه الإصلاحات إلى أن عصر الدعم يتم إعادة تشكيله، مما يشكل تحدياً للرأي القائل بأن دول الخليج لن تجري مثل هذه التغييرات خوفاً من الإخلال بالعقد الإجتماعي وإغضاب مواطنيها. من ناحية السعودية، إنه تغيير هائل، ونحن نرى أن غالبية منتجي الطاقة في المنطقة تقوم بإصلاح أنظمة الدعم لديها “، كما يضيف.
من جانبها، تتوقع وكالة الطاقة الدولية تحقيق مكاسب في المدى الطويل من هذه الخطوة، حيث أن خفضاً للدعم يجعل الصناعة السعودية أصغر حجماً وأكثر تنافسية.
“من المرجح أن يكون الأثر في المدى البعيد على المملكة العربية السعودية إيجابياً، مع تحسن أرصدة الحكومة وتخصيص الموارد يصبح أقل تشوهاً”، أفادت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها في كانون الثاني (يناير).
ووفقاً لمسعود أحمد، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يكون للتضييق المالي السعودي “تأثير ملطّف في النمو غير النفطي”، على الرغم من أن هذه التخفيضات يمكنها في نهاية المطاف تعزيز الإقتصاد في المديين المتوسط والطويل.
“هذا التوحيد، جنباً إلى جنب مع غيره من التدابير التي تم الإشارة إليها في مجال الخصخصة وإعادة هيكلة الإقتصاد، ينبغي أيضاً أن تضع الأساس لنمو أقوى”، قال أحمد.
هناك رابحون وخاسرون واضحون من التغييرات في سعر الغاز الطبيعي، على الرغم من أن هذا الأمر ليس بالضرورة جلياً وواضحاً على الفور. في المخطط الكبير للأشياء، إن زيادة دولار واحد في أسعار الغاز ليست كبيرة، وليس من المرجح أن تغير مادياً في الإقتصاد مثل أن ذلك سيشجّع شركات النفط العالمية على العودة وإستكشاف المزيد من الغاز المحاصر في صحراء الربع الخالي غير المضياف، كما فعل البعض للحصول على مكافأة ملحوظة في منتصف القرن العقد الفائت.
الواقع أن رفع سعر البيع المحلي لن يحوّل المملكة السعودية على الفور إلى مسرح إزدهار للصخر الزيتي الأميركي. “في المملكة العربية السعودية، إن تكلفة إنتاج الغاز الصخري سوف تكون أكثر أو أقل كما في الولايات المتحدة”، يقول دارجين. مضيفاً: “لكن الدول تتبنى إستراتيجيات مختلفة. في السعودية يبحث المسؤولون عن مشاريع مشتركة مع الشركات الأميركية التي تقوم بتصنيع تكنولوجيا الصخر الزيتي”.
وعلى الرغم من ذلك، سيكون هناك بعض الخاسرين. فعلياً، سيكون على منتجي المصب الذين يواجهون ضربات مالية ضخمة مواجهة نتيجة إرتفاع أسعار الغاز أيضاً. إن تقديرات أرباح الشركات السعودية قد كشفت في أوائل كانون الثاني (يناير) الفائت أن شركات البتروكيماويات هي أكبر الضحايا. تتوقع “سابك” المملوكة للدولة زيادة خمسة في المئة في الشركة التابعة لها “شركة الأسمدة العربية السعودية”، مما يشير إلى زيادة التكلفة السنوية ثمانية في المئة. كم تتوقع شركة التصنيع الوطنية بأن تحلق التغييرات من الموازنة حوالي 51 مليون دولار من أرباحها، الأمر الذي وصفه الرئيس التنفيذي للشركة مطلق المريشد بأنه “ضربة كبيرة”.
الواقع أن الزيادات في الأسعار التي أُعلنت في أواخر كانون الاول (ديسمبر) الفائت على الطاقة والمياه ومجموعة من المدخلات الأخرى، من المتوقع أن ترفع تكاليف التشغيل بنسبة تصل إلى 8٪ لبعض أكبر الشركات الصناعية في المملكة العربية السعودية. وقد تم الإعلان عن خطوات مماثلة من جانب البحرين وعُمان في منتصف كانون الثاني (يناير) الفائت.
ويجمع أكثر الخبراء على أن الخسائر ينبغي أن تُمحى من خلال السعي إلى تحقيق أكثر لأهداف إقتصادية طويلة الأجل على نطاق واسع. ويقول دارجين أن “المملكة العربية السعودية قد أشارت إلى أنها تقوم بإجراء إصلاحات إقتصادية واسعة النطاق، حيث أن دعم الطاقة هو جزء فقط منها. وهذا سيجعل الإقتصاد الكلي أكثر حيوية وديناميكية، كما أنه يشكل رؤية طويلة الأجل، وليس ربحاً سريعاً”.
في هذه العملية من النمو، يقول دارجين، إن صنّاع السياسة السعودية يحاولون خلق لاعبين من الدرجة الاولى في البتروكيماويات السعودية، الذين إعتادوا على أسعار جذابة جداً للمواد الخام، أكثر قدرة على المنافسة عالمياً. “إن هذا الأمر سيؤذي في البداية لأن الكثير من هؤلاء المستهلكين الصناعيين الكبار سيكون عليهم العمل بطريقة أكثر صعوبة بكثير. ولكن في نهاية المطاف، ينبغي أن يصبحوا لاعبين أكثر قوة من خلال إمتصاص إرتفاع أسعار الوقود حيث سيصبحون أكثر كفاءة”.
وخلافاً لمصر، التي أدخلت زيادات كبيرة على أسعار الطاقة المحلية في برنامج “الإنفجار الكبير”، فقد إتبعت الرياض نهجاً محافظاً؛ نهجٌ تدريجي بطيء أكثر إنسجاماً مع العقلية المحلية. لكن هنا لا ينبغي الخطأ، إن النتيجة النهائية تتمثّل في ضمان صناعة ذات قيمة مضافة اكثر تنافسية والتي سوف يكون من المتوقع منها أن تجعل الشركات السعودية لاعبة تنافسية أبعد من حدود المملكة.
وعلى الرغم من إرتفاع تكاليف المواد الخام وزيادة المنافسة، سواء داخل المنطقة ومن المنتجين الصينيين، فإن شركات البتروكيماويات السعودية ما زالت تتمتع بميزة تنافسية.
وفقاً ل”جي بي مورغان، فإن “البتروكيماويات السعودية ما زالت في الطرف الأدنى من منحنى التكلفة وميزتها التنافسية ما زالت سليمة”.
في الواقع، على الرغم من إصلاحات الدعم، لا تزال تكاليف المدخلات بالنسبة إلى لاعبي الصناعة السعودية أقل من أسعار السوق الدولية. وفقاً للبيانات الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية، فقد إرتفعت أسعار البنزين من 0.45 ريال (0.12 دولار) إلى 0.75 ريال (0.20 دولار) لكل ليتر من وقود 91 أوكتان، ومن 0.60 ريال (0.16 دولار) إلى 0.90 ريال (0.24 دولار) لليتر الواحد من وقود 95 اوكتان إعتباراً من 11 كانون الثاني (يناير).
وتوقعت الوكالة بأن ترتفع أسعار ديزل النقل، والديزل الصناعي، والكيروسين بنسبة 79٪، و55٪ و12٪ على التوالي، وذلك كجزء من خطة ترشيد الدعم في المملكة لمدة خمس سنوات.
في حين أن إصلاحات الدعم قد خفف حدتها إلى حد ما إنخفاض أسعار النفط الخام، فإن المزيد من التخفيضات يمكن أن يجلب أسعار المواد الخام والوقود إلى مستوى أكثر إنسجاماً مع الأسواق الدولية. في غضون ذلك، سوف تكون الصناعة السعودية مضطرة الى التكيف مع التغييرات الأخيرة وشحذ قدرتها التنافسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى