لبنان: تأييد سمير جعجع لترشيح ميشال عون للرئاسة يحيي الدور السياسي المسيحي في البلاد

على الرغم من أن غالبية المتابعين للشؤون اللبنانية أصروا على أن إقدام الدكتور سمير جعجع على تأييد ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية كان رداً على ترشيح الرئيس سعد الحريري للنائب سليمان فرتجية للمنصب عينه، فإن الحقيقة كانت أبعد من ذلك كما يروي التقرير التالي:

النائب سليمان فرنجية: لم يطلب منه "حزب الله" الإنسحاب
النائب سليمان فرنجية: لم يطلب منه “حزب الله” الإنسحاب

بيروت – رئيف عمرو

بتأييده ترشيح النائب ميشال عون لرئاسة الجمهورية في لبنان، فقد يكون سمير جعجع قد عزف في نهاية المطاف على الوتر الصحيح لفك عقدة إنتخاب رئيس جديد للبلاد. كان لبنان بلا رئيس، وهو موقع مخصص تقليدياً للموارنة المسيحيين، منذ ما يقرب العامين بسبب فشل ساسته في حلّ الأزمة السياسية الأوسع نطاقا التي أصابت البلاد بالشلل. ولكن حتى إذا لم تحقق خطوته هدفها بعد الردود السلبية الكثيرة عليها من جانب حلفائه في تحالف 14 آذار، فإن جعجع، في فكرة سياسية ذكية، وضع الطريق الذي سيسلكه لتحقيق هيمنته السياسية بين المسيحيين اللبنانيين، وتغيير الخريطة السياسية الوطنية، وإعادة الأهمية السياسية إلى دوره، وبالتالي ضمان الحفاظ على الذات للطوئف المسيحية المُحاصَرة والمُهمّشة منذ فترة طويلة.
الواقع أن الخبر كان صادماً حتى لأشد المراقبين العارفين في السياسة اللبنانية. بعد كل شيء، إن التنافس السياسي والخلاف بين جعجع، رئيس “حزب القوات اللبنانية”، وعون، زعيم “التيار الوطني الحر”، هما من الأقدم والأكثر دموية في البلاد. لقد خاض الزعيمان المسيحيان معارك ضارية خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، ألحقت دماراً هائلاً في المناطق المسيحية وتسببت في إنقسامات عميقة بين مؤيديهما. في تشرين الأول (أكتوبر) 1990، أجبر الجيش السوري العماد عون على الذهاب إلى المنفى في باريس لقيادته الفاشلة ل”حرب التحرير” ضد وجوده العسكري في لبنان. أما بالنسبة إلى جعجع فقد سُجِن في العام 1994 بتهمة تفجير كنيسة في زوق مكايل التي قُتل فيها عشرة أشخاص. كما أنه كان يشتبه بأنه قد قتل رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي في حزيران (يونيو) 1987 والزعيم المسيحي داني شمعون مع زوجته وإثنين من ابنائه بعد ثلاث سنوات. ولم يكن جعجع وحده الذي قام بإرتكاب الفظائع خلال الحرب. من بين أمراء الحرب وليد جنبلاط، نبيه بري، إيلي حبيقة، إبراهيم قليلات … فإنه وحده واجه السجن. وصدر عفو عن البقية التي تحركت لإحتلال مناصب في السلطة في ظل الوصاية السورية. في حزيران (يونيو) 2005، عاد عون من فرنسا، وأُفرِج عن جعجع من السجن بعد ذلك بشهر بعد صدور عفو رئاسي بحقه.
تنافس حزبا عون وجعجع بشراسة في الإنتخابات البرلمانية بعد إنسحاب الجيش السوري من لبنان. تحالف جعجع مع تحالف 14 آذار المناهض لسوريا، والذي تشكّل بعد إغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005. ومن جهته، في محاولة يائسة ومثيرة للجدل لتحسين فرصه في أن يصبح رئيساً، إنضم عون إلى تحالف “حزب الله” الشيعي المؤيد لسوريا وإيران. مع ذلك، لم يستطع حتى الآن لا “حزب الله” ولا “تحالف 14 آذار” تحقيق رغبات حلفائهما المسيحيين الرئاسية، وإستمر كلٌّ من عون وجعجع في الإعتراض على ترشيح كلٍّ منهما، ونتيجة لذلك تعرقل إنتخاب عضو مسيحي لرئاسة الدولة.
إن المواجهة المادية والسياسية بين جعجع وعون — والعواقب الوخيمة جراء ذلك على مصير اللبنانيين المسيحيين — هي المفتاح لفهم أحدث خطوة لجعجع. ومن المغري شرح شراكته الجديدة مع عون كرد فعل غير محسوب على إختيار حليفه السني سعد الحريري تأييد ترشيح منافسه المسيحي الآخر سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. بعد كل شيء، ينبغي على جعجع أن يكون شعر بصدمة من قرار الحريري الغريب لدعم فرنجية، الصديق المقرب من الرئيس السوري بشار الأسد. إن عدم تكلف الحريري عناء التشاور مع جعجع قبل إقتراح مبادرته لا بدّ أن يكون أصاب هذا الأخير بخيبة أمل كبيرة.
ولكن، سيكون من الخطأ أن يُحدّد أو يُحدّ عمل جعجع السياسي البارع بفورة عاطفية أو تحوّل مفاجئ للتحالف. كما لم تكن الشجاعة أو الأخلاق هما اللتان دفعتا جعجع لرفع غصن الزيتون لعون. بدلاً من ذلك، كانت هذه الخطوة مبنية على إستراتيجية سياسية محسوبة بعناية ومدروسة جيداً من قبل جعجع التي تم وضعها منذ سنة على الأقل. وكان المَعلَم الرئيسي في هذه العملية هو التقارب الذي حدث في حزيران (يونيو) 2015، عندما وقّع الرجلان “إعلان نوايا” في منزل عون في الرابية، مُلزِماً هذا الأخير بشكل صارم بمبادئ السيادة اللبنانية التي يفضّلها ويؤيدها “تحالف 14 آذار” والتي يقاومها “حزب الله”.
ليس من الصعب رؤية أن جعجع يريد أن يكون قوة قادرة كلية النفوذ في السياسة اللبنانية المسيحية، والآن بعدما خرج السوريون، فإن هدفه إلى حد كبير قابل للتحقيق. ولكن الطريقة الوحيدة بالنسبة إليه لتحقيق رؤيته هي، ويا للسخرية، تمهيد الطريق لعون لكي يصبح رئيساً، وهو الأمر الوحيد الذي ركّز عليه زعيم التيار الوطني الحر منذ عودته إلى لبنان في العام 2005. إن المنطق يعمل كالتالي: إذا أصبح عون رئيساً، سيتم تعزيز دور جعجع كصانع مسيحي للرؤساء في نظر المسيحيين اللبنانيين، وبالتالي، فإن نفوذه داخل المجتمع سوف يزيد بشكل كبير. إن غالبية المسيحيين اللبنانيين ستنظر إليه باعتباره الرجل الذي كسر الجمود الرئاسي، وأعاد المسيحيين إلى السلطة، وصنع سلاماً تاريخياً داخل الطوائف المسيحية لأجيال آتية. مع مرور الوقت، وقد لا يكون طويلاً جداً نظراً إلى كبر سن عون، قد يكون جعجع قادراً على كسب قلوب وعقول قاعدة دعم منافسه، وإذا سارت الامور بشكل جيد، ربما يخلفه كرئيس عندما تنتهي فترة ولايته التي تدوم ست سنوات.
كل هذا يبدو واعداً لجعجع، إلّا أن إستراتيجيته سيكون عليها التعامل مع القول المأثور اللبناني القديم أن التعيينات السياسية الوطنية الكبرى في لبنان نادراً ما تكون، إذا حدثت، مجرد مسألة محلية. إن القوى الإقليمية والدولية في بعض الأحيان يكون لها رأي كبير حول مَن يجب أن يُنتخَب رئيساً من المجتمع المسيحي الماروني ومَن الذي يجب أن يُعيّن رئيساً للوزراء من الطائفة السنية. (وقد حافظ رئيس البرلمان زعيم حركة أمل الشيعية نبيه بري، وهو حليف قوي ل”حزب الله”، على رئاسة مجلس النواب منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1992).
الخبر السار هو أن هناك مجالاً أكبر للسياسيين اللبنانيين للمناورة الآن مما كان عليه الوضع في الماضي، وذلك بسبب خروج سوريا من لبنان، وإنشغال العالم بمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، والقلق من المزيد من الفراغ السياسي في المنطقة. والواقع أن إستمرار زعزعة إستقرار لبنان وشلّه يضر بحملة المكافحة ضد “داعش”. هذا لا يعني أن اللبنانيين سوف يكونون قادرين على القيام بذلك من تلقاء أنفسهم. فأهل الخبرة يفترضون بأن القوتين الإقليميتين اللتين تمارسان التأثير الأكبر في السياسة الوطنية اللبنانية – إيران والمملكة العربية السعودية – قد تُظهِران المزيد من المرونة تجاه تفضيلات وحسابات الوكلاء – “حزب الله” و”سعد الحريري” على التوالي – من أجل منع حرائق المواجهة الإقليمية بين السنة والشيعة من الوصول إلى لبنان.
الحزبان المحليان الرئيسيان اللذان لم يتلقَّ منهما جعجع وعون أي ردّ نهائي “حزب الله” و”تيار المستقبل” على الرغم من زيارة وفود من الحزب الشيعي دارة عون في الرابية مؤيدة له وقول الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله أنه يؤيد ترشيح عون لأنه موقف أخلاقي، ولكنه لم يقل أنه سيتدخل ويطلب من المرشح الآخر سليمان فرنجية الإنسحاب. بعد كل شيء، لقد وعد نصرالله العماد عون لحظة وقّع مذكرة التفاهم معه في العام 2006 أنه سوف يفعل كل ما في وسعه لمساعدة حليفه المسيحي للفوز بالرئاسة. ومما يُحسب لعون، أنه على الرغم من الضغوط الإقليمية والدولية المكثفة ضد حزبه، فقد تمسّك بتحالفه مع “حزب الله”.
لكن، على الرغم من الكلام المعلن فإن “حزب الله” هو الآن في حيرة وحذر قليلاً من هذا الحب المُكتشَف حديثا بين عون وجعجع. لم تثق الجماعة الشيعية أبداً بجعجع، حيث تراه يمينياً كثيراً وقريباً جداً من واشنطن. والآن بعدما إحتضن عون جعجع، فإن “حزب الله” بدأ يتساءل عما إذا كان الرئيس عون، بعدما وقّع إعلان مبادىء “لبنان أولا” مع حليفه الجديد، يمكن الوثوق به. ماذا لو ذهب عون إلى طرقه القديمة للحملات القوية ضد كل جميع أشكال التدخل الأجنبي ودافع عن قضية عدم التدخل اللبناني في الصراعات الإقليمية؟ مثل هذه الحملة يمكن ان تعقّد جدول أعمال “حزب الله” الموالي لايران ومشاركته في الحرب السورية.
أما بالنسبة إلى الحريري، ينبغي عليه التشاور مع المملكة العربية السعودية، وربما أكثر مما يفعل “حزب الله” مع إيران، لمعرفة ما إذا كانت المملكة يمكن أن ترفع الفيتو عن عون. ليس من وقت بعيد، قال الحريري علناً بأنه لن يقف في طريق التضامن المسيحي وسيقبل بالرئيس الذي يختاره المسيحيون أنفسهم وتدعمه الكنيسة المارونية. الواقع أن الحريري يفعل جيداً بالتمسك بكلامه الذي يجعله مؤيداً نشطاً للسلام المسلم المسيحي والحوار بين الأديان في منطقة يجرفها التطرف الديني العنيف.
لم يكن هناك كلمة واضحة حتى الان من الرياض على عون، ولكن يبدو أن السعوديين لم يكونوا راضين تماماً عن نسف جعجع لخطتهم بترشيح فرنجية، والتي يزعم البعض أنها كانت “مطبوخة” مع توجيه فرنسي وأميركي. وتشتبه الرياض أيضاً بأن تكون الدوحة لها يد في “مكائد” جعجع، وقطر كانت تغلغلت بهدوء في السياسة اللبنانية على مدى السنوات القليلة الماضية على حساب المملكة العربية السعودية. ولكن وجهات نظر السعوديين يمكن أن تتغير إذا تلقوا تطمينات من إيران بأن رئاسة عون ستأتي مع رئاسة مجلس الوزراء للحريري، على إفتراض أن “حزب الله” قد تجاوز مخاوفه الجديدة إزاء عون. إذا حدث ذلك، فإن المسيحيين سوف يحصلون على رئيسهم القوي، والسنة سوف يرحبون بعودة رئيس وزرائهم إلى الوطن، والشيعة لا يزال لديهم رئيس البرلمان، ناهيك بالطبع عن “حزب الله”، أقوى قوة سياسية وعسكرية في البلد.
بالطبع، لا شيء من هذا، إذا تحقق، من شأنه أن يحل المشاكل العديدة الأخرى التي يتعامل معها لبنان منذ تأسيس الجمهورية، بما في ذلك الإفتقار إلى الإصلاح والمساءلة السياسية، والفساد، وعدم الإنتقال الى ديموقراطية حقيقية، وأخيراً وبشكل مأسوي، عدم القدرة على حتى على جمع القمامة من شوارع بيروت. ولكن الأمل هو أنه مع هذه الوصفة القصيرة والمتوسطة الأجل للاستقرار السياسي، إذا حدثت، فإن مؤسسات الدولة يمكنها إعادة العمل، ويمكن التفاوض على قانون إنتخابي جديد، والحفاظ على الأمن القومي. أما بالنسبة إلى جعجع، فقد لا تعمل إستراتيجيته – ولكن، حتى عندها، سيبرز وكأنه الفائز بهندسة قيامته السياسية الخاصة وتعزيز التضامن المسيحي في وقت مليء بالمخاطر الكبيرة على الأقليات الدينية في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى