الجدليّة حول المصداقيّة السياسيّة

بقلم ميرنا زخريّا*

إنها جدلية “الكَيل بمكيالين” كما يقول اللبنانيّون، وهي جدلية الإزدواجية في المعايير السياسية كما يصفها المحلّلون؛ ما يؤدي إلى تصدّعات وإنشقاقات وطنية وإقليمية ودولية، في مختلف النواحي الإقتصادية والأمنية وحتى الدينية، وذلك كله تحت شعارات تبريريّة على شاكلة: الغاية تُبرر الوسيلة والسياسة هي فنّ الممكن. فهل السياسة هي لعبة لتحقيق الغايات والأرباح الشخصية تحت غطاء نبيل عنوانه الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية والعمومية؟ بالطبع لا، فالسياسة هي رعاية شؤون الأمة جمعاء داخلياً وخارجياً، ما يفترض بالشخص السياسيّ أن يكون على قدرٍ عالٍ من المسؤولية والمصداقية الفرديّة.
من غير المنطقي أن نتوقّع من السياسيّ أن يلبس ثوب القدّيس ولا ثوب النبيّ، لكنْ في الوقت ذاته، لا هو بالأمر المقبول أن يكون مُراوغاً بإمتياز ولا هو بالأمر المعذور أن يكون لعوباً بإنحياز. إن تسيير شؤون الوطن والمواطن يتطلب مُستوى مُحترماً من المصداقية السياسية التي لا يتوانى أصحابها عن الإعتراف بالخطأ في حال حصل، بدل الدفاع عنه وتبريره بُغية المحافظة على المراكز والموارد الخاصّة. أما الإزدواجية في المواقف فهي تخلق جدلية عند المواطن، مصدرها كمّ هائل من التصريحات المتضاربة ببعضها البعض، حيث كل سياسيّ يُفسّر على هواه وبحسب مطامح ومصالح الفئة التي يُمثلها أو ينتمي إليها، لتكرّ سبحة الإصطفافات والتراشقات (بين الطوائف، والأحزاب، والدول، وحتى الشخصيات)، كل جهة توجّه سهامها وإتهاماتها للجهة المقابلة، ما يضع المواطن في حيرة، بلْ ما يجعل من الحيرة عماداً لكل الأسئلة ولكل الأجوبة.
يُعلل التفسير النفسي ما تقدّم إلى تضاربٍ واضحٍ بين “الطمع والطموح”، حيث تتجلى آفة الإنتهازية (التي هي مرض سُلوكي يُصيب العديد من السياسيين، تماماً كما الحزبيين والإداريين)، وذلك طمعاً بالمنصب الذي يُشبع الطمع اللامحدود. وعليه، نلحظ أن السياسيّ الإنتهازي: من جهة أولى، يلوم الجميع ويُبرر نفسه أي أنه يُحمّل الآخر وزر الفساد فيما يتفرّد حصريّاً بالقبض على الحل في يده من دون غيره؛ ومن جهة ثانية، ينتقل بسرعة من معارضٍ إلى موالٍ أي أنه يتلوّن بين موقفٍ داعمٍ وآخر رافضٍ، ذلك أنه ينتهز الفُرص سعياً وراء إشباع مصالحه على حساب مبادئه. ما تقدّم يضع علامة إستفهام حول إمكانية الجمع بين كلٍ من “المصداقية السياسية والحنكة الديبلوماسية”؛ ما يضع السياسة في خانة مهن الخداع والتضليل، بنظر معظم الشعوب العربية، لا سيّما تلك التي رسبت: في مجال مقياس درجة إزدهار وإعمار الوطن كما وفي مجال نسبة رخاء وإرتقاء المواطن.
تكاد لا تقع إشكالية في أي من الدول العربية، إلا ويتسارع المواطنون إلى إلقاء الملامة على هذا أو ذاك من المسؤولين السياسيين. هذا الوضع إن دل على شيء فإنما يدل على وُجود أزمة ثقة لا يُستهان بها بين مواطني ومسؤولي بلدٍ ما؛ مواطنون باتوا في عصرنا هذا يرصدون أولى خطوات السياسيين الجُدد، على قاعدة أن “مَن صحّت بدايته، أشرقت أنوار نهايته”، ولتصحّ بدايته وتُشرق نهايته، يتوقّع المواطن العادي أن يلمس المصداقية من خلال المزايا العادية الآتية:
1. الإخلاص: هو ميزة بحدّ ذاتها، وتتضاعف قيمتها وضرورتها حين يكون الفرد سياسياً، ذلك أن قراراته تؤثر في العموم. فتراه ساعتئذ يدرس الملفات والمناقصات من كل الجهات لكيْ يتمكن من تأدية واجبه على أكمل وجه بما يكفل الصالح العام؛
2. التخطيط: ما يضمن التأني في إتخاذ القرارات، بحيث يُرتب الأولويات لكيْ لا يضطر بسبب العشوائية والتسرّع إلى إفشال أو تكرار عملٍ لاحقٍ، بل يكون التعديل عندئذ هو كل ما يمكن أن يطرأ، وذلك بداعي التغييرات الطارئة خلال مرحلة التنفيذ؛
3. الإنتاج: السياسة الحقة تتطلب حسن الإختيار، أما السياسيّ المُحقّ فهو مَن تصبّ خياراته لمصلحة الشعب. لذلك فمنْ غير المطمئن أن يتقدّم بعذر تلوَ الآخر خلال مسيرته، وإلا فما دوره ساعتئذ إن كان وُجوده وغيابه لا يُشكلان فارقاً عند مؤيديه؛
4. التصحيح: على السياسيّ المسؤول أن يجعل المواطن يلمس ولوْ قليلاً من الإرتقاء نحو الغد الأفضل. الإنجازات السابقة وإن كانت ناجحة في حينها، إلا أن المتطلبات والإختراعات في تغيّر مستمر، ما يدعو إلى مُواكبة في التقويم بدل التعليل؛
5. التطمين: من المفترض بالجهات الرسمية أن تؤمّن السلام والإطمئنان للعامة، لذلك، مطلوب من السياسيين الإبتعاد عن المُراوغة وعن إدلاء الطروحات الرمادية التي لا تسمح للمواطن بتمييز الحقّ من الباطل، ما يضعه مُرغماً في حالة ضياع؛
6. التساوي: كثيراً ما يعمل السياسيّ بإنحياز تجاه جهة أو منطقة أو حزب. لكن الحكمة تقتضي حُسن إستعمال السُلطة، لذلك
لا يمكنه أن يكون طرفاً غير عادل وغير مُنصف، إنما عليه أن يتمتع بالمقدرة على حفظ التوازن بين كل مكوّنات المجتمع؛
7. الثبات: ليس من العيب أن يتراجع الفرد عن قراره إذا إستنتج أنه على خطأ أو إذا ظهر له أمراً كان غائباً أو مخفياً. لكنْ في الوقت ذاته، فإن صفة الثبات في الأداء توحي بصوابية في الخيارات ساعة إتخاذ القرارات، ما ينفي الإهمال أو الإستعجال.
ما تقدّم، يُعيد الذاكرة إلى الطرفة الشهيرة التي رواها منذ عشرات السنين رجُل الدولة الإنكليزي ونستون تشرشل الحائز على جائزة نوبل، حين تناول المصداقية السياسية قائلاً: “رأيتُ وأنا أسير في إحدى المقابر ضريحاً كتب على شاهده: هنا يرقد الزعيم السياسي الرجل الصادق؛ فتعجبتُ! كيف يُدفَن الإثنان في قبرٍ واحدٍ”. ولكمْ من بعده، التعقيب أو التأنيب، أو ربّما التأييد.

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى