ماذا يعني التجديد لكريستين لاغارد على رأس صندوق النقد الدولي؟

جدّد صندوق النقد الدولي لمديرته العامة كريستين لاغارد ولاية ثانية مدتها خمس سنوات في ظل وضع مالي وإقتصادي عالمي مضطرب. لماذا جددت هذه المؤسسة الدولية لمديرتها؟ وماذا ينتظر العالم منها في فترتها الجديدة؟

كريستين لاغارد: خمس سنوات أخرى مرهقة؟
كريستين لاغارد: خمس سنوات أخرى مرهقة؟

واشنطن – سمير الحلو

في الشهر الفائت، أعلن صندوق النقد الدولي أنه قد جدّد لوزيرة المال الفرنسية السابقة كريستين لاغارد لولاية ثانية مدتها خمس سنوات في منصب المدير العام. وكانت لاغارد تولت منصبها في هذه المنظمة الدولية في تموز (يوليو) 2011، في فترة إضطراب مؤسسي عميق: كان المدير العام السابق دومينيك ستراوس إستقال حديثاً؛ وجهد إنقاذ اليونان، الذي كان الصندوق صمّمه وأيّده بشدة، على حافة الفشل؛ وقرار الصندوق بدفع ثلث كل تمويل خطط الإنقاذ في أوروبا قد واجه إنتقادات قاسية من قبل أعضاء المنظمة الدولية في الأسواق الناشئة بإعتباره صفقة خاصة لصالح الغرب. وفي الوقت عينه، فيما بدأت الأزمة المالية العالمية في الإنحسار، فقد أصبح تنسيق السياسات بين الإقتصادات الصناعية الكبرى أقل إلحاحاً، وجهود الصندوق لتقديم المشورة بشأن السياسات خارج نطاق برامجه المالية نفدت قوة دفعها. بإختصار، فإنه كان من غير الواضح ما إذا كان صندوق النقد الدولي سوف يكون قادراً على التعامل مع التهديدات التي كان يواجهها في حينه الإقتصاد العالمي.
فيما تقترب فترة لاغارد الأولى من نهايتها، فإن تقييماً أكثر إشراقاً يبدو ممكناً. لقد صمد الإنتعاش العالمي، وعلى الرغم من أن معظم الفضل يجب ان يذهب الى الحكومات الوطنية ومحافظي البنوك المركزية، فإن دعم صندوق النقد الدولي المطرد للمحيط الأوروبي لعب دوراً مهماً. وقد أحرز الصندوق تقدماً في منح بلدان الأسواق الناشئة تمثيل مؤسسي أكبر وحسّن في توسيع وتعميق تحاليله للإقتصاد العالمي. إن السنوات الخمس المقبلة، مع ذلك، سوف تجلب تحديات جديدة فيما يكافح الصندوق للتكيّف ومواكبة السوق العالمية المتغيّرة بسرعة ومع قواعد الإقراض السيئة وغير المناسبة للأزمات التي من المرجح أن تواجهها المؤسسة.

ما كان صحيحاً، وما كان خطأ

أي تقييم لأداء الصندوق خلال فترة لاغارد الأولى لا بدّ أن يبدأ مع دور المنظمة الدولية في الأزمة الأوروبية – الدور الذي قد خضع لتحاليل كثيرة، بما فيها من قبل صندوق النقد الدولي ذاته. وجهة نظر الصندوق، والتي هي صحيحة إلى حد كبير، هي أن المنظمة تستحق التقدير للإستجابة السريعة التي ساعدت على وقف الذعر، وتعزيز الثقة، وتوفير الموارد الضرورية لحُزَم التمويل. وبطبيعة الحال، واجه صندوق النقد الدولي أيضاً إنتقادات كبيرة لتصميمه برامج إنقاذ لليونان والبرتغال ودول أخرى في المحيط الأوروبي التي قلّلت من أهمية التأثير السلبي في النشاط الإقتصادي الناجم من التقشف وشبكات حماية الأمان الإجتماعي غير الكافية. لقد تقبّل صندوق النقد الدولي هذه الإنتقادات وإلتزم تعديل تصميم برامجه في الإستجابة؛ وما إذا كانت هذه الإصلاحات في نهاية المطاف ستكون كافية سوف يتضح فقط عندما تعصف رياح الأزمة العالمية الكبرى المقبلة. في نهاية المطاف، مع ذلك، إن إنتقاد صندوق النقد الدولي بالنسبة إلى التقشف المفرط هو في غير محله: لقد حسّن الصندوق وضع موازنته العمومية إلى مستوى يُعتبر حذراً وحكيماً نظراً إلى الحاجة في ذلك الوقت إلى الحفاظ على قوته في حال إنتشار الأزمة، والبرامج الأوروبية التي دعمها لا يمكن أن تكون أكثر سخاء نظراً إلى حجم التمويل المتاح من الحكومات الإقليمية. ثمة إنتقاد أكثر إقناعاً هو أن البرامج الأوروبية للصندوق، وبخاصة برنامجه اليوناني، كانت مفرطة ومرهقة بالتدابير الهيكلية التي من غير المرجح أن تُنفّذ.
إن قرار الصندوق بأخذ ثلث المسؤولية على عاتقه لتمويل برامج الإغاثة الأوروبية، علاوة على ذلك، قد كلّف المنظمة الدولية بعض المصداقية بين بلدان الأسواق الناشئة مثل البرازيل ووضع طلبات غير مستدامة وغير مُحتملة على موازنتها العمومية. في المستقبل، عندما تقع دول ليست لديها سياسات نقدية مستقلة ومع قيود كبيرة على سياستها المالية في أزمة تستحق دعم صندوق النقد الدولي، فإن الصندوق يحتاج إلى تفاهمات أقوى مع شركائه في الإتحاد النقدي على أحكام وشروط الدعم المالي ومشروع إسترداد أكثر حذراً.
قرار صندوق النقد الدولي بتأجيل إعادة هيكلة ديون اليونان — لأول مرة في العام 2010، عندما لم يكن أيٌّ من صانعي السياسة الرئيسية يريد المخاطرة بالعدوى التي يمكن أن تنجم من التقصير المخل بالنظام والخروج من منطقة اليورو، وبعد ذلك، أكثر إقلاقاً، في العام 2011 — كان واضحاً من أن سياسات الصندوق، جنباً إلى جنب مع ميل الدول الدائنة والمدينة إلى تأجيل القرارات الصعبة، قد شجع عمليات إعادة الهيكلة التي كانت غير كافية من حيث التوقيت والنطاق. وفي ما يتعلق بأوكرانيا، أيضاً، ظهرت سياسات صندوق النقد الدولي بأنها بعيدة مما يحدث: إن قرار الصندوق للمضي قدماً ومتابعة منحه قرض محفوف بالمخاطر للغاية إلى كييف في العام 2014 كان مبرراً لأسباب جيوسياسية، ولكن ذلك أجبر الصندوق على تبني إفتراضات غير واقعية بشأن النمو والتمويل لتلبية قواعد الإقراض؛ إن فشل هذا البرنامج وإعادة هيكلة الديون التي أعقبته أثبتا أن قواعد الإقراض في الصندوق لم تتطابق مع مطالب البلدان ذات الإحتياجات التمويلية الكبيرة والتوقعات الإقتصادية غير المؤكدة.

تحدٍّ ناشئ

في السنوات التي تلت الأزمة المالية، واجه صندوق النقد الدولي تحدياً ذا حدين في ما يتعلق بالقوى الناشئة في العالم. من ناحية، كان يتعرّض إلى ضغوط لكي يمنح هذه الدول دوراً أكبر في قيادة المؤسسات المالية الدولية، حيث كانت قوتها غير متكافئة مع نفوذها الإقتصادي؛ ومن جهة أخرى، كان عليه مواصلة الضغط من أجل إصلاح السياسات في العديد من الدول نفسها.
في كلتا الحالتين كان على صندوق النقد الدولي الكفاح. في ما يتعلق بالتمثيل المؤسسي لبلدان الأسواق الناشئة، حتى هذا العام، كانت المنظمة الدولية عاجزة بسبب عدم موافقة الولايات المتحدة على حزمة من الإصلاحات المتفق عليها في العام 2010 والتي تهدف إلى تعزيز موقف القوى الصاعدة. هذه التدابير كانت متواضعة، لكنها مع ذلك كانت تشكل إشارة مهمة إلى أن الصندوق يتكيّف مع متطلبات عالم متعدد الأقطاب. وفي الوقت عينه، أثار إنشاء بنك الإستثمار الأسيوي للبنية التحتية الآسيوية وبنك التنمية الجديد (المعروف سابقاً ب”بنك بريكس”)، والحديث عن تعزيز خطوط المقايضة الإقليمية، والتي تسمح للبنوك المركزية الوصول بسهولة أكثر إلى العملات الأجنبية، تساؤلات حول تماسك وإتساق بنية أزمة عالمية مع صندوق النقد الدولي في وسطها.
مع ذلك، فإن المشكلة الأكبر هي أن صندوق النقد الدولي قد فشل بالكامل في تفهم ومواكبة الإختلالات الكبيرة في الإقتصاد الصيني التي إستمرت لمعظم الفترة منذ العام 2004. للتأكيد، لقد شملت التقارير السنوية للصندوق عن الصين تحذيرات حول مشاكل الإقتصاد الكلي التي بدأت الآن تلف الأسواق العالمية. ولكن يبدو أن الإحترام تجاه السلطات الصينية قد أدى بمسؤولي صندوق النقد الدولي إلى كتم هذه التحذيرات، مما حدّ من فعالية الصندوق لإيصالها كإشارات إلى الأسواق والجمهور العام. ولكن الذي يُحسَب له، فقد حثّ صندوق النقد الدولي السلطات الصينية على مقاربة رفع القيود المالية بحذر وعناية، مشدّداً على أهمية العناية بتسلسل الإصلاحات ووضع قيود صعبة على موازنة الشركات قبل فتح الأسواق. ومع ذلك، فإن البعض ما زال ينظر إلى الصندوق على أنه كان المشجع الرائد لإصلاحات السوق التي أدت إلى الأزمة الحالية في الصين. إن إضطراب السوق اليوم سوف يضرّ حتماً بمصداقية جهوده في المستقبل بالنسبة إلى هذه المسألة.
وبطبيعة الحال، فإن برامج الإقراض لا تشكل سوى جزء من أنشطة صندوق النقد الدولي، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، فقد حققت المنظمة تقدماً كبيراً في مجالات أخرى. أعربت عن دعمها للسياسات التي قد تحد من إرتفاع عدم المساواة في الدخل؛ وقدمت حجة مقنعة، وبخاصة بالنسبة إلى إقتصادات الأسواق الناشئة المصدّرة للطاقة، بأن تقليص وإستهداف دعم الطاقة بطريقة أفضل يمكن أن يفيد إستدامتها المالية والسياسية؛ و، في أبحاثها وبياناتها العامة، شجعت فكرة أن تعزيز القوة الإقتصادية للنساء في البلدان النامية يمكن أن يفيد بشكل عميق الإزدهار العالمي. وبإعتباره المؤشر للأداء الإقتصادي في العالم، فإن سجل صندوق النقد الدولي ليس مثيراً كثيراً للإعجاب: لقد بالغ بإستمرار بالنسبة إلى النمو في المستقبل، وهو تحيز منهجي مقلق الذي يضر بمصداقية مشورة سياسته.

ماذا بعد؟

في بعض النواحي، فإن القضايا التي ستواجه صندوق النقد الدولي في السنوات الخمس المقبلة ستعكس التطور الطبيعي للتحديات التي واجهها أخيراً. بيد أن الصندوق سيواجه أيضاً مشاكل جديدة من شأنها أن تجبر المنظمة الدولية على التدقيق وضبط قواعدها بالنسبة إلى الإقراض.
أول هذه التحديات ينطوي على كوكبة من الصدمات التي تواجه الآن صانعي السياسات: الأزمة الإقتصادية فى الصين، وعدم الإستقرار في الأسواق الناشئة التي هزّها إنخفاض أسعار السلع الأساسية، والتدفقات العالية لرأس المال، وضعف الطلب العالمي. وستكون أميركا اللاتينية مصدر قلق خاصاً. الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا، ثلاثة من أكبر إقتصادات المنطقة، تواجه تهديدات إقتصادية خطيرة في العام الجاري، وأيّة أزمة في أيٍّ من تلك الدول ستكون لها آثار جانبية عميقة. لا شيء يبدو في البلدان الثلاثة حتى الآن أنها قريبة من طلب الدعم المالي من صندوق النقد الدولي، ولكن إذا تغيّر هذا الوضع، فإن الإحتمالات التي سيتم سحبها من الصندوق من أجل تدخّل كبير على جبهات متعددة ستكون أعلى مما كانت عليه منذ سنوات. خلافاً لما حدث في حالة أوروبا، مع ذلك، فإن الدول الصناعية ليست مستعدة لتقديم مساعدة ثنائية على نطاق واسع لمعالجة الصدمات النظامية في أميركا اللاتينية، كما أن للصندوق تاريخاً مثيراً للجدل في المنطقة والذي قد يُثني الحكومات عن السعي بسرعة إلى طلب مساعدته. هذه العوامل تجعل من مخاطر أزمة محتملة هناك بأن تكون خطيرة بشكل خاص.
مع تزايد الخطر من أزمة إقتصادية عالمية جديدة، فإن من الأهمية أكثر من أي وقت مضى أن يعزز الصندوق المراقبة المتعددة الأطراف — التي هي، تحاليله للإتجاهات العالمية والإقليمية وكيف أن قرارات السياسة الوطنية تؤثر في الإقتصاد العالمي. حتى الآن، تراجعت جهوده وبدت غير مكتملة. على الرغم من أن صندوق النقد الدولي ينتج عدداً من التقارير العالمية ذات الجودة العالية، مثل آفاق الإقتصاد العالمي وتقرير الإستقرار المالي العالمي، وأنشأ أيضاً تقارير جديدة حول آثار التمدد والعدوى، فإنه فشل في إقناع البلدان بتعديل سياساتها الخاصة مع هذه المخاطر في الإعتبار. إن الجهد الوحيد الذي حاول بشكل واضح تعزيز تنسيق سياسة متعددة الأطراف -عملية التقييم المتبادل التي قادتها مجموعة العشرين (G20)، والتي لعب فيها صندوق النقد الدولي دوراً إستشارياً مهماً – فشل في القيام بذلك لأنه لم يتمكّن من سد الفجوة بين الدول ذات التجارة الفائضة والأخرى ذات العجز حول مسؤولية الدول التي تتمتع بالفائض لدعم الطلب العالمي.

تقاسم العبء

هناك مشكلة أوسع نطاقاً للعبها هنا: العالم يزداد بسرعة أكبر من صندوق النقد الدولي. النمو السريع للأسواق المالية على مدى العقدين الماضيين، جنباً إلى جنب مع التوسع في الأسواق الناشئة الرئيسية وإدماجها في النظام المالي العالمي، تعني أن المطالب المالية على حزم الإنقاذ المُحتملة قد تضخمت. لقد حاول صندوق النقد الدولي أن يتكيّف مع هذه التطورات ويواكبها في العام 2002، حين أنشأ قواعد وصول إستثنائية تسمح الإقراض أكثر مما تدعو إليه عادة الإجراءات التي تربط مبالغ الإقراض بمساهمات البلد المدين للصندوق. ثم، في العام 2010، ذهب صندوق النقد الدولي أبعد من ذلك، حيث أنشأ ما يسمى الإعفاء النظامي، الذي أتاح له أن يقرض مبالغ كبيرة إلى اليونان وإيرلندا والبرتغال، معتمداً ظاهرياً على النتيجة التي تفيد بأن عدم القيام بذلك من شأنه أن يولّد مخاطر نظامية. (تفسيرٌ أكثر صراحة هو أن الإعفاء النظامي أقرّ بالحاجة إلى التقدير لتعليق القواعد عندما يعتقد كبار المساهمين أن الصندوق بحاجة إلى التحرك بشكل حاسم لحل أزمة إقتصادية). بغض النظر، أصبح من الواضح بشكل متزايد بأن مال صندوق النقد الدولي هو غير كاف لوحده وأنه في المستقبل، فإن التوقيت ونطاق إعادة هيكلة الديون سيكونان على نحو متزايد وظيفة الأموال المتاحة بدلاً مما إذا كانت ديون بلد فوق عتبة تعسفية.
في الشهر الفائت، ألغى صندوق النقد الدولي الإعفاء النظامي وأعلن عن قواعد جديدة لتوجيه الإقراض. لمرة واحدة، إحتضن “إعادة رسم الملامح” – إعادة هيكلة تهدف الى إبقاء الدائنين في اللعبة بتمديد آجال إستحقاق الديون مع فقدان القليل في القيمة السوقية. وهو يريد أيضاً الحد من الإقراض في حالات محفوفة بالمخاطر ورفيعة المستوى، والبحث عن دائنين رسميين آخرين لتحمّل جزء كبير من العبء عندما تكون قدرة حكومة على سداد ديونها غير مؤكدة.
الواقع أن الإصلاحات هي عموماً حساسة ومعقولة، لكنها تفعل القليل لإعداد صندوق النقد الدولي للأزمات في المناطق التي تفتقر إلى مجموعة من الدائنين الرسميين الذين هم على إستعداد لتوفير التمويل الأصغر، مثل أميركا اللاتينية. وهذا العجز سوف يشجّع نقاشاً أوسع حول كيفية توزيع أفضل لعبء حزم الإنقاذ بين صندوق النقد الدولي وشركائه. إن النتيجة التي سيتوصل إليها هذا النقاش سوف تساعد على تحديد ما إذا كان الصندوق، أم لا، هو القائد الفعّال في الجهود العالمية لمنع وحلّ الأزمات الإقتصادية في العقود المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى