المعركة الفاصلة على المورد الوحيد الذي يحدّد مستقبل ليبيا

تُعتبر إحتياطات النفط في ليبيا الأكبر في قارة إفريقيا وواحدة من بين أكبر عشرة في العالم بمعدل قُدِّر ب46.4 مليار برميل في 2010. وقد بلغ معدل الإنتاج اليومي في ذلك العام 1.65 مليون برميل، حيث يتوقع الخبراء أن تستمر هذه الإحتياطات مدة 77 سنة إذا ما إستمر الإنتاج بالمعدل الحالي وما لم تُكتَشف أبار نفط جديدة. وتتمتع ليبيا بجاذبية خاصة في هذا المجال نظراً إلى تدني تكاليف إنتاج النفط في أراضيها (تصل حتى إلى دولار للبرميل في بعض الحقول) وقربها من الأسواق الأوروبية. ويفيد أهل الخبرة في المجال الهيدروكربوني أن غالبية الأراضي الليبية ما زالت غير مُكتشفة نتيجة للعقوبات التي فُرضت عليها سابقاً بالإضافة إلى الخلافات مع شركات النفط الأجنبية، وإندلاع الحرب الأهلية التي أدّت إلى نشوء حكومتين متنافستين وتعثّر إنتاج النفط بالمستوى السابق.

ميناء زويتينة: أُعلن عن إغلاقه في بداية تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي
ميناء زويتينة: أُعلن عن إغلاقه في بداية تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي

طرابلس – الهادي الورفلي

يمثّل النفط شريان الحياة لليبيا. ليس لدى البلاد تقريباً أي صناعة غيره، فهو صناعتها الوحيدة. ووفقاً للبنك الدولي، تشكّل عائدات النفط أكثر من 95 في المئة من موازنة الحكومة. ولما كان نحو 80 في المئة من الليبيين يتقاضون رواتبهم من الدولة، فليس من المبالغة القول بأن النفط يغذّي ويُلبس الشعب الليبي. الحقيقة أنه لا يوجد أي بلد آخر يعتمد إلى هذا الحد على مورد واحد.
هذا في الواقع أمرٌ مقلق، خصوصاً عندما نعلم أن ليبيا هي في معظمها صحراء، تفتقر إلى الأراضي الكبيرة الصالحة للزراعة حيث لا يمكنها أن تؤمّن غذاءها محلياً. “من دون العائدات الهيدروكربونية، فإن قابلية الحياة للدولة الليبية تصبح موضع تساؤل كبير”، قال جيف بورتر، الخبير في شؤون شمال أفريقيا والأستاذ المحاضر في الأكاديمية العسكرية الأميركية “ويست بوينت”. “إذا لم تكن هناك عائدات تصدير، ليس هناك مال، واذا لم يكن هناك مال، ليس هناك طعام”، مضيفاً.
فيما تعمَّقت الحرب الأهلية الليبية خلال العام الفائت، فقد تراجعت حصيلة صادرات البلاد النفطية بشكل دراماتيكي – يبلغ الإنتاج حالياً نحو ربع الإنتاج الذي كان في حقبة الديكتاتور السابق معمر القذافي. وقد أُغلِق منفذ رئيسي لتصدير النفط بسبب القتال أخيراً، مما أدى إلى تفاقم المشكلة. ولما كان النفط هو الشيء الوحيد في ليبيا الذي يستحق القتال من أجله، فإن الحرب في معظمها تتركّز وتتمحور الآن حوله – مع تداعيات وعواقب وخيمة على الصناعة. وإذا لم يتم حلّ الصراع قريباً، فإن مصير الشعب الليبي – وربما وجود ليبيا كما نعرفها- سيكون موضع شك.
منذ أيار (مايو) 2014، نشأت حكومتان متنافستين في ليبيا. عندما تمّ إنتخاب مجلس النواب الليبي في حزيران (يونيو) من العام الفائت، كانت نسبة التصويت متدنية، ولم تشعر الكتل والميليشيا الإسلامية بأنها ممثلة تمثيلاً عادلاً. وردّاً على ذلك إجتمع المؤتمر الوطنى العام – مجلس النواب السابق – في طرابلس وإدّعى بأنه الهيئة التمثيلية الشرعية والوحيدة للشعب الليبي. من جهته إدّعى مجلس النواب المُنتخب الشيء عينه – وهو الحكومة الوحيدة المُعترف بها دولياً – وإنسحب إلى مدينة طبرق في شرق البلاد.
فيما إنقسمت الحكومة الليبية إلى جكومتين، فقد إنقسمت معها غالبية المؤسسات أيضاً، مع إنشاء إدارات مماثلة في الشرق والغرب. وعيَّنت كلٌّ من الحكومتين قضاة في النظم القضائية لكل منها، وأدارت بنوكها المركزية الخاصة بها، وحافظت على قوات عسكرية مُنفصلة.
ربما كان الإنقسام الأكثر أهمية ذلك الذي حدث في المؤسسة الوطنية للنفط، الشركة المُنتجة والمصدِّرة للنفط المملوكة للدولة. نظراً إلى أولوية النفط في الإقتصاد الليبي، فإن هذه المؤسسة هي المفتاح لهذا البلد. في حين أن مقرّها كان دائماً في طرابلس، فإن طبرق أعلنت عن إنشاء مؤسستها الوطنية للنفط في الشرق في كانون الاول (ديسمبر) 2014، معلنةً بأن جميع شركات النفط يجب أن تتعامل فقط معها. بعد كل شيء، تقول، إن المؤسسة الوطنية للنفط في الشرق هي مؤسسة رسمية مرتبطة بالحكومة المعترف بها دولياً.
في إجتماع لمجلس الأمن الدولي في آذار (مارس) الفائت، أصدر الديبلوماسيون فيه قراراً يُعلن أن أهم أجهزة الدولة في ليبيا – وخصوصاً المؤسسة الوطنية للنفط – ينبغي أن تبقى مستقلة وتتعامل بنزاهة مع الحكومتين المتنافستين. في الوقت الذي تم التوقيع على القرار، كان معظم الموانئ النفطية والتصدير صار تحت سيطرة حكومة طبرق، في حين أن جميع العقود والمدفوعات تمت من خلال المؤسسات الوطنية التابعة لحكومة طرابلس. لقد إلتزم القرار الأممي الحفاظ على هذا الوضع الراهن: تُقسّم الإيرادات بين الحكومتين، ولأنه لا يمكن أن تعمل الواحدة دون الأخرى، فإن إتحاداً غير مريح تربطه المصالح سوف يستمر.
ولكن في الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك، أصبح واضحاً أن القرار الذي صدر في آذار (مارس) لا معنى له على أرض الواقع. لقد تابعت حكومة طبرق خططها لإقامة مؤسسة وطنية للنفط خاصة بها في حين إحتجت طرابلس، مصرّة على أن جميع عقود النفط يجب أن تستمر من خلالها.
مثل المؤسسة التي تعادلها في الجزائر ومصر، فإن وظيفة المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا هي على حد سواء مُنتجة ومُنظِّمة للقطاع. ولأنها تفتقر إلى المعرفة والخبرة للتنقيب عن النفط بنفسها، فإنها عادة تلجأ إلى شراكة مع شركات نفط أجنبية لإستغلال الموارد. وتتمتع المؤسسة بالولاية ومسؤولية الحصول على أفضل الصفقات الممكنة مع الشركاء الأجانب، في حين تُشرف أيضاً على إدارة الموارد والإنتاج. ويتطلب هذا الدور خبرة واسعة وكفاءة بيروقراطية، الأمر الذي يجعل المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس واقعياً فقط أن تدّعي إمتلاكهما.
ولكن هذا الواقع لم يُثنِ حكومة طبرق. في تموز (يوليو) الفائت، عَيَّنت ناجي المغربى، وهو مهندس في شركة نفط ليبية، رئيساً جديداً للمؤسسة الوطنية للنفط الخاصة بها، على أمل أنه يمكن أن ينجح حيث فشل سلفه: تأمين عقود للنفط.
مع تعيين رئيسها الجديد وبدء عمله، أطلقت المؤسسة الوطنية للنفط في طبرق حملة واسعة النطاق لإقناع شركات النفط بسحب وتقديم أعمالها إلى الشرق. في مؤتمر عُقد في مالطا في أيلول (سبتمبر) الفائت، قال المغربى لحشد صغير من المستثمرين الأجانب المحتملين أن مؤسسته الجديدة فتحت حسابات مصرفية في دبي ومصر وهي مستعدة لتجاوز طرابلس تماماً.
في حين لم تحضر أي شركة من شركات النفط الكبرى المؤتمر، فقد وضعت المؤسسة الوطنية للنفط الشرقية قضية مقنعة أمام الشركات الأصغر التي تم جمعها. من الناحية التقنية، إنها تمثّل الحكومة المُعترَف بها دولياً فقط في ليبيا. كما أنها تسيطر على جميع محطات التصدير الرئيسية في البلاد، قال الرئيس الجديد للحضور.
“إننا نحذّر الشركات العالمية من التعامل مع الإدارة غير الشرعية”، قال المغربى للصحافيين في المؤتمر، مشيراً إلى حكومة طرابلس. وأضاف: “لم نوقف هذه الحكومة من تحميل بعض السفن حتى الآن لكي لا تتضرر معيشة الشعب الليبي، ولكننا لا نريد لهذا الوضع غير القانوني أن يستمر”.
حتى الآن، إختار معظم شركات النفط الأجنبية – بما في ذلك أكبرها، مثل “بي بي” (BP) البريطانية و”إيني” الإيطالية و”توتال” الفرنسية – مواصلة التعامل مع حكومة طرابلس بدل الحكومة المُعترَف بها دولياً في طبرق. والعقود القانونية التي تحكم النفط في ليبيا غالية ومُلزمة، وتخشى الشركات من وضعها في أيدٍ عديمة الخبرة في طبرق، كما أفاد موظف سابق في “الشركة العربية العامة للبترول” الليبية.
“طبرق تنقصها المعرفة لتشغيل المؤسسة الوطنية للنفط”، قال الموظف الذي طلب عدم الكشف عن إسمه لحماية سلامته. وأشار إلى أن المغربي عمل في شركة نفط ليبية كبيرة سابقاً، “لكنه كان غائباً عن المجال النفطي لسنوات عدة، لذا فإنه يفتقر إلى الخبرة. قبل هذا كان مجرد مهندس، ولم يكن حتى رئيساً لقسم. المؤسسة في الشرق تحتاج إلى خبرة. رئيس الوزراء الحالي لحكومة طبرق عبد الله الثيني هو رجل عسكري، لذلك فهو لا يفهم كيف يعمل كل هذا”.
من جهته عمل المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا، ليون برناردينو، بشكل محموم لإقناع طرابلس وطبرق بتوقيع إتفاق سلام ينهي القتال. لقد جاء برناردينو مع خطط متتالية عدة، واصفاً كل واحدة منها بأنها ستؤدي إلى إتفاق سلام نهائي. لكنه لم يكن قادراً على إقناع كلٍّ من الحكومتين بالتوقيع على أي صفقة، وكان الموعد النهائي يتبع الآخر حتى إنتهت المهلة من دون حل. في 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلنت الأمم المتحدة أن الديبلوماسي الألماني مارتن كوبلر سيخلف برناردينو في مهمته في الأيام المقبلة. ويواجه كوبلر مهمة لا يُحسَد عليها في محاولته لإستئناف المفاوضات بين حكومتين رهينتين للميليشيات، حيث ترفض كل واحدة منهما الإعتراف بشرعية منافستها. والذي يزيد الأمور تعقيداً، إنتهاء ولاية الحكومة المُنتَخَبة في طبرق في 20 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، الأمر الذي وضع مكانتها في خطر بإعتبارها الحكومة الوحيدة المُعترف بها رسمياً من قبل الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة.
إذا سارت الأمور بشكل إيجابي، فسوف تشمل بنود أي إتفاق سلام تعيين رئيس واحد لكل إدارة في كافة الإدارات والوكالات الحكومية، بما في ذلك المؤسسة الوطنية للنفط. على الورق، فإن هذا سيعيد “حياكة” أجزاء ليبيا معاً مرة أخرى – ولكن طبرق أثبتت فعلياً تجاهلها لهذه الإتفاقات. فهي لا تزال تسعى بنشاط إلى جذب الزبائن نحو المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لها وسحبهم من منافستها في الغرب.
حتى الآن، لم تنجح في وضع الصيغة النهائية لأي صفقة (على الأقل علناً) – ولكن هذا قد يتغير اذا تمكنت من مواصلة تعزيز قبضتها على مرافق إنتاج النفط وتصديره. وقال المغربي أخيراً أن المؤسسة الوطنية للنفط تخطط لشحن مليون برميل من النفط الخام لمشترين في الأسابيع المقبلة.
وتحاول طبرق أيضاً تنفيذ تهديداتها بالضغط على طرابلس. في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) أعلنت قوات ليبية تُسيطر على موانيء نفطية رئيسية فى شرق البلاد أنها حظّرت تحميل ناقلات النفط بالخام فى ميناء الزويتينة، أحد أكبر موانىء البلاد، إذا كانت عقود الناقلات موقّعة مع الحكومة الموازية في طرابلس وذلك فى تصعيد لصراع السيطرة على الميناء. وقد أجبر هذا الأمر طرابلس على إعلام المشترين أنها قد لا تكون قادرة على الوفاء بإلتزاماتها التعاقدية. وبغض النظر عما قد يتقرر في أي مفاوضات مستقبلية، فقد أظهرت طبرق أنه يمكنها إستخدام قوتها لمنع وصول منافستها إلى مرافق التصدير – وهذا قد يكون حاسماً. “المؤسسة الوطنية للنفط التي ستبدو أكثر جاذبية لشركات النفط الاجنبية تلك التي ستكون لها معظم السيطرة على النفط نفسه”، قال كريستوفر تشيفيز، المدير المساعد لمركز الدفاع الدولي والأمني في مؤسسة “راند”.
على أرض الواقع، يشمل الصراع أكثر بكثير من الحكومتين المتشاحنتين. تتألف ليبيا من عشرات القبائل، ولكلٍّ منها مصالحها الخاصة والولاءات المتغيرة. “هناك سؤال حول مدى القدرة الفعلية التي تتمتع بها القوى السياسية للسيطرة على الميليشيات المهمة على الارض”، قال تشيفيز. “أعتقد أن كل هذا يعود الى من يسيطر على النفط، كما يتعلّق الأمر بالتحالفات على الأرض، وأي قوى سياسية تسيطر على المواقع والمرافق داخل ليبيا”، مضيفاً.
إبراهيم الجضران هو مثال جيد – وحاسم. كان الشاب البالغ من العمر 34 عاماً زعيم ميليشيا في أثناء ثورة 2011، وعيِّن قائداً لقوات حرس المنشآت النفطية الليبية من قبل الحكومة الإنتقالية التي كانت لا تزال موحّدة في العام 2012. ولما كان أصلاً من المدينة الشرقية “أجدابيا”، فقد كان زعيم الميليشيا المارق مؤيداً علناً لنظام فيديرالي في ليبيا، وكثيراً ما إستخدم سلطته لفتح أو إغلاق الموانئ النفطية، قاطعاً بذلك صادرات النفط – وبالتالي الرواتب – عندما لا يتفق مع أيٍّ من الحكومتين.
“كان واحداً من الأسباب الأولية للهبوط الحاد في إنتاج النفط الليبي الحصار الذي فرضه إبراهيم الجضران في آب (أغسطس) 2013″، قال بورتر. لقد واصل قائد الميلشيا تكتيك التوقف وقطع النفط في تحدٍّ لكلا النظامين، حتى أنه حاول سرقة ناقلة محمَّلة بالنفط الخام لبيعه في السوق السوداء. وقد أُوقِفت السفينة في نهاية المطاف من قبل البحرية الأميركية قبالة سواحل قبرص.
ويجب عدم التقليل من قوة الجضران. في الواقع، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام المحلية، لقد كان هو، وليست حكومة طبرق، الذي قام بإغلاق ميناء زويتينة أخيراً. وكما يشير بورتر إن الجضران، وليست طرابلس أو طبرق، من يسيطر حقاً على الصادرات.
“هناك هذا الإنفصال بين الأفراد الموجودين على الأرض الذين يناضلون من أجل السيطرة على هذه الأصول الهيدروكربونية المختلفة ومجموعة مختلفة من الناس في طرابلس الذين يسيطرون على المؤسسات البيروقراطية التي تحوّل فعلاً النفط الخام إلى مال”، قال. مضيفاً: “حتى لو كانت لدينا حكومة وحدة وطنية، فمن الممكن جداً أن القوى عينها التي أدّت إلى إنهيار قطاع النفط والغاز قبل إندلاع الحرب الأهلية سوف تعاود الظهور”.
في نهاية المطاف، ليست الأمم المتحدة، ولا طبرق، ولا طرابلس، من يحدّد المصير السياسي والإقتصادي في ليبيا: الميليشيات والقبائل هي التي تفعل ذلك. “إذا كنت تريد أن تفعل أي شيء في تلك البلاد، عليك إشراك القبائل المحلية، والمجتمع المحلي” ، قال الموظف السابق في “الشركة العربية العامة للبترول” الليبية.
“السياسيون! ليس بين أيديهم سوى بيع الكلام … وليس أكثر من ذلك”، مضيفاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى