قطر بين سندان السعودية ومطرقة إيران

تسبب الإتفاق النووي بين إيران و”مجموعة 5+1″ بحالة ذعر لدى الدول العربية السنية، ولكن قلقها من فك عزلة خصمها الكبير كان بدأ قبل ذلك بفترة طويلة، منذ أن بدأت معالم الاتفاق ترتسم. هذا المتغيّر غيّر الأولويات في الشرق الأوسط وكان من نتائجه الواضحة تموضع النفوذ القطري. كما أن الإنخفاض الأخير في العلاقات السعودية الإيرانية قد وضع أعضاء مجلس التعاون الخليجي في مأزق، ولا سيما قطر، التي حاولت لسنوات الحفاظ على علاقات ديبلوماسية وإقتصادية مع إيران.

الأمير تميم بن حمد آل ثاني: غيّر سياسة والده الخارجية تجاه السعودية
الأمير تميم بن حمد آل ثاني: غيّر سياسة والده الخارجية تجاه السعودية

الدوحة – رفيق شعبان

مع إرتفاع درجات الحرارة الطائفية في منطقة الشرق الأوسط وتصاعد التنافس الجيوسياسي السعودي الإيراني بعد إعدام الشيخ الشيعي البارز نمر النمر، فإن زعماء دول الخليج العربية يردّدون غالباً مؤكّدين أهمية مفهوم وحدة مجلس التعاون الخليجي. مع ذلك، يكشف تحليل أعمق أن معظم الإجراءات الديبلوماسية لأصغر ممالك شبه الجزيرة العربية ضد طهران في كانون الثاني (يناير) كانت حذرة ومدروسة، وبالتالي تهدف في نهاية المطاف إلى تعزيز مصالحها الوطنية بدلاً من التضامن مع دول مجلس التعاون الخليجي.
إن دولة قطر، التي إستدعت سفيرها في 6 كانون الثاني (يناير) ولكن لم تقطع علاقاتها مع طهران، هي مثال على ذلك. في الواقع، إن لفتة الدوحة الديبلوماسية ضد إيران تشير إلى تضامنها مع المملكة العربية السعودية المجاورة. ومع ذلك، تشير خطوة قطر المحدودة بأن الدوحة تستمر في توخّي الحذر في التنافس الجيوسياسي الإيراني السعودي الأكبر. يبدو أن القطريين إلتزموا السعي إلى تحقيق إستراتيجيتهم التقليدية بالنسبة إلى سياستهم الخارجية وذلك باللعب خارج الأجندات المتضاربة للقوتين الخليجيتين الكبيرتين لتعزيز المصالح الجيوسياسية الخاصة بالإمارة الخليجية.
في عهد الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني (1995-2013)، تعمّقت العلاقات القطرية الإيرانية بشكل كبير. إن تواصل الدوحة مع طهران، ودعمها لجماعة “الإخوان المسلمين”، وملكية قطر ل”قناة الجزيرة” الفضائية … كلها كانت تغضب المسؤولين في الرياض، الذين إتهموا الدوحة بشكل دائم بأنها تتبع مصالحها الخاصة على حساب الأمن الجماعي لدول مجلس التعاون. لقد نظرت المملكة العربية السعودية إلى قطر بمثابة شوكة في خاصرتها وتحديّاً، على الرغم من صغر حجمها، بالنسبة إلى موقع الرياض كمرتكز للنظام الجيوسياسي في منطقة الخليج. بعد إندلاع “الربيع العربي” في جميع أنحاء المنطقة في العام 2011، غالباً ما أشار المحللون إلى التنافس القطري السعودي. في ذلك الوقت بدأت الرياض والدوحة التتنافس لملء الفراغ السياسي في دول مثل مصر وسوريا، على أساس رؤاهما المختلفة لمستقبل العالم العربي السني.
لقد أعطى “الربيع العربي” قطر نفوذاً واسعاً في العالم العربي، وجعل الإمارة الصغيرة تحتل مساحة واسعة في أخباره، وذلك بعدما بسطت نفوذها وأذرعها على العديد من القوى والملفات، بدءاً من “الإخوان المسلمين” في مصر ثم حركة “النهضة” في تونس، و”حماس” في فلسطين، وحزب الإصلاح اليمني، بالإضافة إلى حركات إسلامية معارضة في سوريا وليبيا.
وعلى الرغم من أن تنامي العلاقات القطرية الإيرانية قد أذكت التوتر بين الدوحة ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، فقد كان من المنطقي بالنسبة إلى دولة قطر تحقيق علاقة تعاونية على نحو متزايد مع طهران، نظراً إلى المصالح والطموحات الإستراتيجية لإمارة آل ثاني. كما أن هناك تاريخ علاقات ثقة مضطربة مع السعوديين، ينطوي على نزاعات حدودية وتدخّل الرياض المزعوم في سياسة القصر في الدوحة خلال تسعينات القرن الفائت، الأمر الذي دفع بالقطريين إلى تفضيل “الحكم الذاتي” والإستقلال والخروج من مدار الرياض الجيوسياسي.
وكانت العلاقات الوثيقة مع إيران وسيلة لتحقيق هذا الإستقلال. إن الأقلية الشيعية الصغيرة في قطر، والتي حافظت تاريخياً على علاقات إيجابية مع الغالبية السنية، لم تعرف أبداً أي نفوذ إيراني كبير. وفقاً لذلك، فإن المسؤولين في الدوحة، على عكس نظرائهم في الرياض والمنامة، لم يشعروا بالتهديد من ثورة شيعية مُحتملة مستوحاة من إيران في قطر.
وعلى النقيض من دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، غالباً ما نظرت قطر إلى إيران كجزء من الحل لمعضلات الأمن الإقليمي. على سبيل المثال، في العام 2010، وقّعت الدوحة إتفاقية ثنائية مع طهران “لمكافحة الإرهاب وتعزيز التعاون الأمني”. وقبل أربع سنوات من ذلك (2006)، كانت قطر العضو الوحيد في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة التي صوّتت ضد القرار 1696، الذي دعا إيران الى وقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم.
الواقع أن العلاقات الإقتصادية القوية مع إيران هي عامل مهم في الحسابات الإستراتيجية القطرية. وبمشاركتها لطهران في إستخراج حقل القبة الشمالية / جنوب فارس (أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم)، فإن القيادة القطرية لديها دافع مهم لمعالجة المشاكل في العلاقات العربية الإيرانية من طريق الحوار بدلاً من العداء والحرب. ومما لا شك فيه، بأن نزاعاً عسكرياً في الخليج تشترك فيه الجمهورية الإسلامية سوف يهدّد كلاً من مصالح الدوحة وطهران بالنسبة إلى تنمية وتطوير حقل القبة الشمالية/ جنوب بارس. وبالتالي، لم يكن من المفاجئ أنه بعد فترة وجيزة من توصّل الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة الى ألمانيا وطهران إلى الإتفاق النووي، رحّب وزير خارجية قطر به وأعلن أن الصفقة ستجعل الشرق الأوسط أكثر أماناً.
في آذار (مارس) 2014، شهدت قطر أزمة بعدما إستدعت المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة سفراءها من الدوحة. لقد كان ذلك نتيجة للتوترات المذكورة آنفاً بين قطر وهذه الدول الخليجية التي إتّهمت الدوحة بالتدخل في شؤونها الداخلية. وقد هددت الرياض قطر حتى بحصار بري وبحري. وإذ أدرك بأن قطر قد دفعت ثمناً كبيراً للسياسة الخارجية المثيرة للجدل التي إنتهجها والده، بذل أمير قطر الشاب الشيخ تميم بن حمد، الذي ورث العرش في العام 2013، جهوداً كبيرة لإصلاح العلاقات القطرية-السعودية. وبحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، كانت دول مجلس التعاون الخليجي الثلاث أعادت سفراءها إلى الدوحة لإنهاء الخلاف المستمر منذ ثمانية أشهر.
وقد ساهم التوافق بين قطر والمملكة العربية السعودية على الأزمات في سوريا واليمن في تخفيف هذا التوتر بين الدولتين. ومن جهته خفف العاهل السعودي الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود أيضاً لهجة المملكة تجاه جماعة “الإخوان المسلمين”، معتبراً بأن المجموعة الإسلامية السنية يمكنها أن تكون حليفاً مفيداً إلى حد ما في حملته لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. لهذا السبب، نظر سلمان إلى دعم قطر وتركيا لجماعة “الإخوان المسلمين” بقلق أقل بكثير مقارنة مع سلفه الملك عبدالله بن عبد العزيز.
الواقع أنه بعد التوافق الذي حصل بين الدوحة والرياض سارعت المملكة إلى السيطرة على الملفات التي كانت تستخدمها قطر لبسط أذرعها في المنطقة، بدايةً من الملف اليمني ثم المصالحة الفلسطينية، وصولاً إلى المعارضة في سوريا والأردن. وهكذا، بدأت قطر تختفي من مؤشرات البحث والأخبار خلال الفترة الماضية.
صارت السعودية ظاهرة في عمليات التفاوض في غالبية الملفات في المنطقة وفتحت ذراعيها لغالبية القوى للوقوف إلى جانبها. وأدركت الجماعات والأطراف التي كانت تدعمها قطر أن دور الأخيرة لم يعد يمدّهم بالقوة والنفوذ كما كان الحال بعيد “الربيع العربي”.
وأوضح الديبلوماسي الفرنسي السابق مارك شير لوبارا بأن “التوسع السعودي في العديد من الملفات أفقد قطر علامتها المميزة في المنطقة. فالملك سلمان أوقف سياسة سلفه العدائية ضد “الإخوان”، تلك الجماعة التي كانت مقياساً للنفوذ القطري في المنطقة، وذلك من أجل تشكيل جبهة سياسية ضد إيران”.
وظهرت مؤشرات هذا التغير في قيام خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، بزيارة السعودية بعد بضع ساعات من إعلان الإتفاق النووي ولقائه بالملك سلمان وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكذلك ولي العهد ووزير الداخلية الأمير محمد بن نايف. وكانت هذه الزيارة إستثنائية، خصوصاً أن مشعل كان يُعتبر شخصاً غير مرحّب به في المملكة، بسبب إقامته في الدوحة وإرتباطه بعلاقات وثيقة مع طهران.
كما إستقبلت السعودية أيضاً قائد حركة “النهضة” التونسية، راشد الغنوشي، وهمام سعيد، أحد قادة الإخوان الرئيسيين في الأردن، وعبد المجيد الزنداني، الزعيم الروحي لحزب الإصلاح اليمني الإسلامي.
وقال لوبارا إن “العامل الأساسي لإنحدار الدور القطري في المنطقة يرجع إلى التغير التكتيكي في الموقف السعودي لا سيما تجاه الإخوان”، مؤكداً على أن “المملكة تحتاج إليهم في الوقت الحالي”.
مع ذلك، في هذه المرحلة الحساسة، تبدو الدوحة عازمة على تحقيق توازن يمكّنها من جني كل الفوائد من علاقتها التعاونية على نحو متزايد مع إيران، وفي الوقت نفسه البناء على نجاح الأمير تميم في نزع فتيل التوتر مع المملكة العربية السعودية.
وكان هذا التوازن على المحك بعدما نهب مئات من الإيرانيين السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد. فقد قامت قطر بإستدعاء سفيرها في ايران كبادرة تضامن مع المملكة العربية السعودية، ولكن لم تحذُ حذو البحرين والسودان بقطع العلاقات. علماً بأن قطر كانت الدولة الخليجية الأخيرة التي إتخذت خطوة ديبلوماسية ضد طهران، والتي جاءت عبر بيان من مديرية آسيا في وزارة الشؤون الخارجية – وليس من العائلة المالكة – الأمر الذي يؤكد كيف لعب القطريون ورقتهم بعناية. (والذي لم يغب في المعادلة كان حقيقة أنه في كانون الأول (ديسمبر) الماضي قامت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق بأسر فرد من العائلة المالكة في قطر، الأمر الذي دفع بالدوحة إلى تجنب الإفراط بإستعداء إيران).
فيما يتصاعد التوتر بين الرياض وطهران، مسبّباً توترات طائفية في منطقة الشرق الأوسط ليصل إلى أعلى مستوياته منذ الحرب بين إيران والعراق، فإن أضغر الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي مثل قطر تستمر بالشعور بالحرارة. والسؤال الذي يُطرح هنا: إلى أي مدى يمكن أن تستمر قطر في الموازنة بين مصالح المملكة العربية السعودية والإيرانية التي تتعارض بشكل جذري من دون إختيار أحد الجانبين؟ فيما تواصل قطر إنضمامها إلى السعوديين في شن حروب بالوكالة ضد إيران في سوريا واليمن – وفي الوقت نفسه تعزيز الحوار مع طهران بعد رفع العقوبات والتعاون في قطاعات الطاقة الخاصة بهما – من المرجح أن تترك الدوحة كلاً من الرياض وطهران في دائرة التخمين حول خطوتها التالية. ولن يكون أيٌّ منهما مسروراً تماماً مع سياسة خارجية مستقلة نسبياً لقطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى