مشافٍ تحت القصف

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في سوريا، لا تستطيع أن تغمض عينيك قبل الإغماءة الأخيرة، ولا تستطيع أن تتنفس ملء رئتيك من دون أن تملأ خياشيمك رائحة الفناء. يمكنك فقط أن تعد شهقاتك في إنتظار موت لن يتأخر كثيراً. فالطائرات التي تغرّد في سموات ليست لها تضرب فوق أرضك كل متحرّك، وترسم صلباناً فوق كل الهياكل حتى وإن امتلأت بغصات الجرحى وآهات المكلومين.
فإن أتتك جارية حسناء لتغير شراشف مرقدك أو رباط معصمك، لا تنظر إليها نظرة إشتهاء، لأنك لا تعلم من أيّ قصف ستموت. العجز ليس مبرراً للبقاء في بلاد لا تحتمل أنفاسك، ولا تعرف من فنون الحياة حرفة إلا القتل والقتل المضاد، ولا توزّع على أبنائها إلا الشراشف والأكفان. لا تتهم أحداً قبل الرحيل. فقط، مدّد أصابعك في كل الجهات، ونَم نومتك الأخيرة بين أيّ حجرين في إنتظار النسور أو النشور.
لن تؤخر إتفاقية ميونيخ شهقتك الأخيرة لأن أحداً من المجاهدين في سبيل الحمق لم يوقّع عليها، ولا تصدق وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند إن إتّهم أو تصدّق قيصر روسيا فلاديمير بوتين إن أنكر. استفت جرحك وإن أفتاك الغزاة وأفتوك. فكلهم شركاء في هدم معابدك ومشافيك وأضرحتك، وكلهم متفقون على فنائك، وإن تذرّعوا بملاحقة إرهاب هم صانعوه في بلاد لم تعرف يوما إلا السلم والتعايش.
من أين يأتي القصف، لا تكترث. لأنه لن يتسنى لك قراءة بلد المنشأ فوق علب الموت التي تتساقط فوق رأسك من كل مكان. شهيد أنت لا تعرف قاتلك، وهارب لا تعرف من يطاردك. لكنك على يقين أن الموت الذي تأخر عنك وخطف فلذات حلمك من تحت إبطيك لن يتأخر كثيراً، وأن الرايات التي ترفرف فوق سطح المشفى لن تحميك من زخات طائرات التحالف. الكل يحشد اليوم نحوك، وكأن شامك تنقصها الحشود. والكل يقصف وينكر ويتهم، ويقصف وينكر ويتهم. وبين كل قصف وإنكار وإتهام، تنتظر الموت.
يوم ثرت، ثارت العمامات السوداء عليك، وإرتفعت الرايات السود إنتصارا لك. فتلبدّت فضاءات حلمك بالغمام. وتحوّلت ثورتك البيضاء إلى إشارة إقتحام. ومن يومها، لم تعد تميز مصدر الطلقات ولا ملامح القاتل، حتى جاءك الروس من وراء السماحات ليزرعوا فدادين طموحك بالمتفجرات ويفخخوا الحلم الأميركي البغيض عند قدميك.
لم تكن تريد إلا الحرية، فجاءك الموت من كل مكان. وحين رفضت أن تبسط يديك لتشارك في ولائم القتل، جاءتك الرصاصة من الخلف. لكنك تحاملت على جرحك النازف حتى أويت إلى سرير لن يمنعك من الموت. فكل الطائرات الملوّنة في سمائك الكئيبة ترمي براميلها المتفجرة فوق مشافيك، لتقصف وتنكر وتتهم.

• كاتب وصحافي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى