ما زالت المساءلة هي الأساس لـ”الربيع العربي”

لندن – هاني مكارم

في بداية الإنتفاضات العربية في العام 2011، كان هناك شيء واحد واضحاً على الفور. إذا كانت المجتمعات العربية المضطربة فشلت في جعل المؤسسات الأمنية والعسكرية أكثر خضوعاً للمساءلة، فإن ثوراتها قد تفشل. وما رأيناه منذ ذلك الحين يؤكد هذا.
في بلدان مثل ليبيا وسوريا، كانت هناك ديناميكية منفصلة، ولكنها ذات صلة، في اللعب. لقد أظهر إنهيار نظام معمر القذافي في ليبيا بأن المخاطر الناجمة عن إنعدام المساءلة لم تكن كبيرة، بقدر الكارثة التي يمكن أن تتبع فجأة من فراغ أمني، عندما لم تُلحَظ أحكام أو إستراتيجية للإنتقال إلى نظام أكثر إستقراراً.
في سوريا، أدرك أنصار بشار الأسد في وقت مبكر أن مفتاح بقائه على قيد الحياة هو الحفاظ على الوحدة في الأجهزة الأمنية التي حافظت على بقاء حكمه لسنوات. حتى عندما بدأ الجيش السوري يتداعى من القتل والفرار فقد تمكّن التسلسل الهرمي الأمني أن يبقى أكثر أو أقل موحّداً، تاركاً جوهر النظام سليم.
في مصر، كانت الصورة أكثر تعقيداً. عندما حدثت الثورة ضد نظام حسني مبارك، كانت موجهة في المقام الأول ضد الأجهزة الأمنية التي تسيطر عليها وزارة الداخلية. فقد إعتبر الشعب الجيش كثقل موازن لها، وهي قراءة ذكية للحالة التي نمت على مدى حوالي أربعة عقود في مصر.
في كتاب رائع بعنوان “جنود وجواسيس ورجال دولة: طريق مصر نحو الثورة”، قدّم عالم الإجتماع المصري حازم قنديل قراءة تاريخية للعلاقة بين أجهزة الأمن في مصر – وخصوصاً العلاقة بين القيادة السياسية والجيش، وبين الجيش وقوات الأمن المدنية في وزارة الداخلية.
بالنسبة إلى قنديل يمكن فهم الكثير عن فترة ما بعد ثورة 1952 المصرية من دراسة الديناميكية بين هذه المؤسسات. فكما أنشأ جمال عبد الناصر الإتحاد الإشتراكي العربي، وهو حزب سياسي، كثقل موازن لسلطة الجيش، والذي وضعه تحت زعامة صديقه ومنافسه عبد الحكيم عامر، فقد أنشأ في وقت لاحق كلٌّ من أنور السادات ومبارك الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية لإحتواء الجيش.
من ناحية أخرى، فقد أدّى إشمئزاز المصريين من عجز محمد مرسي في العام 2013 إلى مظاهرات حاشدة موجّهة ضده، وإلى دعوة الجيش لإبعاده من منصبه. ولبى الجيش النداء، كما يقول قنديل، معيداً هيمنته السياسية والعسكرية على البلاد. وتعززت هذه الهيمنة من طريق إنتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً في العام 2014، ومن الذي أنتجته الإنتخابات البرلمانية الحالية.
في جميع الحالات كانت إجراءات، أو عدم تدخل، الأجهزة الأمنية والعسكرية هي التي تحدد النتيجة النهائية للإنتفاضات. فقط في تونس، حيث كان الجيش صغيراً نسبياً، لم تكن أجهزة الأمن حاسمة في تشكيل التطورات السياسية. ولكن حتى هناك، فإن إقرار قانون مكافحة الإرهاب في تموز (يوليو) الماضي، في أعقاب هجمات “باردو” وسوسة، أثار مخاوف من أن يؤدي التشريع إلى تقييد الحريات.
القوة الهائلة للمؤسسات الأمنية والعسكرية – التي يمكننا أن نضيف إليها القضائية – حدّدت إلى حد كبير معالم العالم العربي في ما بعد الاستعمار. هناك عدد من الأسباب لذلك، ليس أقلها أن هذه المؤسسات راكمت قوة عظمى أساساً لضمان بقاء النظام.
وهناك أيضاً حقيقة أن أجهزة الأمن عكست الواقع الإجتماعي في كثير من الأحيان في مرحلة ما بعد الإستعمار. ولا سيما خلال خمسينات وستينات القرن الفائت، حيث كانت كأدوات للنهوض الإجتماعي لهؤلاء الذين كانوا على الهامش الإجتماعي.
لقد فَهِم النظامان في ليبيا وسوريا الآثار المترتبة على ما فعلوه في العام 2011 عندما أثارا الحروب الأهلية للإحتفاظ بالسلطة لمّا إنتفض السكان ضدهما. لقد إعتقدا بأن الحرب لن تؤدي إلّا إلى زيادة التضامن داخل صفوف النظام من طريق زيادة الإستقطاب؛ ولكن أيضاً فيما الأمن ينهار فإن الفراغ الذي سيعقب ذلك كان يعني الفوضى، مما يجعل النظامين يبدوان مستسَاغين تقريباً في المقابل.
هذا التكتيك فشل في ليبيا، ولكنه قد نجح في سوريا. التركيز الدولي على “داعش” قلب تماماً النظرة تجاه نظام الأسد، لدرجة أن المسؤولين الأميركيين قد إعترفوا بأنه إذا إنهار النظام بسرعة كبيرة جداً، فإن الجماعات الجهادية ستسيطر على البلاد. وغني عن القول أن واشنطن قد وقعت في فخ أقدم خدعة في كتاب الأنظمة الأمنية: تصوير أنفسها كبدائل أفضل للمصائب التي خلقتها.
تطمح مجتمعات ما بعد الثورة إلى الإستقرار بعد فترة من الإضطرابات. والمؤسسات الأمنية، على العكس من ذلك، تتطلب توترات وتهديدات بلا نهاية لتبرير وجودها والقواعد التي تفرضها. لهذا السبب لكي تنجح الثورة، يجب، أولاً، أن يُحل هذا التناقض بين أهداف كلا الجانبين.
في الديموقراطيات هناك وسائل للمساءلة للحفاظ على الأجهزة الأمنية في الخط المستقيم. ولكن في الكثير من المؤسسات الأمنية في المنطقة فإن المساءلة ببساطة لا وجود لها، الأمر الذي يسمح لأدوات القمع ان تنتعش. وسوف تستمر هذه المعضلة في تحديد العالم العربي بشكل عميق لمدة طويلة … طويلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى