كيف أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” الحرب على العالم

ولّدت حالة الإضطراب الشديد في كل من سوريا والعراق فراغاً إجتماعياً – سياسياً، حيث تمكّنت المجموعات الجهادية من الإزدهار. وقد أثبت تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) أنه الأقوى والأكثر ديناميكية بين هذه المجموعات، من خلال سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي في سوريا والعراق. وبعد فترة وجيزة على إلحاق الهزيمة بالقوات العراقية وإحتلال الموصل في حزيران (يونيو) 2014، أعلن “داعش” بجرأة عن إقامة الخلافة وغيّر تسميتها لتصبح ما نعرفه اليوم ب”الدولة الإسلامية”. كيف أصبحت الدولة الإسلامية قويةً إلى هذا الحدّ؟ ما هي أهدافها وخصائصها؟ وما هي أفضل الخيارات المتاحة لاحتواء هذه المجموعة وهزيمتها؟ خصوصاً بعد الهجمات الأخيرة في بيروت وباريس.

إنفجار الطائرة الروسية في شرم الشيخ: هل يغير سياسة موسكو؟
إنفجار الطائرة الروسية في شرم الشيخ: هل يغير سياسة موسكو؟

دمشق – محمد الحلبي

ظهرت “الدولة الإسلامية” على مدى الأسابيع الماضية كواحدة من الدول الراعية للإرهاب الأكثر عدوانية في العالم. إذا صدقت إدعاءاتها، فقد قام أعضاؤها بهجمات متطورة ضد دولتين من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي – فرنسا وروسيا. كانت المذابح التي وقعت في باريس يوم الجمعة في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري أسوأ هجوم عرفته فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ كما أعتبر إسقاط الطائرة الروسية المدنية بعد إقلاعها من مدينة شرم الشيخ المصرية في 31 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، واحداً من أسوأ الهجمات الإرهابية على مدنيين روس منذ سقوط الإتحاد السوفياتي. من ناحية أخرى، قامت “الدولة الإسلامية” أيضاً بتفجيرات إنتحارية متزامنة في بيروت في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، مما أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين في منطقة برج البراجنة التي يسيطر عليها “حزب الله”.
لم يتعوّد العالم إلّا أخيراً على التفكير في “الدولة الإسلامية” كدولة فعلية، ناهيك عن دولة راعية للإرهاب. بالنسبة إلى معظم تاريخه، كان تنظيم “داعش” جماعة إرهابية أو متمرّدة. ولكن فيما نمت قوته، بدا أكثر أشبه بحكومة. فبالإضافة إلى أنه إحتكر العنف في المناطق التي يسيطر عليها، فقد لمّ القمامة وجمع الضرائب. وقد أطلق عليه بعصهم بأنه “شبه دولة” و”دويلة”. وبغض النظر عن المصطلحات، فإنه مجرد جماعة متمرّدة الآن – ولديه الملايين من الدولارات تحت تصرفه لتمويل مغامراته العسكرية في الداخل والخارج.
على الرغم من إلتزام جماعة “الدولة الإسلامية” إيديولوجية جهادية عالمية لتنظيم “القاعدة”، التي تحثّ وتدعو إلى هجمات على الغرب، فإنها أنفقت معظم أموالها على بناء دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لذا يمكن للمجتمع الدولي أن يطمئن بعض الشيء من التركيز المحلي ل”الدولة الإسلامية” – إنه من الأفضل إنفاق المال على البنية التحتية من التركيز على تمويل مؤامرات إرهابية في الخارج.
ولكن إذا كانت “الدولة الإسلامية” أضافت الآن العمليات الخارجية إلى إنفاق حكومتها، كما تشير الهجمات الأخيرة، فإن الإحتمالات مخيفة. لديها ثروة دولة، وطموح قوة إمبريالية، وقائمة أعداء تتضمّن أسماء الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. إنها تنظيم “القاعدة” لكن مع ضمير أقل، وعدد أكثر من القوى العاملة والمجندين، وطريقة أسرع لجمع المزيد من المال.
يُقدّر عبء الحرب الذي تتحمله “الدولة الإسلامية” بمليار إلى ملياري دولار سنوياً. طبعاً هذا لا يساوي موازنة الدفاع الأميركية، إلّا أنها أكثر ثراء من بعض الدول الراسخة مثل ميرانمار (بورما) وموريتانيا. وإيراداتها بالتأكيد قزّمت تلك التي كان يجنيها تنظيم “القاعدة” الذي عاث حتى الآن أكثر بكثير خراباً وفساداً في الخارج بأموال أقل بكثير من منافسته الجهادية.
الدول الراعية للإرهاب تدعم عادة جماعات بالوكالة لأنها لا تريد أن تُعرَف رعايتها، خوفاً من أن الضحايا المستهدفين سوف يردّون بضربات قوية. مثالٌ على ذلك طائرة لوكربي فوق إسكتلندا، التي إتهم بتدبيرها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
ولكن ليس هذا ما يحدث هنا. لقد تبنّت “الدولة الإسلامية” بوقاحة الهجمات في شرم الشيخ وبيروت وباريس، حتى لو أن المخابرات لم تتمكن بعد من التأكيد من أن التنظيم الإرهابي قد وجّه هذه العمليات في الواقع. مع ذلك، ليس هناك شك في أن “الدولة الإسلامية” تريد أن يعرف أعداؤها الخارجيون الأقوياء أنه يمكنها إلحاق خسائر فادحة بسكانهم المدنيين. لقد فعلت الولايات المتحدة الشيء نفسه على نطاق أكثر بشاعة من ذلك بكثير للمدنيين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي أدّى إلى تأمين الإستسلام غير المشروط لليابان. إذا كانت ل”الدولة الإسلامية” مقاتلات نفاثة وذخائر، فإنها ستفعل الشيء نفسه – وبدلاً من ذلك فإنها تستخدم ذخائر إنسانية موجّهة.
إن الأمر سيكون مقلقاً أكثر تقريباً إذا إتضح أن “الدولة الإسلامية” لم توجّه هذه الهجمات. إن الخلايا المستقلة والمتطرفين التابعين لها الذين لديهم القدرة على التسبب بمثل هذا الدمار سيكون من الصعب وقفهم لأنهم لا يتلقون التعليمات التي يمكن إعتراضها.
ليس من الواضح ماذا تأمل “الدولة الإسلامية” من التحقيق بواسطة هذه الهجمات. إذا كانت تهتم بالإستمرار في السيطرة على أراضيها، فإنها فكرة سيئة لإستعداء أقوى أعدائها أو زيادة عدائهم أكثر- خصوصاً في حالة روسيا و”حزب الله”. ربما تعتقد أن هذه الهجمات تشكل ردعاً لمزيد من الإعتداءات على أراضيها، أو ربما كانت تريد تسجيل إنتصارات دعائية لكسب المزيد من المجنّدين. أو ربما تعتقد بخطابها المروّع وتحاول إثارة معركة نهاية العالم. وكما حدث بعد هجمات 9 / 11/ 2001 مع “القاعدة”، قد لا نعرف منطقها الحقيقي وماذا تريد فعلياً إلّا بعد سنوات عدة.
مع ذلك، لا ينبغي لنا أن نكون سريعين جداً لعزو التفكير المتهوّر إلى “الدولة الإسلامية”. لقد فكّر قادتها طويلاً حول إستخدام العنف وقيمة إخافة الناس العاديين. خلال العقد الماضي، نفذت هجمات قاتلة ضد المدنيين العراقيين لإستفزاز الحكومة العراقية والمبالغة في رد الفعل أو لتخويف السكان المحليين لقبول حكمها. حتى أن حملتها الإرهابية إمتدت إلى الدول المجاورة للعراق: سابقها أو سلفها، تنظيم “القاعدة” في العراق، قصف حفل زفاف في العام 2005 في عمّان لمعاقبة الحكومة الأردنية على عملها مع الأميركيين لتحقيق الإستقرار في العراق.
بالنسبة إلى مؤسس تنظيم “القاعدة” في العراق، أبو مصعب الزرقاوي، إن إخافة الأعداء والخصوم كانت إستراتيجية سياسية أكثر فعالية بكثير من محاولة كسبهم. في حين دعا تنظيم “القاعدة” المركزي إلى كسب قلوب وعقول الجماهير المُسلمة، فقد أراد الزرقاوي تخويفهم وإستقطابهم. إن مهاجمة المدنيين هو السبيل الأكثر فعالية للقيام بذلك. ويتفق ورثته فكرياً في “الدولة الإسلامية” معه في ذلك.
الواقع أن هذه الفكرة قد فُصّلت في واحد من الكتيبات الإستراتيجية المُفضّلة ل”الدولة الإسلامية”: “تنظيم الوحشية”. هذا الكتيب، الذي صدر خلال السنة الأولى من الحرب في العراق، يعرض خطة لإعادة تأسيس إمبراطورية إسلامية عالمية أو خلافة. الكاتب المجهول، الذي يُعرَف بإسمه الحركي أبو بكر ناجي، يدافع عن مهاجمة المدنيين في أراضي العدو لردع حكوماتهم عن التدخل في مشاريع بناء الدولة الجهادية أو يدفعها إلى المبالغة في رد الفعل، وبالتالي إستنفاد أنفسها. ينبغي وقف القيود الإسلامية المعتادة على الحرب، كما يقول، بحيث يمكن للجهاديين محاربة النار بالنار.
نحن نعرف الآن أن تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي إنبثق عن تنظيم “القاعدة” في العراق، تاقَ إلى تنفيذ هجمات خارج العراق عندما كان أسامة بن لادن على قيد الحياة. على وجه الخصوص، كان يريد إستهداف إيران والمملكة العربية السعودية لأنهما كانا يعملان ضده في العراق. في خلاف علني في العام الماضي بين زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري والناطق الرسمي بإسم “الدولة الإسلامية”، كشف هذا الأخير أن تنظيم “القاعدة” المركزي قد حرم التنظيم المتفرع منه والتابع له من تنفيذ هجمات في الخارج من دون ترخيص منه. “الدولة الإسلامية” أحنى ركبته في ذلك الوقت، على الرغم من تذمر أعضائه.
لم يكن التذمر بين أعضاء “الدولة الإسلامية” لأنهم أرادوا ضرب إثنين من أكبر خصومهم المسلمين في الشرق الأوسط ومنعوا من ذلك؛ لقد كانت المنظمة تتخيّل نفسها شبه خلافة. وكانت تريد تليين خصومها للإستيلاء على كل شيء في نهاية المطاف.
في السنوات الأولى، 2006-2010، لم يكن تنظيم “الدولة الإسلامية” دولة بالنسبة إلى أي تعريف للكلمة. على الأكثر، كان جماعة متمردة، حيث إستطاعت القوات الأميركية والعراقية مع القبائل السنية في العراق إجبارها على العمل سرياً تحت الأرض. بعد ذلك، كانت منظمة إرهابية تشن هجمات على المدنيين في المقام الأول في العراق.
ولكن الحرب الأهلية السورية وإنسحاب الأميركيين من العراق شكّلا فرصة لتنظيم “الدولة الإسلامية” لإستخدام إسمه كما يجب. في حين خاض غيره من الجماعات المتمردة السنية معارك ضد الحكومات المركزية، من دون أن تقدم شكلاً بديلاً لسلطة خاصة بها، فقد توصل “الدولة الإسلامية” إلى إعداد حكومته الخاصة في المناطق النائية القبلية السنية الساخطة في سوريا والعراق.
كجزء من مشروع بناء الدولة، فإن جماعة “الدولة الإسلامية” قضت بصبر على منافسيها من طريق الإغتيال والسجن. قبل أن تستولي على الرقة، على سبيل المثال، إختطف عناصر “الدولة الاسلامية” رئيس مجلس بلدية المدينة؛ كما خطفت عشرات آخرين ممن كان من المتوقع أن يقاوم حكمها. ولما سيطرت وحكمت، فقد نفذت إعدامات وعمليات قتل على نحو بشع بحق المدنيين الذين تحدّوها. ولا تطبق “الدولة الإسلامية” فقط تكليفاً كتابياً للعقوبات للإشارة إلى تقواها وصلاحها الديني؛ فإن العقوبات ترعب أيضاً السكان. والذي كان يتحدى المجموعة كان يوصف بالمرتد، ويعاقب بالإعدام.
والآن فقد قررت “الدولة الإسلامية” إرهاب أعدائها البعيدين. فكيف يجب أن يكون رد فعلهم؟
إن سياسات المجتمع الدولي المعتادة للتعامل مع الدول الراعية للإرهاب لا تعمل في حالة “الدولة الإسلامية”. فهي ليست جزءاً من النظام الدولي، حيث أن العقوبات كالحظر التجاري أو تجميد الحسابات المصرفية، والتي كانت فعّالة ضد ليبيا، لا تشكل خيارات قابلة للتطبيق هنا. وفرض الحظر على مبيعات الأسلحة لا يهم على حد سواء – إن “الدولة الإسلامية” تستمر في الحصول على الأسلحة من أعدائها أو شرائها في السوق السوداء.
بادئ ذي بدء، يجب على الأعداء البعيدين ل”الدولة الإسلامية” أن يقرروا ما هو هدفهم في هذه المعركة. مثل غيرها من الدول المارقة، فإنه يمكن إحتواؤها أو حتى تدميرها. وكل سياسة منهما لديها سلبيات. الإحتواء يترك دولة سليمة ولكن يُضعف قدرتها على العمل خارج حدودها. ومع ذلك، فإن الإرهاب يصبح في الواقع أداة أكثر جاذبية لدولة مُحتواة، لأنه يشمل خيارات تقليدية أقل. أما تدمير دولة مارقة تماماً فيتخلص من المشكلة – ولكن كما رأينا على مدى العقد الماضي في العراق، ما يأتي بعد ذلك قد يكون أسوأ من ذلك، خصوصاً إذا انهارت الدولة كلها مرة واحدة.
حتى الآن، إختارت الولايات المتحدة وحلفاؤها شيئاً بين الإحتواء والتدمير السريع: الخنق. بالعمل مع خليط من الميليشيات المحلية في سوريا والعراق، فقد بدأ الحلفاء يضيّقون ببطء الخناق حول رقبة “الدولة الإسلامية”، مستعيدين أراض في المحيط والتحرك نحو معقلها في غرب العراق وشرق سوريا. لقد كانت عملية بطيئة ومؤلمة، ولكنها أدت إلى نتائج: لقد فقدت “الدولة الإسلامية” ربع أراضيها خلال العام الماضي. وقد إنتُقِدت الوتيرة البطيئة بقسوة، لكنها تملك فضل إعطاء أعداء “الدولة الإسلامية” الوقت لإستيعاب المدن المحرّرة حديثاً من دون الحاجة إلى إتخاذ المسؤولية عن كامل الأراضي في وقت واحد.
الهجمات على المدنيين، مثل تلك التي رأيناها في باريس، قد صُمِّمت لإجبار الحكومات على تغيير سياساتها جذرياً – إما التهدئة بسرعة، كما فعل الرئيس رونالد ريغان في لبنان بعد تفجير ثكنات المارينز والسفارة الأميركية في العام 1983، أو المبالغة في ردة الفعل مع عرض كبير للقوة. قبل الرد على الهجمات الأخيرة ل”الدولة الإسلامية”، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها التفكير في الأسس الموضوعية للسياسة الحالية والسلبيات الرئيسية للبدائل قبل أن تغيّر إتجاهها.
نتيجة إيجابية لهجمات “الدولة الاسلامية” قد يكون هناك تغيير في موقف روسيا تجاه “الدولة الإسلامية”. حتى الآن، لم تُعطِ موسكو أولوية لغاراتها الجوية على “الدولة الإسلامية”، وفضّلت بدلاً من ذلك تدمير المتمرّدين الذين يشكلون تهديداً مباشراً لنظام الرئيس السوري بشار الأسد. إذا صارت روسيا أكثر جدية حول تدمير “الدولة الإسلامية”، وإيجاد وسيلة لتسريع رحيل الأسد، فقد تكون “الدولة الإسلامية” قد فعلت خيراً للعالم. تبدو كل الإحتمالات منخفضة بالنسبة إلى تغيير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساره في هذه المرحلة – ولكن تكرار الضربات والهجومات من قبل “الدولة الإسلامية” قد يقنعه بتغيير رأيه.
إن آفاق المدى القريب لنهاية هجمات “الدولة الإسلامية” في الخارج قاتمة. فيما تنهار الحكومتان في سوريا والعراق، فإن “الدولة الإسلامية” سوف تستمر في هجومها على أعدائها البعيدين. وهناك أماكن أخرى حيث يمكنها الإنتقال والعمل في وضح النهار، مثل ليبيا. ربما أن “الدولة الإسلامية” لن تكون لديها الموارد عينها التي لديها الآن لأنها تفقد المزيد من الأراضي – ولكن مع ذلك، فإن عملية تمويل هجمات في الخارج لا تتطلب ثروة كبيرة.
مع ذلك، إن هجمات “الدولة الإسلامية” قد حفزت أخيراً المجتمع الدولي على العمل من أجل منع المزيد من الفظائع مثل تلك التي حدثت في باريس ولبنان وشرم الشيخ. ونتيجة لعمل دولي أكثر تضافراً، فإن “الدولة الإسلامية” من المحتمل أن تشهد إنهياراً تدريجياً بطيئاً لدولتها وتزايد ضعف قدرتها على السيطرة على أراض جديدة. إن هذا لا يحدث فقط عندما تتمدد جماعة إرهابية أكثر من طاقتها – إنه خطر تفترضه وتتوقعه أي دولة عندما تستخدم الإرهاب كأداة للسياسة الخارجية.

فخ “داعش” الإيراني
كيف إستخدمت طهران “الدولة الإسلامية” للهيمنة على سوريا والعراق

لندن – باسم رحال

الخيار يبدو بسيطاً. في جانب يقف الملالي بلباس ملكي، النوع الذي كان يحمي كنوز بلاد فارس قبل الإسلام حتى إنهم يغرّدون على تويتر باللغة الإنكليزية. على الجانب الآخر تقف “الدولة الإسلامية” (داعش)، مع غزوها وإغتصابها ونهبها. وقد وصف محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني، الواقع أفضل من أي شخص. “إن الخطر الذي نواجهه وأنا أقول إننا، لأن لا أحد بمنأى – يتجسّد في رجال مقنّعين يخرّبون مهد الحضارة”، محذِّراً من التعلّق بإمكانية التقارب بين واشنطن وطهران ضد “داعش”.
مع ذلك، تحت مثل هذه العبارات المثيرة للقلق هناك إستراتيجية أكثر خبثاً. إن إيران تستخدم صعود “الدولة الإسلامية” في الشرق الأوسط لتعزيز قوتها. إن طهران هي الآن حليف رئيسي في دعم شيعة العراق والنظام العلوي لبشار الأسد ضد الجهاديين السنّة الشرسين والمسلحين تسليحاً جيداً. في تلك المعارك، تسهر طهران على الأرجح على القيام بما يكفي للتأكد من أن السنة لن يستولوا على أجزاء الشيعة في العراق ومناطق الأسد في سوريا، ولكن لا أكثر من ذلك. في الوقت عينه، في أعقاب تصاعد “داعش”، عملت طهران على تقوية الميليشيات الشيعية الراديكالية الخاصة بها.
ويمكن أن تكون النتيجة زعزعة دائمة لإستقرار قلب العالم العربي. سيكون ذلك إنتصاراً كبيراً للجمهورية الإسلامية الفارسية، التي شهدت إرتفاع حظوظها وفرصتها فيما مصر وتركيا أصبحتا غارقتين في أزمات، وفيما المملكة العربية السعودية، المنافسة السنية الجدية المتبقية، قد تورطت في حرب اليمن.
إن نموذج إيران للعمل في الخارج يُرسَم من خبرتها في لبنان في أوائل ثمانينات القرن الفائت، عندما عمل النظام على دمج مجموعة متنوعة من الأحزاب الشيعية إلى “حزب الله”. وبتوجيه إيراني، إستهدف “حزب الله” الولايات المتحدة، حيث قاد بلاد العم سام للخروج من لبنان بعدما قصف ثكنات مشاة البحرية الأميركية في بيروت في العام 1983. وهذا الهجوم أعاد صنع لبنان؛ منذ ذلك الحين، صار لطهران صوت قيادي في سياسة البلاد، وعمل “حزب الله” كوكيل إرهابي مع قوته الأكثر تدميراً في العالم العربي.
كررت الجمهورية الإسلامية الإيرانية نموذج لبنان في العراق بعد 2003. كان لطهران هدفان متكاملان: طرد الولايات المتحدة من العراق ومنع تشكيل عراق جديد معادٍ لإيران. مرة أخرى، تحوّلت طهران الى تطوير الميليشيات الشيعية الراديكالية. وتسابقت الميايشيات شبه العسكرية على مهاجمة القوات الأميركية وترهيبها، وقتلت بعض الأحيان، الشيعة العلمانيين ورجال الدين العراقيين المتمردين.
في العام 2011، حققت طهران نجاحاً باهراً مع إنسحاب القوات الأميركية. ومنذ ذلك الحين، مع ذلك، فقد واجهت صعوبة في السيطرة على الزعماء الشيعة العراقيين ذوي التفكير المستقل. لذا كان “داعش” بالتالي نعمة. لم تستطع أميركا المترددة ولا الجيش العراقي المتداعي من حشد إستجابة فعّالة. ملأ المستشارون الإيرانيون والميليشيات الشيعية الفراغ، حيث أمّنوا حماية بغداد ووطّدوا نفوذ طهران مع السكان الشيعة في العراق.
كان على ايران أن تكون سرية في العراق ولو لمرة. إنتقل قاسم سليماني، قائد فيلق “القدس”، وحدة التدخل السريع الأساسية في “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني، إلى بلاد الرافدين بسرية حتى لا يثير غضب العراقيين الذين كانوا حذرين وقلقين من وجود أسياد فارسيين. وعلاوة على ذلك، كانت طهران تهتم بقدر كبير بما تقوم به المؤسسة الدينية الشيعية العراقية، بزعامة آية الله علي السيستاني. مباشرة أو من خلال وكلاء، خلط الإيرانيون المداهنة، والإعانات، وقليلاً من الترهيب للحصول على طريقهم في النجف وكربلاء، والمراكز الكبيرة للتعليم الإسلامي في بلاد ما بين النهرين. ولكن تلك الأيام قد ولّت. مع صعود “داعش”، وما يترتب عليه من إرتفاع القوة الصلبة الإيرانية، فقد أصبحت طهران بشكل ملحوظ أقل قلقاً بشأن التصورات العراقية والإنسجام داخل المؤسسة الدينية.
لقد ذهبت، أيضاً، تلك الأيام التي كانت فيها طهران قلقة كثيراً من السنة المعتدلين. خلال ثمانينات وتسعينات القرن الفائت، مارست إيران بدأب نهجاً خاصاً بالنسبة إلى السنة المتطرفين. لقد قاد الرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ومساعده، حسن روحاني، هذا التواصل، في محاولة لإقناع العرب السنة على التركيز على عدو مشترك، الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد لعب “حزب الله” اللبناني، مع عماد مغنية في الصدارة، دوراً أساسياً في مساعدة الملالي في حل خلافاتهم مع المتشدّدين من العرب السنة.
لكن جهود الجمهورية الإسلامية الفارسية أنتجت نجاحاً هامشياً: عدد قليل جداً من الجماعات السنية ترتبط مع طهران؛ غالبيتها كانت على إستعداد لأخذ مال الملالي والأسلحة. لقد قبل تنظيم “القاعدة” في العراق بشكل متقطع المساعدة الإيرانية حيث أضرّ بالولايات المتحدة. ولكن قدرة طهران على إجبار الحكومات العربية على قبول أولوياتها لا تزال محدودة. كانت طهران تعرف دائماً أنه في المعقل الإسلامي في الشرق الأوسط، فإن عدد الشيعة والسنة متقارب تقريباً. من خلال تبني الطائفية، فإن إيران تلعب الآن دوراً مؤثّراً، إن لم يكن مهيمناً، في جميع أنحاء المنطقة.
إذا أراد المتطرفون السنة تأسيس خلايا إرهابية داخل المجتمعات الأقلية السنية في إيران، فإن طهران قد ترغب في خنق “داعش”. مع ذلك، مع إستبعاد هذا الإحتمال، فإن نظام الملالي ليست له مصلحة في التقليل من حمام الدم الطائفي الذي سمح له بأن يتمتع بتأثير أكبر من أي وقت مضى منذ ثورة 1979. في أحسن الأحوال، فقد جلبت معاداة الولايات المتحدة لطهران زميل مسافر. لقد أعطى “داعش”النظام أفضل ضربة له لبناء إمبراطورية. بالنسبة إلى النخبة الحاكمة في إيران، لم يُنظَر أبداً إلى كره السنة للشيعة بأنه شيء جيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى