فلسطين تبحث عن الإستقلال في مجال الطاقة وإسرائيل تُقيِّدها

في بداية العقد الفائت إكتُشف حقل غزة البحري الذي يحتوي على كمية مهمة من الغاز، فتفاءل الغزّاويون ومعهم الحكومة الفلسطينية، وبعد سنوات على ذلك إكتُشف حقل “رنتيس” في الضفة الغربية، الأمر الذي زاد في فرحة الفلسطينيين عموماً والسلطة في رام الله، وبدأ بعض المعلقين يدّعي بأن فلسطين على طريق الإستقلال في مجال الطاقة. ولكن هل هذا صحيح؟ وما هي العقبات التي يمكن أن تحول دون ذلك.

حقل غزة البحري: متى يتم السماح بإستغلاله
حقل غزة البحري: متى يتم السماح بإستغلاله

رام الله – سمير حنضل

في نهاية صيف 2015، إكتشفت عملاقة الطاقة الإيطالية “إيني” واحداً من أكبر حقول الغاز الطبيعي في البحر المتوسط. قبالة الشواطئ المصرية يقبع حقل الغاز “زهر”، الذي ينام على 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي. وفيما كانت مصر تحتفل باالخبر السار، فقد دبّ الذعر في إسرائيل حول الآثار المترتبة على الإكتشاف بالنسبة إلى حقل الغاز الكبير “الطاغوت” الذي روّجت له كثيراً، والذي تم إكتشافه في كانون الأول (ديسمبر) 2010. لقد كان “دعوة أليمة للإستيقاظ”، قال وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، معلّقاً.
لماذا؟ إن إكتشاف “إيني” ربما يمكن أن يعيد مصر، التي خفّضت بشكل كبير صادرات الغاز في العام 2012، إلى دورها كبلد مصدّر للغاز في المنطقة. وهذا الأمر يهدّد طموحات إسرائيل التي تعمل لكي تصبح قوة في مجال الطاقة في المنطقة. الواقع، إن الأساس المنطقي الذي دعم صفقة الغاز، التي بلغ حجمها 15 مليار دولار، ووُقِّعت بين الأردن وإسرائيل في العام الماضي يبدو الآن ضعيفاً: إن عَمّان، التي سعت لتجد بديلاً من إنخفاض وتوقف الموارد المصرية، قد تُقرّر حالياً العودة إلى القاهرة كمصدر للغاز أقل إثارة للجدل محلياً.
مع ذلك، بالنسبة إلى فلسطين، التي كانت أيضاً تفاوض إسرائيل للحصول على الغاز، فإن هذه التغيّرات الإقليمية ليس لها تأثير يُذكر. مع إعتمادها الكلّي تقريباً على الدولة العبرية لتأمين إحتياجاتها من الطاقة، فإن فلسطين تسعى إلى سبلٍ لتعزيز نوعية الحياة لمواطنيها في ظل الإحتلال. من جهتهم يسعى سكان غزة إلى إستيراد الغاز من مدينة عسقلان في جنوب إسرائيل لتخفيف المعاناة والحدّ من إنقطاع التيار الكهربائي، في حين تتفاوض الضفة الغربية مع إسرائيل لإستيراد الغاز لزيادة توليد الطاقة المحلية وتخفيض تكاليف الكهرباء.
هذه التدابير التي هي للمدى القصير، في حين أنها ضرورية بمثابة أمر مؤقت، فإنها تأتي على حساب قدرة فلسطين على تأكيد سيادتها على مواردها الطبيعية الخاصة – الحقول البحرية للغاز قبالة سواحل غزة وعلى حقل غاز “رنتيس” في الضفة الغربية – وقد تقوِّض آفاق الإستقلال في مجال الطاقة في المدى الطويل.

العمل في الفراغ

خلال الفصل الفائت، قمت بزيارة إلى كلٍّ من قطاع غزة والضفة الغربية، وتحدثت إلى عدد من المسؤولين في قطاع الطاقة فيهما. مثل الأردن، لقد تأثّرت فلسطين من جرّاء فقدان الغاز المصري. إنها تشتري حالياً نحو 88 في المئة من إحتياجاتها من الكهرباء من إسرائيل. إن محطة توليد الكهرباء الوحيدة العاملة في الأراضي الفلسطينية هي شركة غزة لتوليد الطاقة، وتقع في القطاع، جنوب مدينة غزة. وهذه المحطة تولّد نحو عشرة في المئة من إجمالي إحتياجات الفلسطينيين من الكهرباء، على الرغم من أنها تخدم حالياً غزة فقط. وهي تعمل بواسطة الوقود التي غالباً ما يتم إستيرادها من إسرائيل.
هذا الصيف، تم تقنين الكهرباء في غزة إلى ثماني ساعات في اليوم، على الرغم من أن هذه الفترة في الواقع تنخفض غالباً بشكل أكبر كلما زاد الطلب — على سبيل المثال، عندما يستخدم سكان غزة مكيّفات تبريد الهواء، فإن من شأن ذلك، في كثير من الأحيان، أن يؤدي إلى إنقطاع الكهرباء بنسبة 70 في المئة في القطاع. إن الزائرين عادة يتصلون للتأكد من أن الأضواء موجودة قبل القيام بزيارتهم، خوفاً من العتمة أو توقف المصاعد في البنايات العالية، أو، كما كان الحال عندما زرت خلال شهر رمضان، أكل وجبة الإفطار باردة.
يعيد العديد من الناس أزمة الكهرباء في غزة إلى سوء الإدارة في محطة الطاقة. “إن محطة توليد الكهرباء هي كارثة على قطاع غزة”، قال أحد كبار الموظفين في سلطة الطاقة والموارد الطبيعية الفلسطينية في غزة. “لو لم تكن شركة كهرباء غزة موجودة، كنا سنستورد الكهرباء مباشرة من الشبكة الإسرائيلية”، على حد قوله.
على الرغم من أن محطة توليد الكهرباء في غزة هي شركة مملوكة للقطاع الخاص، فإن السلطة الفلسطينية قد أخذت مسؤولية تأمين وتوريد الوقود المطلوب لتشغيلها. في العام 2000، إفتتحت المحطة بعد إكتشاف 1.4 تريليون قدم مكعبة من الغاز في حقل غزة البحري. في ذلك الوقت، كان البعض يعتقد بأن فلسطين ربما يمكنها تحقيق الإستقلال في مجال الطاقة حيث تمدّ الحقول المحلية المحطة بالغاز. ولكن بعد سنوات قليلة، تبدّدت تلك الآمال. لقد كانت السلطة الفلسطينية غير قادرة على الإستفادة من حقول غزة البحرية لأن إسرائيل لا تزال تضع قيوداً على إستغلالها وإستعمالها. بدلاً من ذلك، تحوّلت السلطة الفلسطينية إلى إستخدام الوقود السائل، في المقام الأول وقود الديزل، والذي هو 2-4 مرات أكثر تكلفة من الغاز لتوليد الطاقة. ومما لا يثير الدهشة، لقد وقعت شركة الكهرباء في عجز كبير في الموازنة بلغ ما يقرب من 360 مليون دولار.
كثيراً ما إتّهمت السلطة الفلسطينية مباشرة بمسؤوليتها عن إرتفاع تكاليف الوقود ونقص الطاقة اللاحق. لتأمين مصدرٍ لوقود محطة توليد الكهرباء، فقد تحوّلت الحكومة في الضفة الغربية بشكل دائم إلى عميل لتسهيل ولتبادل السلع إلى حد ما، أي شراء الديزل من المورِّدين الإسرائيليين وبيعه إلى محطة توليد الكهرباء في غزة بعد فرض ضريبة الوقود. ومن غير الواضح كيف يجري حساب وفرض هذه الضرائب، التي يلعنها كثيراً سكان غزة، ولكن تقديرات سلطة الطاقة والموارد الطبيعية الفلسطينية في غزة تفيد بأن الرسم هو حوالي 40 في المئة. بالإضافة إلى ذلك، تقول هذه السلطة وشركة محطة كهرباء غزة بأن السلطة الفلسطينية تفرض إجراءات تعسّفية مُكلفة إضافية وغير شفّافة، مثل تضخيم تكلفة الوقود، للتعويض عن الضرائب التي تضعها إسرائيل على واردات وقود الديزل. الواقع إن عدم وجود مراجعة للحسابات يجعل من المستحيل التحقق من صحّة هذه الإدّعاءات.
من ناحية أخرى، فقد أجبرت تكاليف الوقود الباهظة المحطة على تقليص إستخدامها لكامل طاقتها. وجاء دفع ثمن الوقود أيضاً على حساب الإستثمارات المهمة الأخرى، مثل تطوير شبكات القياس وتوصيل ونقل الكهرباء في غزة. (إن النظام الموجود غير فعّال حتى أنه أدّى إلى تراكم جبل من الفواتير غير المحصّلة بلغ مجموعها 860 مليون دولار على مر السنين). كما تحتاج شركة الكهرباء إلى 45 مليون دولار لإصلاح الأضرار الناجمة عن العدوان الإسرائيلي في حزيران (يونيو) 2014 على قطاع غزة، والذي دمّر خزانات الوقود في المحطة فضلاً عن أجزاء واسعة من شبكات توزيع الكهرباء.

تليين الموقف الإسرائيلي

للتعامل مع إنقطاع التيار الكهربائي المُزمن وللتخفيف من معاناة سكان غزة، الذين خرجوا إلى الشوارع للإحتجاج هذا الصيف، وافقت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على تطوير خط أنابيب الغاز من عسقلان إلى محطة توليد الكهرباء في غزة، حيث سيتم تمويل المشروع من الحكومة القطرية، وقد قدمت الخطة التنموية (مع إستعداد السلطة الفلسطينية لدفع تكلفة الغاز) إلى إسرائيل في وقت سابق من الشهر الفائت. من خلال ربط محطة توليد الكهرباء مباشرة إلى مصدر للغاز، يقول مسؤولون في سلطة الطاقة والموارد الطبيعية الفلسطينية في غزة، فإن جميع إحتياجات توليد الكهرباء في غزة يمكن تلبيتها في نهاية المطاف. من جهتها لا تزال إسرائيل تفكر في إمكانية الموافقة على هذا الخط.
في حين أن هذا الاتفاق يزيد من الإعتماد على إسرائيل، فإن مسؤولاً من “حماس” الذي بدا غير مكترث لمثل هذه المخاوف، قال: “إنه أمر إنساني، وهي قواعد الجغرافيا على أي حال، فالعدو يمتلك الغاز”.
نشطاء في الضفة الغربية كان لديهم شعور مختلف. في العام الماضي، توصّلت شركة فلسطين لتوليد الطاقة في الضفة الغربية، التي تأسست في العام 2010، الى إتفاق مع إسرائيل لإستيراد الغاز إلى الضفة الغربية من أجل تطوير محطة لتوليد الطاقة الكهربائية وخفض تكلفة الكهرباء. وإحتجَّ الجمهور الفلسطيني بشدة على الإتفاق الذي إعتبره رمزاً للتطبيع مع الإحتلال. بعد فترة وجيزة على ذلك، أُلغيت الصفقة. وقد أُعيد فضل ذلك إلى نشطاء من “حركة المقاطعة وسحب الإستثمارات وفرض العقوبات” للضغط على شركة الطاقة الفلسطينية للتراجع عن الصفقة.
مع ذلك، رفض مسؤولون فلسطينيون في الضفة الغربية مثل هذه الإدعاءات. “لقد تعثّرت الصفقة بسبب خلافات على السعر”، قال فؤاد أملة، الرئيس المساعد للتخطيط والمعلومات في سلطة الطاقة الفلسطينية في الضفة الغربية. وأضاف: “في الواقع، [المفاوضات] لا تزال جارية حتى يومنا هذا. وتسعى شركة فلسطين لتوليد الطاقة إلى تأمين الغاز الإسرائيلي لمحطة توليد كهرباء مُوسَّعة”.
وتعتقد شركة فلسطين لتوليد الطاقة بأنها الآن في موقف تفاوضي أقوى، وسوف تكون قادرة على التغلب على هذه الخلافات بشأن السعر. وتعزو الشركة توقعاتها الإيجابية إلى إقتناعها، التي تشاركها فيها غالبية سكان الضفة الغربية وكذلك سكان غزة، أن إسرائيل هي أكثر جدية بالنسبة إلى السماح بإنتاج الغاز من الحقل البحري في غزة.
لم تصدر أي تصريحات رسمية من الإسرائيليين لتأكيد هذا. ولكن مصادر مقرَّبة من المفاوضات المحيطة بحقل غزة البحري أفادت بأن هناك دفعاً فعلياً وتلييناً مُنتظَراً للموقف من الجانب الإسرائيلي، للسماح لهذا الحقل بأن يبدأ الإنتاج. ويُقدِّر عدد من الناس الذين تحدثت إليهم بأن الوقت الذي سوف يستغرقه وضع حقل غزة قيد العمل سيكون نحو 30 شهراً.
بالطبع، هناك مخاوف من أن الإعتماد على الغاز الإسرائيلي يمكن أن يقوِّض أمن الطاقة الفلسطيني، لأن إسرائيل يمكنها بسهولة قفل الصنابير. إن حالات سابقة، التي حجزت إسرائيل فيها على عائدات الضرائب عن الفلسطينيين، تُعَدّ سابقة بارزة لمثل هذا السلوك. ولكن هذه المخاوف تم رفضها بسرعة. “إن شركة فلسطين لتوليد الطاقة تتفاوض مع القطاع الخاص الإسرائيلي، وليس مع الحكومة الإسرائيلية. لن يكون هناك تدخل سياسي لتوفير الغاز”، قال أملة.
وقد برّر مسؤولون من كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة بأن صفقات الغاز هذه هي بمثابة وسيلة لوضع حجر الأساس للإستقلال الفلسطيني في مجال الطاقة في المستقبل. في نهاية المطاف إن خط الأنابيب من عسقلان إلى غزة سوف يُستخدَم لنقل الغاز من حقل غزة البحري إلى قطاع غزة المحاصر. وبالمثل، فقد توافق إسرائيل حتى على نقل الغاز من خلال بنيتها التحتية من حقل غزة البحري إلى الضفة الغربية. ومن هذا المنظور، تُعتبر الإتفاقات مع إسرائيل مجرد بديل مؤقت حتى يتم تحرير الغاز الفلسطيني في النهاية.
وبالنظر إلى تاريخ الجهود المبذولة لحفر حقل غزة البحري، فإن هذه الخطط في الواقع تحمل معها المخاطر التي لن تنتج أي غاز، وفي هذه الحالة فإن الفلسطينيين يكونون تفاوضوا بأنفسهم للإعتماد الدائم على إسرائيل في مجال الطاقة. كما ذكرنا آنفاً، ربما هناك بعض الدلائل على أن إسرائيل تتجه في الواقع إلى “تليين” موقفها في ما يتعلق بهذا المجال. أولاً، حقل غزة البحري هو الآن رصيد إستراتيجي. إن خوف اسرائيل من أن يحتكر حقل “زهر” المصري السوق الإقليمية يمكن أن يقود إلى إستخدام الغاز الفلسطيني ليكون بمثابة “التحلية” لإستخدام الغاز الإسرائيلي، مما يجعله أكثر قبولا للعملاء المعادين. ثانياً، يمكن لحقل غزة البحري أن يلعب دوراً مهماً في إستقرار غزة، وهو هدف يكتسب أهمية في إسرائيل.
في أي حال، يبدو أن الفلسطينيين على إستعداد للمضي قدماً مع أخذ هذه المخاطر في الإعتبار. إن الجهود التي تُبذَل لفرض السيادة على مصادر أخرى للغاز، وبالتحديد حقل “رنتيس” في الضفة الغربية، تبدو معدومة. على الرغم من أن بعض المسؤولين أكّد بأن هذا الحقل قد “جرى التعامل معه وتناوله على أعلى المستويات في الحكومة”، فإنه لا يوجد مؤشر على أن هذا التأكيد قد يكون صحيحاً.
ولكن لكي نكون عادلين، فإن القيادة الفلسطينية تنتهج تدابير قصيرة الأجل للتخفيف من معاناة شعبها. وفي غياب تسوية سياسية، فقد أصبحت الهموم الإقتصادية الأسمى والأهم والأكثر إلحاحاً. لقد سألتُ مسؤولين فلسطينيين ما إذا كان هناك خوف من أن إلغاء هذه الصفقات يمكن أن يرسّخ الإحتلال في الضفة الغربية والحصار المستمر لقطاع غزة.
“نعم، بالطبع”، قال مسؤول كبير في الضفة الغربية. مضيفاً: “لكن الناس يريدون العيش”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى