هدى عيد تضيء على المفاسد الإجتماعية وعيوب السلطة لتعرّي الواقع وتفضح زيفه

تبحث هدى عيد في روايتها الجديدة، “سلطان وبغايا” الصادرة عن دار الفارابي 2016، عن سؤال الأخلاق من دون وعظيّة، وعن جواب القيم من دون قولبة نمطيّة، وعن العدالة والمحاسبة من دون مباشرة. فتنتقل من موقف الباحث الى موقف الكاشف المغيّر، في وقفة أمام الذات، لضرورة الفصل بين الحقيقة والوهم عند “إختلاط البدايات بالنهايات”.

غلاف كتاب "سلطان وبغايا"
غلاف كتاب “سلطان وبغايا”

راجعته الدكتورة ناتالي الخوري غريب*

في كلّ رواية جديدة، تدهشك هدى عيد بتقنيّة سرديّة جديدة، وإتقان تواطئها مع تعدّد الرواة-الشخصيات، في لعبة تطويع الزمن وتكسّره بنبش الذاكرة في بال من يريد محوها، من أجل رسم بدايات جديدة، مع غلبة تقنية الإسترجاع التام في مخالفة سير السرد لخطّ الزمن، ترجّحَ بين الإسترجاع الموضوعي والذاتي لتسليط الضوء على ما غمض من حياة الشخصية الأساسيّة. والرواة جميعهم ضحايا تدور في فلك شخصيّة أساسيّة هي البطل، “سلطان زعتر” الغائب عن الرواية في زمن سردها، الحاضر في كل أحداثها وحكاياتها، من خلال أحاديث ضحاياه عنه في ماضيهم وتحكّمه في رقابهم، على تسلسل زمنيّ لكلّ ضحيّة تروي حقبة معيّنة من حياته معها. شخصيّة أرادتها الروائية “قنبلة متفجّرة” ترسم مصير من حولها، تمثّل حركيّة الفساد في مقابل سكون الخضوع عند الضحايا-البغايا، وإستسلامهم للقدر الذي صنعه لهم سلطان.
هدى عيد، في روايتها السابعة، “سلطان وبغايا”، تبحث عن المختلف والجديد في الموضوعات الإجتماعيّة، لتقترف تعرية الواقع وتعرية زيفه، في الإضاءة على المفاسد الإجتماعيّة ومعايب السلطة وأهلها، والمآزم النفسيّة، في ربطٍ بينها وبين الرواسب اللاواعية، فتفضح العلائق بين الناس التي تقنّعت لتستر عهرها (الناس)، وتبيّن الإستغلال والقهر بين المستبدّ والضحايا، من النساء والفنانين والتجّار وغيرهم.
الإستبداد هنا تمثّل بالبطل الماكر “الثعلب” الملقب ب”سلطانوف” أو الجاسوس” أو”سيّد الدولار”، الرجل الفاسد،”الشيطان بأسماء كثيرة”، الإستغلاليّ والنموذج المتسلّط للذكورة المعنّفة، أمّا زوجاته الستّ، فهنّ الصورة النمطيّة عن النساء الخاضعات لمزاجه وأقدارهنّ، المعنّفات اللواتي رسم لهنّ مستقبلهنّ من دون أن يبدين ثورة أو تمرّدًا، على تنوع قصصهنّ، بإستثناء الأخيرة التي أحبّها كثيرًا ربّما لأنّه وجد فيها مرآته في حقاراته وإستغلاله، ما جعله يعيد النظر في سواد ماضيه، فينتهي كما إنتهى والده، ممحو الذاكرة. وقد تكون الذاكرة عند الشخصيّات كافّة من دون إستثناء هي البطلة، هي الذاكرة التي تريد أن تغفر لذاتها خطاياها وذلّاتها، لتكتب بداية جديدة في صفحة جديدة.
أمّا المرويّ له في داخل كون القصّ فهي زهيّة عصام زعتر إبنة أخيه الوحيدة التي تحبّه وتبحث عنه، وكأنّها المحقّق أمام الشهود جميعًا، والمفارقة أنّها تبحث عنه بإسم الإنسانيّة وهو الذي عُرف على ألسنة جميع من قابلتهم من عارفيه بأنّه عديم الإنسانيّة. هي التي تجمع الأخبار عن عمّها، عبر جميع الوسائل الممكنة، الجريدة، مواقع التواصل الإجتماعي، الهاتف، المقابلات؛ نعرف حزنها على عمّها وكيف تدافع عنه، من دون أن نسمع صوتها. بطريقة ما، نشعر أنّ زهيّة تمثّلنا، نحن الباحثين عن حقيقة نريدها أن تخالف كلّ ما نسمعه، لانّها لا تتوافق ورؤيتنا مع من حفرنا له في قلوبنا محبّة لا تُمحى.
ولكلّ إمرأة من نساء سلطان حكاية تمثّل فترة من حياته، وجميعهنّ شخصيّات مجروحة، واقعية غير رومانسية، غير ثائرة ولا متمرّدة، وتستخدمهن الكاتبة، أولاً لتوضّح لنا مسيرة سلطان، وعلاقتهنّ به، وكيف تلاعب بمصائر حياتهنّ، وثانيًا لتعالج عبرهنّ مسيرة التطوّر الإجتماعي والفكري في تحوّلات الشخصيّات، وثالثًا الأحداث الناتجة من تأزّم العلاقات التي تُبنى على أسس مأزومة وهشّة، من أجل معالجة القضايا الإجتماعيّة الملحّة منها البيوت المشبوهة وتورّط شرطة الأخلاق ورجال السلطة، وإجبار الرجال زوجاتهنّ على الإجهاض أو رفضهم إنجاب البنات. وتبقى المسألة الأبرز هي الإضاءة على تعنيف المرأة على أنّه حالة موروثة مقبولة. ف”حسيبة” مثلًا، تمثلّ أقصى حالات القهر الإجتماعي التي تحفر في وجدان الإنسانيّة، تُشترى من أبيها ليؤتى بها كخادمة تُظلم وتُحقّر وتُعنّف وتُغتصب، ليكتمل مشوار عمرها بحثًا عن خلاص، بما لم ترسم له أو تخطّط، وهي أولى زوجات سلطان الذي إستغلّها وباعها أيضًا، وكان إنتقامه الأوّل بأن هجرها وباعها قبل أن تهجره كما فعلت والدته. وبذلك تبحث الروائيّة في قاع الذاكرة عند من شُوّهت طفولتهم، ظلمًا وهجرانًا وحرمانًا، فأرادوا الركض وراء المجد الباطل ظنًّا منهم أنّهم يصنعون الحياة، فكانوا صنّاع الموت لذاتهم أوّلًا ولكلّ من صودف مروره في حياتهم.
ويبقى أن نقول إنّها رواية الإحتجاب والظهور، رواية الخطيئة والعقاب، رواية الضمير المنتظر عند مفارق كشح الضباب عن الذاكرة التي تريد أن ترث النسيان، صفحًا عن ذاتها، في توارث “الزهايمر”، هي رواية البحث في مسبّبات الشرّ الطالع من رواسب لا واعيّة وممارسة أعمال الفساد الواعية، في ظلّ أنظمة تمرّرها وتبرّرها، رواية البواطن الشريرة المتستّرة بأعمال البرّ والخير، رواية المساومات والتسويات في إطار القهر والإستغلال، من أجل البحث عن العدالتين.

• أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى