هاكان غونداي يروي مأساة اللاجئين السوريين على لسان طفل

صدر عن دار غالاد التركية رواية “داها” وتعني “نريد المزيد”، كتبها كاتب تركي شاب يدعى هاكان غونداي، وهي وإن كانت رواية فأحداثها تدخل في ما يحدث لعالم الهاربين والمهاجرين من تركيا إلى أوروبا.

11

أنقرة – هيكل مهدي

هاكان غونداي، كاتب تركي شاب متميز جداً ألف رواية تقشعر لها الأبدان، أراد أن يحكي فيها عن شبكات التهريب من الداخل، عن حياة هؤلاء الناس وعن الأخلاق التي تحركهم وقد إختار أن يروي ذلك على لسان طفل! طفل وحش نشأ وترعرع في قلب شبكة مهربين إلى أن شبّ ووجد سبيل التوبة وعثر على إنسانيته المسلوبة.
يقول هاكان إن فكرة هذه الرواية قد جاءته لدى قراءته خبر إعتقال عصابة في مدينة تركية ساحلية كانت تصنع سترات نجاة “مضروبة” غير صالحة للعوم، وكانوا ينوون بيعها للعائلات التي تسعى إلى الوصول إلى إحدى الجزر اليونانية بصورة غير شرعية بواسطة مراكب متهالكة. “إنه الطمع، لكنه أيضاً الجُبن في أقذر أشكاله. فهؤلاء الأوغاد يعلمون أنهم لن يقابلوا ضحاياهم مرة ثانية أبداً في حال غرق المركب. أي واقع أكثر عنفاً من هذا؟”.
وهو يتكلم بوصفه تركياً: “الفرق بين الشرق والغرب هو تركيا. ونحن نعيش هنا. فهل هذا يعني أن بلدنا جسر قديم للعبور بين الشرق الحافي القدمين والغرب الذي ينتعل حذاءً جيداً؟ ذلك الجسر الذي يعبره كل ما هو غير قانوني! خصوصاً أولئك الذين نطلق عليهم اسم “غير الشرعيين”… نحن نفعل كل ما بوسعنا كي لا يبقوا في حلقنا. نبلع ريقنا ونصدِّر “البضاعة” إلى حيث تريد الذهاب… إنها تجارة من حدود إلى حدود أخرى… من جدار إلى جدار آخر”.
بطل الرواية فتى عمره تسع سنوات وإسمه “غزا” Gâza. وقد تقصد الكاتب إطلاق هذا الاسم على الفتى لما فيه من دلالة قوية للغزو والحرب. يعيش “غزا” على شواطئ بحر إيجه. ماتت أمه وهي تلده. ثم أجبره والده على ترك المدرسة لكي يعمل معه في التهريب مثل إخوته وكانوا قباطنة يبحرون بالقوارب التي تحمل المهاجرين إلى اليونان.
“لو لم يكن أبي قاتلاً لما استطاع أن يحكي لي هذه القصة ولما كنت أنا هنا لأرويها لكم”. بهذه الكلمات الصاعقة تبدأ الرواية على لسان “غزا”. فقد حكى له والده، في سبيل تربيته، كيف إستطاع أثناء غرق مركبه ذات يوم بحمولته من المهاجرين النجاة بعدما إنتزع سترة النجاة من رجل عجوز وراقبه وهو يغرق. إنه قانون: “أنا أو الآخر”، قانون أولئك “المستعدين لفعل أي شيء، أي شيء على الإطلاق، في سبيل البقاء”. وقد تتلمذ الطفل على والده وبيئته، حتى أنه بزّه قسوة وحيوانية مع الأيام. وكان “غزا” تعرض في عمر 10 سنين للإغتصاب على يد أحد المهاجرين وبتواطؤ مع جميع المتواجدين وقتها: “تلك مرحلة لا بد لكل طفل من المرور بها في سبيل أن يكبر…”. لاحقاً، سيبصق “غزا” ألمه الذي لا يجد له إسماً بممارسته التعذيب النفسي والجسدي على الآخر. جميع الآخرين: “فالناس الذين يهربون من بلادهم ليسوا كلهم أبرياء (…) فكثيراً ما يمر بمستودعنا أصحاب جنح ولصوص وقتلة بل وأسوأ”.
كان عمل “غزا” يتمثل بدايةً في إحضار الماء والطعام للمهاجرين غير الشرعيين الذي يمضون وقتاً أو بعض وقت في مستودع تابع للعائلة. فكان يستقبل مهاجرين جدداً بإنتظام، وكان هناك دائماً “المزيد” منهم. كانت لدى “غزا” هواية المراقبة والتدوين؛ فكان يعامل مساجينه (أو ضيوف العائلة) كما يلعب الأطفال بالحشرات. هو لا ينظر إليهم كبشر، بل كحيوانات مختبر. كان يراقب الإنسان في حيوانيته وجُبنه. ويكتشف حدود القوة والخوف، ومتى ينخّ ومتى يخون. كان يستمتع بمراقبتهم وهم يكررون كلمة “Daha”…
و”Daha” هو عنوان الرواية. وتعني “نريد المزيد”. وهي تقريباً الكلمة التركية الوحيدة التي يعرفها هؤلاء الأفغان والعراقيون والسوريون الذين أرهقتهم الطرقات والحدود، والتي يستخدمونها ليطلبوا من “غزا” مزيداً من الماء أو مزيداً من الطعام ومزيداً من الأمل. والمهربون بطبيعة الحال لديهم المزيد… لكنه المزيد من الطمع والجشع لكسب المزيد من المال بالإقتطاع مما يقدمونه لزبائنهم، فيكدسونهم في أعداد أكثر وأكثر في الشاحنات أو القوارب مطالبين بزيادة في الأجر الذي سبق الاتفاق عليه.
ذكرتني الرواية بقوة بالكاتب غسان كنفاني وقصته “الصغير يذهب إلى المخيم”: “كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الاشتباك ذاته. الالتحام المتواصل بالعدو لأنه أثناء الحرب قد تهب نسمة سلام يلتقط فيها المقاتل أنفاسه. راحة. هدنة. إجازة تقهقر. أما في الاشتباك فإنه دائماً على بعد طلقة. أنت دائماً تمرّ بأعجوبة بين طلقتين، وهذا ما كان، كما قلت لك، زمن الاشتباك المستمر”. ويقول هاكان: “خذوا رجلاً متحضراً جداً، يتحلى بأخلاق عالية ومشاعر وشرف بل ومثقف أيضاً. احشروا هذا الرجل وحاصروه وضيقوا عليه الخناق… اجعلوه يشعر بأن موته بات قريباً، احرموه من أية نقطة علّام تربطه بأدنى عناصر إنسانيته، وسترون أي وحش آدمي حانق ستصنعون”. عجباً! هل الكلام هنا عن السوريين الشرفاء في ميزان الحق، والإرهابيين في ميزان الدول المتحضرة؟
رواية ذات راهنية قاتلة. حكاية رحلة خلال أحلك ليالي الإنسانية تدفعنا للتفكير مجدداً في تعريف كلمة “إنسان”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى