إختلافاتنا تخيط خلافاتنا

بقلم ميرنا زخريّا*

لطالما تردّدت على مسامعنا مقولة أن “الإختلاف لا يُفسد للودّ قضية”، وفي الوقت ذاته، لطالما تراكمت أمام أعيُننا الخلافات التي سبّبتها الإختلافات، فقطعت الحوارات وشيّدت الإصطفافات؛ إذ كثيراً ما يحمل الإختلاف نكهة الخلاف، وما أدراكم بنكهات الخلافات على إمتداد الدول العربيّة الفقيرة منها والغنيّة.
ليسَ للبشر عقل واحد ولنْ يكونْ، ليسَ التشابه مطلوباً ولنْ يكونْ؛ ذلك أن الإختلاف كانَ وسيكونْ ذا نكهتين مُتمايزتين:
* الأولى ذات نكهةٍ حلوةٍ طيبةٍ، تفوحُ منها وُجهات النظر وتعدّدية الآراء، ما يُحافظ على المعايير الحميدة والمحقّة.
* والثانية ذات نكهةٍ مُرّةٍ نافرةٍ، تفوحُ منها نواة الفرديّة والتشبّث بالرأي، ما يجذب المقاييس البغيضة وغير المحقّة.
النوعيّة الأولى عالية الجودة، ذلك أنها تحترم الإختلاف (في القدرات والتوجّهات والخيارات)؛ وبالتالي، فهي لا تطال سوى حقّ الإختلاف في الفروع، من دون أن تمسّ الجذور الأصلية وتتلاعب في الثوابت الأساسية (مِنْ قوانين ودساتير وحقوق طبيعية). مُناصرو هذه النكهة مِن الإختلاف يكفيهم القليل مِن المنطق لكيْ يحلوا الإشكالات والأزمات، ومِن ثم يمضونَ في تصحيح السلبيات وفي البناء على الإيجابيات.
أما النوعيّة الثانية، فهي تضرب بعُمق الجذور ولا تقبل بحقّ الإختلاف؛ وبالتالي، لا يعود للمنطق أمان أو حتى مكان. مُناصرو هذه النكهة مِن الإختلاف سريعاً ما يُحوّلون الإختلافات إلى خلافات، ولعل الأسباب تتوضّح عبر المؤشّرات الآتية:
1. الأنانية الذاتية: حيث تسيطر المنفعة الخاصة على المصالح العامة، ما يضرب أسُس المساواة والمشاركة معاً؛
2. التعصّب المذهبي: هي آفة واسعة الإنتشار رغم كل ما يُقال، وهي تضرب وِحدة الصفّ العُروبي من دون إستئذان؛
3. الإنغلاق الحزبي: يؤدي بالمجموعة نحو تحيّز أعمى لحزبٍ ما أو لشخصيةٍ ما، ومُعارضة الآخر لأنه الآخر؛
4. المرض النفسي: على قاعدة “بُلينا بقومٍ يظنّونَ أن الله لمْ يُهدِ سواهم”، حيث يتراءى للفرد أنه فعلاً قيصر زمانه؛
5. هَوَس المناصب: فترى واحدهم لا يستطيع أنْ يحيا مِن غير أنْ يكون في الصدارة، حيث أن الزعامة تقودهُ ولا يقودها؛
6. الظنّ المُسبق: يأخذ دور الحاكم والمحكوم، ويبدأ في المُسارعة بإصدار الإتهامات من دون الجري وراء الإثباتات؛
7. ضُعف المعرفة: لا يُكلف نفسه عناء البحث والتدقيق بمعلوماتٍ كافية ووافية تقيه شرّ الأخطاء وإضاعة الوقت.
الواقع أن الإختلاف ثروة تُثري الطروحات والإرشادات والإختيارات، بالإضافة إلى أنه منَ المستحيل صبّ الناس في قالبٍ واحدٍ وجعلهم نسخاً مُكرّرة. أصلاً، الإستنساخ (الجسدي منه والفكري) هو ضدّ طبيعة البشر وضدّ مشيئة الله؛ وإستناداً إلى آيةٍ معبّرةٍ مِن آيات القرآن الكريم “لوْ شاء ربّك لجعل الناس أمةً واحدةً”، لكنه سُبحانه تعالى لمْ يشأ.
وعليه، لا بُد لنا أنْ نتدرّب وأنْ نعتاد على فكرة المشاركة وتعدّد الآراء؛ كما ولا بُد لنا أنْ نقتنع بأن لا أحد يستطيع أنْ يدّعي بأنه وحده يمتلك الحقيقة المُطلقة؛ لذا، لا بُد لنا أنْ نتعلم كيف نُدير خلافاتنا وإلا فهي، لا محالةَ، سوف تُديرنا، وبالمشاكل سوف تُحيطنا، وإلى الهاوية سوف تُلقينا.
التسليم بمبدأ التعدّدية ما هو إلا إقرار بحقّ الإختلاف بين مختلف الأغصان البشرية مِنْ “أنا وأنت وهو وهي”؛ فيما التسليم بمبدأ الأنانية لا يتعدّى كونهُ تمسّكاً بغُصن الشخصنة والفردّية مِنْ “أنا وأنا وأنا وأنا”. في حال كان صحيحاً بأن أعقل الناس مَنْ جمع إلى عقله عُقول الناس؛ ففي هذه الحالة، لنْ تقوم حضارةً (عربية أو غربية)، إذا لمْ تحوِ في قاعدتها: إحترام الآراء والإختلاف البنّاء؛ وكل ما عدى ذلك، يؤدّي إلى تعثّر عجلة التمنيات بإنجاح: الحوارات والإتفاقات والتطوّرات.
مُنذ عصر الجاهلية، إختصر أمير المؤمنين عُمر بن الخطّاب طريق الإختلافات والخلافات بقوله المأثور “لا خير فيكم إنْ لمْ تقولوها، ولا خير فينا إنْ لمْ نسمعها”؛ وإلى عصرنا الحاضر، ما زال العرب (بغالبيتهم) إمّا لا يقولون وإمّا لا يستمعون. فماذا قد يحصل لوْ بدأوا يتحاورون ومعاً يُخطّطون؟ ماذا قد يحصل لوْ إتفق “نحو 400 مليون مُواطن عربي يُقيمون على نحو 14 مليون كيلومتر مربّع”؟ ماذا قد يحصل لوْ عالجوا الخلافات وإستفادوا مِن الإختلافات؟

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى