أنابيب الحرب والسلام في شرق البحر المتوسط

فيما تتسابق بلدان شرق البحر الأبيض المتوسط على تطوير حقول الغاز مقابل شواطئها، فإن مشاريع الطاقة الكبرى قد تشكَل وقوداً لفتنة أكثر من وسيلة للسلام، كما يشرح التقرير التالي:

بنيامين نتنياهو: الإفادة من النفط البحري مهما كلف الأمر
بنيامين نتنياهو: الإفادة من النفط البحري مهما كلف الأمر

بيروت – بشير مقبل

تحاول إسرائيل وغيرها من دول شرق البحر المتوسط البدء في تطوير إحتياطاتها الهائلة المُحتملة من الطاقة، ولكن هذه المحاولات قد تحقق مكاسب جيوسياسية أقل مما توقعته الحكومات من القدس إلى القاهرة مروراً بنيقوسيا.
كانت مشاريع الغاز الطبيعي الكبيرة مُعلَّقة في إسرائيل ولبنان وقبرص لأكثر من عام، ولكن إكتشاف حقل غاز “زهر” على شواطىء مصر أنعش الآمال لدى زعماء المنطقة وجعلهم مبهورين بأحلام الطاقة.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام “الكنيست” في الشهر الفائت ان تطوير حقول الغاز البحرية الإسرائيلية أمر حيوي لأمن البلاد والبقاء على قيد الحياة. زعماء قبرص، الذين حثّهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ينظرون إلى الغاز الطبيعي كحافز لتوحيد الجزيرة المُقسَّمة. وتأمل مصر من جهتها بأنها سوف تجد في إكتشافها الكبير تحريراً من الحاجة إلى إستيراد أي غاز من إسرائيل وجعلها مكتفية ذاتياً بالنسبة إلى الطاقة مرة أخرى.
“هذا هو” تأثير زهر”، إنه يقود وينعش المصالح في جميع أنحاء المنطقة”، قالت منى سكرية، المؤسسة المشاركة ل”آفاق الشرق الأوسط الإستراتيجية” (Middle East Strategic Perspectives)، وهي شركة إستشارات للطاقة في بيروت.
على الرغم من ذلك، فإن الصراع على موارد الطاقة، وخصوصاً في هذا الجزء من العالم، يُشعل الإحتكاك أكثر من الوئام. لقد وصلت قبرص وتركيا تقريباً إلى حافة الحرب حول إحتياطات الطاقة البحرية. ولا تزال مصر وإسرائيل تتصارعان على الغاز الطبيعي الذي كانت تصدّره القاهرة إلى الدولة العبرية؛ فقد رفضت مصر حتى الآن دفع تسوية التحكيم البالغة 1.8 مليار دولار لوقفها صادرات الطاقة. كما أن إحتمال إستيراد الغاز من إسرائيل قد أثار إستياء الكثير من الأردنيين؛ تعهد نائب أردني “العودة إلى ركوب ظهر الحمار” قبل إستيراد الغاز الإسرائيلي.
الواقع ان الذي يزيد من تعقيد جهود المنطقة للإستفادة من ثرواتها في مجال الطاقة يكمن في ضعف سوق الغاز. إن أسعار النفط والغاز الطبيعي منخفضة جداً، مما يجعل الإستثمار في المشاريع الكبيرة في هذا القطاع أقل جاذبية. كما أن إنخفاض الطلب والإمدادات الوفيرة يلقيان أيضاً بظلالهما ويلبّدان الإنقشاع في بلدان مثل إسرائيل وقبرص اللتين تأملان بأن تصبحان من الدول الكبيرة المصدِّرة للغاز.
“في منطقة البحر الأبيض المتوسط، نفعل ذلك الى الوراء – نبدأ بفرز وعدّ جميع المزايا الجيوسياسية المُحتملة ولا نفكّر في السوق الفعلية. من يريد الغاز؟ هل هناك طلب؟”، قالت بريندا شافير، الخبيرة في شؤون الطاقة في البحر المتوسط في جامعة جورجتاون الأميركية.
في محاولة لدفع مشروع للغاز الطبيعي مثير للجدل قبالة الساحل الإسرائيلي، قال نتنياهو للمشرّعين الإسرائيليين في الشهر الفائت، يجب أن يتم الإنتهاء من المشروع على الرغم من أن مسؤولي مكافحة الإحتكار في البلاد حاولوا سحق المشروع قبل عام بسبب مخاوف المنافسة. لقد لعب رئيس الوزراء الإسرائيلي على الفوائد الجيوسياسية التي يجلبها إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي للبلاد، واصفاً المشروع بأنه “ضروري لمستقبل إسرائيل”. إن تصدير الغاز إلى دول مثل الأردن ومصر، قال، سيجلب فوائد إقتصادية وأمنية.
“بالطبع، إن توريد الغاز إلى تلك البلدان يضيف طبقة أخرى من الإستقرار الذي هو في مصلحتنا حتى عندما يكون في مصلحتها”، قال نتنياهو للجنة الشؤون الإقتصادية في الكنيست في 8 كانون الأول (ديسمبر) الفائت.
إنها حجة لوّح بها مراراً وتكراراً الديبلوماسيون الأميركيون، الذين يتحدثون عن “أنابيب السلام” أو عن إستخدام العلاقات في مجال الطاقة لتحسين العلاقات بين الدول. في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت وصف نائب وزير الخارجية الأميركي طوني بلينكن منطقة شرق البحر المتوسط بأنها “واحدة من ألمع الأضواء في الجغرافيا السياسية للطاقة”، مضيفاً بأن إنتاج وتصدير الطاقة في هذا الجزء من العالم سوف يكونان “أداة للتعاون، لتحقيق الإستقرار، والأمن، ومزيد من الإزدهار”.
بلينكن وغيره من كبار المسؤولين الأميركيين يعتقدون بأن إكتشافات الغاز الجديدة الكبيرة قد تكون ذات أهمية خاصة بالنسبة إلى مستقبل قبرص، التي تم تقسيمها بصعوبة بين اليونان وتركيا لعقود من الزمن. وقال بلينكن بأن إكتشافات الطاقة قد أضافت دفعة جديدة إلى محادثات إعادة توحيد الجزيرة. وقال كيري خلال زيارته لنيقوسيا في الشهر الفائت أنه من خلال إستغلال حقول الغاز البحرية، يمكن أن يصبح هذا البلد “محوراً تجارياً إقليمياً للطاقة”. ربما يكون ذلك رأياً مبالغاً فيه: إن إحتياطات الغاز البحرية في البلاد ليست سوى جزء صغير مما تم العثور عليه قبالة سواحل إسرائيل ومصر.
من ناحية أخرى، إن الاكتشافات الكبيرة من النفط والغاز الطبيعي نادراً ما تكون بمثابة مواد تحفيز للسلام. بدلاً من ذلك، يمكن أن تؤدي الإكتشافات والتجارة في مجال الطاقة في كثير من الأحيان إلى تفاقم التوترات الطويلة الأمد بين الجيران، كما حدث مراراً وتكراراً بين روسيا وأوكرانيا، وروسيا ودول البلطيق. كما أن تركيا وقبرص، مثل الصين وفيتنام، إنخرطتا في تهديدات بحرية في العام الماضي بسبب خلافات بشأن ودائع الطاقة البحرية. واالعراق بدوره هو على خلاف مع إقليم كردستان في الشمال على إحتياطات وصادرات النفط.
“ليست هناك سابقة لفكرة “أنابيب السلام””، قال شافير. مضيفاً: “لم يسبق أن تم حل أي خلاف أو صراع بسبب جاذبية تجارة النفط والغاز”.
في الواقع، على الرغم من أن نتنياهو تحدث عن آفاق صادرات الغاز الإسرائيلي إلى الأردن ومصر، فإن إحتمالات مثل هذه الصفقات، والانسجام الإقليمي، تبدو قاتمة. فقد جمّدت مصر محادثاتها بشأن المشتريات المستقبلية من الغاز الإسرائيلي بسبب نزاع تجاري متزايد حول صادرات الغاز المصري إلى إسرائيل، في حين أن المشرّعين الأردنيين – الذين يعارضون إلى حد كبير الإعتماد على الطاقة الإسرائيلية – قالوا بأن ليست هناك محادثات جارية لشراء الغاز الإسرائيلي.
كما صرح نتنياهو أمام المشرّعين في “الكنيست” أن تحوّل إسرائيل إلى دولة مصدِّرة للطاقة من شأنه أن يجعل من الصعب على دول أخرى عزل إسرائيل إقتصادياً. “القدرة على تصدير الغاز تجعلنا في مأمن أكثر من الضغوط الدولية. لا نريد أن نكون عرضة للمقاطعة”، قال.
تل أبيب ليست وحدها في سباق لتطوير الحقول البحرية. على الرغم من وفرة الغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم والأسعار المنخفضة اليوم، فإن دول المنطقة تسعى جاهدة إلى إستغلال إكتشافات كبرى في مجال الطاقة. تحاول مصر وشركة “إيني” الإيطالية دفع عجلة التنمية في حقل “زهر” البحري وتأملان بإستخدام الغاز لوقف أي واردات في المستقبل من إسرائيل. وقد أثار الإكتشاف المصري الآمال في قبرص بأن تكون مياهها تختزن المزيد من الغاز الطبيعي أكثر مما إعتُقد سابقاً، ولا يزال القادة هناك يطمحون إلى تحويل الجزيرة الى مركز إقليمي للطاقة. حتى لبنان، حيث تضررت إحتياطاته البحرية الكبيرة المحتملة جراء الجمود السياسي، فمن الممكن أن يفتح قريباً الباب أمام الإستثمار الأجنبي بعد الإنتخابات الرئاسية المقبلة، على حد قول سكرية.
أحد أسباب التفاؤل المستمر: تركيا. إن سعي أنقرة إلى تنويع وارداتها من الطاقة يحتمل أن يشكّل حافزاً إضافياً لغاز شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك التقارب مع إسرائيل، وحتى مع قبرص.
تتطلع تركيا، التي تٌعتبر واحدة من أكبر الدول المستخدمة للغاز الطبيعي في أوروبا، إلى تنويع مورِّدي الطاقة إليها، إذ أنها تحصل على ما يقرب من 60 في المئة من إحتياجاتها من الغاز من روسيا. ومنذ أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، عندما أسقطت طائرة مقاتلة تركية قاذفة “سوخوي 24″ روسية، تصاعدت حدة التوتر بين أنقرة وموسكو، الأمر الذي بات يهدد صفقات الطاقة بين البلدين.
لقد أدّت تجارة الطاقة بين تركيا وكردستان العراق في السنوات الأخيرة إلى تعزيز وتوثيق العلاقات مع أربيل، على الرغم من عداء أنقرة التاريخي للأكراد الإنفصاليين. وقال نتنياهو بأن إسرائيل متورّطة في محادثات مع تركيا بشأن إمكانية تصدير الغاز الإسرائيلي، على الرغم من أن أنقرة إشترطت على إسرائيل إنهاء الحصار على قطاع غزة قبل أن يتم التوصل إلى أي إتفاق. كما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن إستعادة العلاقات بين البلدين ستكون أمراً جيداً ل”المنطقة كلها”.
إن العطش إلى الطاقة في تركيا يمكن أن يؤدي بها إلى رفع غصن الزيتون في قضية قبرص التي قُسِّمت منذ أربعة عقود بين الجنوب اليوناني والشمال التركي. لكن المحادثات لتوحيد الجزيرة قد حققت تقدماً كبيراً، ويمكن أن يصل المتحاورون إلى إتفاق مبدئي بحلول الربيع المقبل.
الآن تبدو الصورة كما يلي: مصر صارت لديها مصادرها الخاصة الوفيرة من الغاز المحلّي، وقبرص تبحث في جميع الأنحاء للعثور على عملاء جدد، وتركيا المحتاجة تقبع في الجوار.
“على الورق، تبدو تركيا بأنها الوجهة الأكثر منطقية لصادرات الغاز القبرصي، ولكن السياسة لا تزال مُعقدة للغاية”، تقول سكرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى