بن برنانكي يعيد أسباب أزمة 2008 إلى سوق “الجملة” المالية

من الصعب أن نقرأ مذكرات رئيس بنك الإحتياطي الفيديرالي الأميركي السابق بن برنانكي الجديدة، “شجاعة الفِعل”، بإعتبارها أي شيء آخر غير مأساة. فهي قصة الرجل الذي ربما كان الشخص الأفضل إستعداداً في العالم لشغل الوظيفة التي مُنحت له، ولكنه سرعان ما وجد نفسه مهزوماً أمام تحدياتها، ثم تخلف سريعاً عن المنحنى ولم يتمكن من اللحاق قط.

غلاف كتاب "شجاعة الفٍعل"
غلاف كتاب “شجاعة الفٍعل”

واشنطن – محمد زين الدين

قراءة مذكرات رئيس مجلس الإحتياطي الفيديرالي الأميركي السابق بن برنانكي الجديدة عن الأزمة المالية – “شجاعة الفِعل” (The Courage To Act) – تذكّرنا كم نحن محظوظون. على الرغم من الإنتعاش الإقتصادي البطيء بشكل مخيّب للآمال، كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير. الحكمة التقليدية هي أننا تقادينا كساداً كبيراً ثانياً، حيث كان من الممكن أن يبلغ معدل البطالة في أميركا 25 في المئة. لا شيء في ما يرويه برنانكي يناقض هذا الإستنتاج.
الواقع أن الشارع الرئيسي إعتمد على شارع المال والمصارف”وول ستريت” أكثر من أي وقت مضى – وهو واقع مرير بقي برنانكي يكرره خلال أحلك أيام الأزمة. تحتاج الشركات إلى الإئتمان لتمويل إستثمارات جديدة ولتخفيف التقلبات الموسمية وتغطية النفقات اليومية. وفيما خسرت هذه الشركات الحصول على الإئتمان أو خشيت الإقدام عليه، فقد رأت أن بقاءها على قيد الحياة هو على المحك. لذا إحتفظت بأموالها النقدية بأي وسيلة متاحة. وتوقفت عن التوظيف، وبدأت بعمليات الطرد وتأخير المشاريع الإستثمارية. في الفترة من أيلول (سبتمبر) 2008 إلى شباط (فبراير) 2010، شُطب من لوائح مرتبات الموظفين في أميركا 7.1 ملايين نسمة.
ساعد مجلس الإحتياطي الفيديرالي على الحد من توسع هذا التدهور قبل أن يصل إلى ما نسميه كساداً عظيماً آخر. مع إحجام وإضراب المقرضين من القطاع الخاص، فإن بنك الإحتياطي الفيديرالي وفّر مؤقتاً الأموال تحت عنوان “مقرض الملاذ الأخير”. دعمت برامجه المعقدة للإقراض البنوك، والمتعاملين في الأوراق المالية، وصناديق أسواق المال، والمقرضين الأجانب، وسوق الأوراق التجارية. كانت المبالغ هائلة. في فترة معينة، وصل الإقراض من خلال نافذة “الخصم” التقليدية إلى 900 مليار دولار.
ماذا تضيف مذكرات برنانكي إلى معرفتنا؟
بالنسبة إلى المبتدئين، فإنها تعطي مصداقية جديدة لإدعائه بأن بنك الإحتياطي الفيديرالي لم يكن في مقدوره الحؤول دون إفلاس بنك “ليمان براذرز” في أيلول (سبتمبر) 2008. نذكر أن إنهيار “بنك ليمان” أثار الذعر المالي. وأذكر أيضاً أن برنانكي قد أكد على أن بنك الإحتياطي الفيديرالي لا يمكنه إقراض “ليمان” لأن البنك المركزي الأميركي يحتاج إلى ضمانات ولم يكن لدى “ليمان” أي ضمانة (كان معسّراً؛ لقد تجاوزت ديونه موجوداته). ما يجعل هذا الزعم أكثر تصديقاً الآن هو نتائج عملية إفلاس بنك “ليمان”، التي يستشهد بها برنانكي. لقد قُدّرت الخسائر بحوالي 200 مليار دولار، وحصل العديد من الدائنين على 25 سنتاً فقط على الدولار.
بعد ذلك، وفّر برنانكي أرقاماً مفيدة ليشرح لماذا كان النظام المالي مُعرَّضاً. منذ سنوات، هيمنت البنوك على النظام وحصلت على أموالها بشكل رئيسي من ودائع الأفراد والمؤسسات. وكانت هذه الأموال منيعة إلى حد كبير من الذعر لأن معظمها كان مؤمّناً ومضموناً من قبل الدولة. ولكن في العقود الأخيرة، نمت سوق “جملة” للحصول على أموال تتكوّن من فائض نقد الشركات وصناديق التقاعد والأفراد الأثرياء وغيرهم. وقد أُقرضت هذه الأموال غير المؤمَّن عليها للبنوك والمؤسسات المالية الأخرى لفترات قصيرة، وغالباً ما بين عشية وضحاها. بحلول أواخر العام 2006، بلغ مجموع أموال سوق “الجملة” 5.6 تريليونات دولار، وهو مبلغ يتجاوز الودائع المؤمن عليها 4.1 تريليونات دولار. وكان السحب المفاجئ لهذه الأموال هو الذي دفع الذعر وهدّد النظام المالي بالإنهيار.
أخيراً، يقول برنانكي بشكل مقنع أن هذا الذعر المالي – وليس التخلف عن سداد القروض العقارية عالية المخاطر – كان جوهر الأزمة. لقد مثّلت قروض الرهن العقاري نحو 13 في المئة من القروض العقارية غير المُسدَّدة، كما يقول. وعلى الرغم من أنها أطلقت الأزمة فإن الخسائر التي ولّدتها وحدها كان يمكن إستيعابها من قبل النظام المالي. إن الضرر الإقتصادي الحقيقي، كما يدّعي، نابع من الآثار الجانبية الفوضوية لشطب الرهن العقاري: المخاوف من المزيد من الخسائر في أنواع أخرى من القروض (ديون بطاقات الإئتمان، وقروض السيارات)؛ وإنخفاض أسعار السندات التي أطلقت عليها المؤسسات المالية إسم “الأوراق المالية السامة”؛ وهروب أموال سوق “الجملة” من البنوك، والمصارف الإستثمارية وغيرها (الكثير من هذه الأموال ذهبت إلى سندات الخزانة الأميركية).
وبالتالي بتعرضه للضربة، أصبح النظام المالي في غيبوبة. لم يعد يُقدّم الإئتمان حيث يُحتاج إليه. تبعت ذلك سلسلة من ردود الفعل الكارثية في مجالات الإنفاق، والإنتاج، وفرص العمل، والثقة. “الأزمة المالية”، كتب برنانكي “كانت لها عواقب مباشرة على الشارع الرئيسي”.
إلى حد ما، كل هذا فيه كثير من الحقيقة. مع ذلك، كنظرية للأزمة، فإنها غير مكتملة. إن الأزمات المالية ليست تماماً أحداثاً عشوائية. ينبغي أن يكون النظام عرضة لصدمة. يحدّد برنانكي ضعفاً واحداً، التمويل ب”الجملة”. ولكن كان هناك مصدر أكبر للضعف: الإزدهار الكبير الذي تمتع به الأميركيون على مدى ربع قرن. خلال هذه الفترة، لم يكن هناك سوى ركودين خفيفين. وتراجع التضخم وأسعار الفائدة؛ وإرتفعت أسعار الأسهم والمنازل. إن الشعور بالثراء جعل الأميركيين يقترضون أكثر وينفقون أكثر. من العام 1982 إلى العام 2007، إرتفع الإنفاق الإستهلاكي الأميركي من 62 في المئة من إجمالي الناتج المحلي إلى 67 في المئة.
الثروة الجيدة لها عواقب. تُغذّي الثقة العمياء. ويبدو الإقتصاد أقل خطورة، ويرجع ذلك جزئياً إلى بنك الإحتياطي الفيديرالي الذي بدا قادراً على نزع فتيل أي تهديد خطير للرخاء. إن السلوكيات التي أدّت في نهاية المطاف إلى الأزمة – معايير الإقراض المتراخية، والمزيد من الإقتراض- شجّعها المشهد الإقتصادي الذي بدا أقل تهديداً. لقد قاد الكثير من إرضاء الرخاء إلى الشلل وعدم الإستقرار. هذا هو الدرس المركزي للأزمة. لا يعترف برنانكي بالإنعكاسات المزعجة؛ للإنصاف، يكاد لا يوجد أي شخص آخر يعترف بذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى