تونس: عودة الفارس في الذكرى الستين لإستقلالها

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

في 20 آذار (مارس) الجاري الذي يصادف الذكرى الـ60 لإستقلال تونس، ستُسجّل عودة الفارس، والفارس هو الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، الذي تم إقتلاع تمثاله وهو يمتطي صهوة جواد عربي، من موقعه في مدخل العاصمة، بعد إستيلاء الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على السلطة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987، حيث تم وضع نصب ساعة بشعة مكانه بعلو شاهق.
وكان هذا التمثال الذي يخلّد عودة بورقيبة إلى تونس وفي جيبه وثيقة الإستقلال الداخلي في 1 حزيران (يونيو) 1955 المرحلة الأولى للاستقلال التام بعد ذلك بعشرة شهور، قد تم نصبه بعيد الإستقلال مكان تمثال رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق جول فيري الذي تم في عهده سنة 1881 وضع تونس تحت الإستعمار الفرنسي.
وإذ كان الكفاح الوطني المتواصل إستمر منذ ذلك الحين فقد بدا أنه إتخذ منعرجاً أكثر نجاعة تحت قيادة الرئيس بورقيبة منذ 1934 والذي تم تتويجه بإستقلال البلاد.
من هنا فقد اختار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، الذي يعتبر نفسه الابن الروحي للرئيس الأسبق، موعد عيد الإستقلال، لإعادة نصب تمثال بورقيبة إلى مكانه بعد “غربة” تواصلت ما يناهز 30 سنة إلّا بضعة أشهر.
وإذ ستقول الأكثرية إن الدر سيعود إلى معدنه، والرئيس بورقيبة سيعود إلى موقعه مشرفاً على المدينة، ومن المكان الذي دخل منه منتصراً قبل 60 سنة، إلى شارعها الرئيسي حيث تواجهه من الجهة الأخرى السفارة الفرنسية والكاتدرائية الرئيسية للمؤرخ عالم الاجتماع إبنها الآخر عبد الرحمن بن خلدون، فإن الأمر لم يعدم من المعارضين، ممن رفعوا عقيرتهم منددين محتجين مطالبين بعدم عودة التمثال، ممن إعتبروا بورقيبة ديكتاتوراً معادياً للحريات العامة وللديموقراطية، بل دموياً أيضاً بإعتباره قد أمر (والأمر في حاجة إلى تأكيد) بقتل رفيقه السابق وخصمه اللدود الزعيم الثاني في البلاد صالح بن يوسف.
ولعل كل ذلك صحيح، في زمن لم تكن فيه الديموقراطية مطلباً شعبياً، ولكن أنصار بورقيبة وهم يحتفلون بعيد الاستقلال في 20 آذار (مارس) يذكرون للرجل إنجازات عدة حوّلت بلدهم من حال إلى حال:
أولاً: نشر التعليم على نطاق واسع، بعدما كان الجهل وكانت الأمية يعششان في كل أرجاء البلاد، وبعدما كان حاملو البكالوريا سنوياً يعدّون بالعشرات وفي أحسن الأحوال بالمئات، لم تمر عشر سنين حتى أصبح عددهم بالآلاف، وبلغ عددهم ما بين 80 و90 ألفاً في السنوات الأخيرة؛
ثانياً: نشر الصحة عبر شبكة مستشفيات واسعة، لم تبلغ لا كماً ولا نوعاً الأفضل، ولكن إرتفعت معها معدلات الحياة إلى 74 سنة بعدما كانت 46 عاماً سنة الإستقلال؛
ثالثاً: إصدار قوانين إجتماعية متقدمة مكّنت من منع تعدد الزوجات وتقنين الطلاق، وتمكين البنات من حق التعليم تماماً مثل البنين، حيث جعلت البلاد منارة عربياً وإسلامياً وإفريقياً، ومكّنت من تحويل نظريات المصري قاسم أمين والتونسي الطاهر الحداد إلى أرض الواقع، وأعطت المرأة الحق في الإنتخاب حتى قبل عدد من الدول الأوروبية ومنها سويسرا، ورفعت المرأة إلى مصاف عليا بما في ذلك إحتلالها نسبة الثلثين في مقاعد الجامعات؛
رابعاً: تنظيم النسل بالصورة التي جعلت عدد سكان تونس لا يتجاوز حالياً 11 مليون ساكن، فيما سوريا التي كان عدد سكانها في منتصف ستينات القرن الفائت مماثلاً لتونس، قد تجاوز حالياً الخمسة والعشرين مليوناً، ما مكن تونس من دخل فردي نسبياً عالياً، ورخاء ملحوظاً، وإن بدا متقهقراً بعد ثورة 2011 نظراً إلى التفاعلات المجتمعية التي تصاحب عادة كل الثورات.
على أن الحصيلة بعد حكم الرئيس بورقيبة على مدى ثلاثين سنة أو تزيد (1956/1987)، بعد 25 سنة قضاها في الكفاح في الغالب بين السجون والمنافي، و في الحكم حتى سنة 1987، لم تكن دائما لامعة، فقد إتسمت فترة حكمه بغياب كامل للممارسة الديموقراطية، وتزييف الإنتخابات، وعدم إحترام مبادئ حقوق الانسان، كما عرفت إهتزازات سياسية أو إجتماعية عنيفة، وأخطاء كبرى في التصرف الإقتصادي، وخصوصاً في نهاية حكمه حيث فقد جانباً من إمكاناته العقلية التي إشتهر بحدّتها نتيجة ذكاء مفرط.
ورغم ذلك فإن عودة قوية لشعبية بورقية قد سادت في السنوات الأخيرة، بعد 23 من إبعاده قسراً من الحكم، بفعل إنقلاب أمني قاده الرئيس بن علي، وأساء عبره إستخدام أدوات الدولة التي نخرها فساد لم يكن ملاحظاً زمن بورقيبة، الذي إشتهر بالعفة ونظافة اليدين، وإن لم ينعدم عهده من بعض التجاوزات المحدودة.
واليوم والبعض القليل يعارض عودة تمثال بورقيبة إلى قاعدته في الشارع الرئيسي، فإن قليل القليل حتى من النواب الإسلاميين في البرلمان يطالب بتعويض إسم الشارع الذي يحمل إسم بورقيبة بإسم شارع الثورة، إلا أنه يبدو أن غالبية الناس التي تتعلق تعلقاً شديداً بالرئيس الأسبق، قد زاد منسوب حنينها إلى عهده حتى من الذين ولدوا بعد وفاته السياسية في 1987 ووفاته البيولوجية في العام 2000، وخصوصاً من الفتيات والسيدات اللواتي يدينن لبورقيبة بعودة الإعتبار إلى المرأة، وهو ما مكّن الباجي قائد السبسي الرئيس الحالي من الحصول على غالبية مريحة في آخر إنتخابات عرفتها البلاد.

• صحافي وكاتب تونسي مخضرم، ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى