زمن الجدب

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لم يعد للعقل في زمننا المنكوب مرسى، ولم يعد للحقيقة أشرعة .. فالكل يتاجر بالرؤوس، والكل يشرب خمور الجهالة في أقداح من جماجم الأنبياء … والتجارة لا شك رابحة، وعلى الباحث عن الحقائق المُجرَّدة أن لا ييمم وجهه شطر بلاد العرب، فقد إنتشر فيها وباء الجهل، وتصدّر مجالسها الثرثارون والمتفيقهون والمتشدّقون الذين يهرفون دوما بما لا يعرفون. في زمن يقعد فيه الجميع عن الفعل في إنتظار “غودو”، ويتحدث فيه الجميع عن المسيح الدجّال والمسيح المُنتظَر، يحق لعصابات “الهاغاناه” أن تقتحم عتباتنا المقدسة، ويحق ل”الدواعش” أن يبشِّروا بدين جديد بُعث نبيه بالسيف في زمن خلا من الرحمة ونُزعت منه المروءة وماتت فيه النخوة.
وفي تربة رخوة من الوعي الزائف والدجل الرخيص، تنمو البدع وتترعرع الفتن، ويسير الناس خلف كل ناعق. مع إحتدام المعارك المُقدّسة لنيل شهادة – أي شهادة – يحمل خير أشبال الأرض سلاحاً ليس لهم، ليحاربوا عدواً من أهليهم طلبا لفتحٍ لا يجيء.
ومع إنشغال أصحاب الفتاوى بأشبالهم الآتين من أقاصي المحيط، ومع إنشغال المريدين بأفواه مشايخهم وإشاراتهم المقدسة، تخلو المساجد من الذاكرين، ويؤم الناس أراذلهم، ويتحول النص من القداسة إلى الفكاهة في أفواه لا تميّز النقاط حول الحروف ولا تعرف متى تقف ومتى تتوقف. في زمن هو الأخير بإمتياز، يتحوّل الإنسان إلى مسخ، وتتشوه فيه أجنّة الحكمة، وتنشطر خير أمة إلى فسطاطين أحدهما لقابيل والآخر لقابيل، فلا أحد يبسط يديه لأحد، ولا أحد يريد أن يتخلّى عن وزره الأول لأحد، والكل يقتل من دون رحمة، ويضرب بلا هوادة. والكل يصرخ عند الغدر وعند الخيانة “الله أكبر ولله الحمد”. في وادٍ غير ذي وعي، وغير ذي فهم، وغير ذي فضيلة، نتقدم جميعا نحو الشرك، وكأن الخبثاء قد جعلوا بين أيدينا سداً ومن خلفنا سداً، فلم نعد نبصر، ولم نعد نرى.
في هذا الواقع الذي خيّمت عليه ظلال التخلف، وبداوة الفكرة، صار التجديد ضرورة ملحّة، والتحديث مطلباً وجودياً. لكن التربة التي أنجبت كل هذا الفراغ العقائدي المريع، لم تجد للأسف يداً طاهرة تشذب أشجارها وترعى ثمارها، وتحرث ما جدب منها.
وهكذا، تناوب المغفّلون والسذّج والمُغرضون الجلوس خلف منصّات التوعية فزادوا طين التخلّف بلّة، وأفسدوا الدين من حيث أريد لهم أن يصلحوا، فنفر منهم من تراصوا خلفهم حمية، وتخلّى عنهم من أيّدهم ذا بدء. واليوم يزداد الفراغ الروحي تجذّراً في قلوب ظامئة لم تعرف عن الدين إلا الدماء، ولم تقرأ من المقدس إلا “وقاتلوا”، ولا ترى من محمد إلا السيف والرمح والفرس. فهل يأذن الله بوعي قريب، فيتولى خيار الناس توعيتهم، أم يكلنا الله إلى أقوام آخرين لا يرقبون في عقائدنا إلا ولا ذمة؟ وحده الله يعلم.

• كاتب وصحافي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى