لماذا لن يتدفق النفط سريعاً من صوابير إيران

على الرغم من إجماع العديد من الخبراء ومراقبي أسواق الطاقة أن الاتفاق النووي الإيراني سيدفع أسعار النفط إلى الهبوط في سوق متخمة بالمعروض، إلا أنهم يعتقدون أن تأثير النفط الإيراني لن يكون كبيراً في الأسعار قبل العام 2016.
وحتى بعد العام 2016 ترى وكالة الطاقة الدولية أن إيران ستلجأ إلى الزيادة التدريجية في طاقتها الإنتاجية من النفط حتى لا تخاطر بإنهيار جديد في الأسعار. ولكن من المؤكد أن أسعار النفط ستتأثر لبعض الوقت خلال شهور، حينما تبدأ إيران بيع مخزوناتها النفطية العائمة التي تقدّر بما يراوح بين 25 و37 مليون برميل.
وحسب تقديرات مصارف “سيتي غروب” الأميركي و”يو بي إس” السويسري و”كوميرسبانك” الألماني في مذكراتها للعملاء، “فإن إيران لن تتمكن من زيادة إنتاجها بأكثر من 500 ألف برميل قبل نهاية العام الحالي”.
ولكن، هل حتى هذه الزيادة ممكنة حقاً؟

مصفاة عبادان: يعود تاريخها إلى عهد الشاه
مصفاة عبادان: يعود تاريخها إلى عهد الشاه

طهران – هشام الجعفري

حتى قبل وصول مجموعة الدول الخمس (أميركا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا) زائد ألمانيا إلى إتفاق نهائي مع الجمهورية الإسلامية بشأن برنامجها النووي، فإن شركات النفط العالمية والمستثمرين كانوا يسعون فعلياً إلى ثروة إيران الهيدروكربونية الهائلة، فيما كان المسؤولون في قطاع النفط الإيراني من حهتهم ينشرون بيانات وإعلانات متفائلة بالنسبة إلى إحتمالات صادرات الطاقة بعد رفع العقوبات. ولكن، مع ذلك، يبدو بأن الصناعة الإيرانية نفسها قد لا تكون مستعدة تماماً لهذا التفاؤل.
لقد تم تنفيذ الصفقة التاريخية مع إيران في 14 تموز (يوليو) الفائت، وبموجبها سوف تتوقف العقوبات، التي خفّضت صادرات النفط الإيراني إلى أكثر من النصف، تدريجاً. حالياً، تبيع إيران حوالي 1.2 مليون برميل يومياً من النفط، إنخفاضاً من 3,580,000 برميل يومياً في النصف الأول من العام 2012 في الوقت الذي كانت العقوبات الأميركية سارية المفعول منذ العام 2010، ومن ثم إلى 2.5 مليوني برميل في منتصف العام 2012، مباشرة قبل أن تأخذ العقوبات الأوروبية تأثيرها. وحتى مع التخلّص من عقوبات الولايات المتحدة وأوروبا فإن صادرات النفط الخام الإيراني على الأرجح لن تنتعش على الأقل قبل منتصف العام 2016. وعندما يحدث ذلك، سوف تواجه طهران منافسة شرسة مع إنخفاض أسعار النفط العالمية، لا سيما وأن الدول المنافسة – بالتحديد العراق والكويت، والمملكة العربية السعودية — صار لها موطئ قدم في الأسواق الآسيوية الناشئة.

إصلاح الهياكل الأساسية المتهالكة

عانت صناعة النفط الإيرانية التي كانت مزدهرة سابقاً من إنتكاسات هائلة منذ العام 1979. كانت طهران تنتج قبل “ثورة الخميني” أكثر من 5.8 ملايين برميل يومياً من النفط مع قدرة محتملة تُقدّر ب6.3 ملايين برميل، مما جعلها ثاني أكبر دولة مصدِّرة للنفط ورابع أكبر منتج للنفط في العالم. وكانت طهران تملك في حينه تسعة مصاف تعمل بشكل جيد وإثنتين قيد الإكتمال، الأمر الذي أعطى إيران القدرة على تلبية الإحتياجات المحلّية والتصدير على حد سواء.
قبل الثورة الإيرانية، كانت شركة النفط الوطنية الإيرانية تُدَار بشكل جيد ولا تعمل فقط في إيران، ولكنها أيضاً كانت تدير إستثمارات دولية وعمليات تكرير في الهند وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية. وقد توصلت شركة النفط الوطنية الايرانية إلى إتفاق مبدئي لدخول الأسواق الأميركية لتكرير وتوزيع المنتجات البترولية، وكانت على وشك الإنتهاء من إنشاء عملية مماثلة في أوروبا.
في تلك الأيام، كانت لدى إيران أيضاً خطط وليدة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الذرية. وقد شاركت غالبية الدول في أوروبا وأميركا الشمالية تقريباً في هذا العمل، وتحديداً فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، حيث عرضت على إيران المساعدة في تقديم المعرفة الفنية النووية. في الواقع، تم بناء أول محطة للطاقة النووية الإيرانية في العام 1978 بواسطة مقاول ألماني، وكانت محطة الطاقة الثانية قيد الإنشاء ويشرف على بنائها مقاول فرنسي في عهد الشاه. منذ قيام الثورة، عانت صناعة النفط والغاز الإيرانية وتكبّدت خسائر فادحة بسبب الفساد وغياب الإدارة المهنية والخبرة، والركود التكنولوجي، والإفتقار إلى رأس المال، وضعف الإستثمار في البنية التحتية.
ومما زاد الطين بلّة ولم يساعد الوضع أبداً تلك الأضرار التي خلّفتها الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، بما في ذلك الأضرار التي لحقت بأجزاء كبيرة من مصفاة عبادان، التي كانت تعتبر أكبر مصفاة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، فضلاً عن العديد من وحدات الإنتاج وخطوط الأنابيب سواء في البر أو في البحر في الخليج العربي.
الأضرار التي حدثت خلال الحرب بين إيران والعراق دمّرت الإقتصاد الإيراني، وفي محاولة لإنعاش هذا الإقتصاد وكسب المزيد من الدخل زادت طهران إنتاجها النفطي بشكل مفرط، مما أسفر عن أضرار جيولوجية في الخزانات. للتخلص من هذه الأضرار، تحتاج ايران إلى وقت طويل ومال طائل. وعلى الرغم من أن العقوبات الدولية قد خفّضت إنتاج النفط بواقع مليون برميل يومياً، فإن سوء الإدارة والفساد المزمن كانا مسؤولين عن خفض إنتاج النفط إلى النصف تقريباً مما كان في عهد الشاه قبل الثورة.

الخام يتكلّم

إذا وُضِعت العقوبات جانباً، فإن إنتاج النفط الإيراني بحد ذاته عرف ركوداً منذ فترة. وقد أدى تباطؤ هذا الإنتاج إلى مشاكل عديدة: إنخفض الضغط في الخزانات النفطية الإيرانية، مما أدّى بدوره إلى إبطاء وهبوط الإنتاج؛ كما أدّت فترات طويلة من القيود التقنية على العمليات إلى تدني معايير الآلات السيئة أصلاً. من جهة أخرى فإن الشيخوخة الطبيعية لحقول النفط في البلاد تعني أنها لن تنتج بالقدر عينه كما في السابق. الواقع أن الصناعة الهيدروكربونية الإيرانية، المحرومة من التقدم التكنولوجي، والإستثمار الخارجي، والإدارة الجيدة، هي في حالة تراجع متقدِّمة وتتطلب إهتماماً فورياً.
مع ذلك، فإن وزير النفط الايراني، بيجان نامدار زنكنه، الذي من المؤكد أنه يعلم الحالة السيئة لهذه الصناعة، قد أصدر وعوداً متفائلة بشأن الإكتشافات النفطية، وإنتاج الغاز، وإمكانات البتروكيماويات، والمصافي الجديدة في البلاد. قال زنكنه، الذي تولّى منصبه في منتصف العام 2013، للمؤتمر الوزاري لدول منظمة “أوبك” في فيينا في كانون الأول (ديسمبر) 2013 أن “إحياء حصة إيران التي خسرتها في سوق النفط هو أمر في قمة أولوياتي. سوف نحافظ على حصتنا في السوق ولن نقبل بتخفيضها حتى ببرميل واحد تحت أي ظرف من الظروف، ولن نتخلّى عن حقوقنا بشأن هذه المسألة. سنصل الى أربعة ملايين برميل يومياً من إنتاج النفط، حتى لو إنخفض سعر الخام إلى 20 دولاراً للبرميل، وسوف نكون قادرين من الوصول إلى مستوى صادرات ما قبل العقوبات في مطلع العام المقبل”. وفي آذار (مارس) من هذا العام، أعلن زنكنه أن إيران سترفع صادراتها النفطية بمقدار مليون برميل يومياً في غضون شهرين بعد إنتهاء العقوبات، وضخ أربعة ملايين يومياً في غضون ثلاثة أشهر. وأخيراً، قال خلال إجتماع في نيسان (إبريل) في طهران مع وزير النفط الفنزويلي أسدروبال شافيز، انه ينبغي على منظمة “أوبك” أن تستعد وتعد نفسها لزيادة إنتاج النفط الإيراني إلى مستويات ما قبل العقوبات.
لكن، يبدو حسب معظم الخبراء بأن بيانات زنكنه هي مفرطة في التفاؤل، والإطار الزمني الذي يقترحه أمر مستحيل التحقيق. وفقاً لتقرير صدر في أيلول (سبتمبر) الفائت عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية، يمكن لإيران زيادة إنتاجها من النفط فقط ب300،000 برميل يومياً في النصف الثاني من العام 2016. وفي الواقع، تعتقد إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن إيران لن تزيد إنتاجها النفطي بشكل كبير على مدى ثلاث إلى خمس سنوات أخرى. في جزء منه، لأن العقوبات سيتم رفعها تدريجاً، وفقط إذا ما تصرفت إيران بحسن نية ضمن إطار إجراءات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إن عملية تحقق الوكالة، والتي سوف تحدّد مدى إلتزام إيران بإلتزاماتها المُكتَشفَة حديثاً، قد تستمر من ستة إلى 12 شهراً. وحتى إذا رُفعت عقوبات الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، فمن المرجح أن تبقى العقوبات الأميركية لبعض الوقت، لأنها تتشابك مع قوانين، وولايات، وأوامر تنفيذية رئاسية – التي تشكّل كلّها عقبات لتطلعات صادرات إيران.
للتأكيد، إن الوعود الكاذبة والإفراط في التفاؤل ليسا شيئاً جديداً في صناعة النفط الإيرانية. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، أعلن وزير النفط الإيراني آنذاك رستم قاسمي عن توقيع إيران على عقد مع شركة “سينوبك” الصينية لبناء خمس مصاف جديدة. في ذلك الوقت، قال قاسمي: “إن بناء هذه المصافي سيزيد إجمالي الطاقة التكريرية للنفط في البلاد من 1.65 مليون برميل يومياً في الوقت الحاضر إلى 3.5 ملايين برميل. وهذه المصافي ستسمح لبلادنا ليس فقط تلبية الإحتياجات المحلية، ولكن أيضاً لتكون قادرة على تصدير كميات كبيرة من المنتجات المكرَّرة”. حتى الآن، لم يتم إنجاز أي شيء من هذه الصفقة. وقال قاسمي في مقابلة مع وكالة “ريا نوفوستي”، في تموز (يوليو) 2012، أن ثماني مراحل من حقل بارس الجنوبي (المشترك مع قطر)، مع طاقة إنتاجية متوقّعة تبلغ 250 مليون متر مكعب يومياً من الغاز الطبيعي، سيتم الإنتهاء منها في 21 آذار (مارس) 2014، ليتزامن ذلك مع السنة الإيرانية الجديدة. ولكن مرة أخرى لم يكن هناك أي تنفيذ، بل وعود فارغة فقط.
أما بالنسبة إلى وفاء شركة النفط الوطنية الإيرانية بوعودها هذه المرة، فلا تبدو الأمور جيدة.

أوقات عصيبة

منذ توقّف أوروبا عن إستيراد الخام الإيراني في منتصف العام 2012، وشركة النفط الوطنية الإيرانية تبيع الخام بخصم كبير لإغراء الزبائن في شرق آسيا. هذه الممارسة، مع ذلك، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد – خصوصاً مع إستمرار إنخفاض الأسعار العالمية. حالياً، تنتج كلٌّ من روسيا والمملكة العربية السعودية كميات هائلة من النفط، في حين تشهد الولايات المتحدة طفرة النفط الصخري. كما أن تباطؤ الإقتصاد في شرق آسيا يعني إنخفاض الطلب على النفط في سوق الطاقة الساخنة سابقاً. الواقع أن النفط الرخيص موجود في كل مكان، وشركات النفط الكبرى تخفِّض إستثماراتها في مشاريع جديدة، وشركات الخدمات النفطية تدرس وتسعى إلى تسريح محتمل لآلاف العمال. ومن جهتها تبدو شركات النفط الآن أكثر إنتقائية من أي وقت مضى للمكان الذي تودّ الإستثمار فيه، وإيران قد لا تكون في أعلى القائمة، على الرغم من أن طهران عرضت إتفاقات جذابة لتقاسم الإنتاج، فضلاً عن خفض سعر النفط الخام.
أعلنت وزارة النفط الإيرانية خلال مؤتمر في فيينا في شهر تموز (يوليو) الفائت، أن شركة النفط الوطنية الإيرانية قد حدّدت العديد من مشاريع النفط والغاز المُحتَملة التي قد تتطلب 200 مليار دولار من الإستثمار قبل العام 2020. وفي أوائل آب (أغسطس)، أفاد سعيد غافمبور، المدير العام للتخطيط الإستراتيجي في شركة النفط الوطنية الإيرانية، بأن صناعة النفط في إيران بحاجة الى إستثمار 100 مليار دولار في الشهر لمدة خمسة أشهر على الأقل لتكون قادرة على الوصول إلى مستويات إنتاج ما قبل العقوبات. ولجذب هذا النوع من الإستثمارات، قال وزير الصناعة رضا نعمت زاده أن الشركات الأجنبية يمكن أن تشارك في الخصخصة المُزمعة لشركات النفط الإيرانية المملوكة للدولة حالما يتم رفع العقوبات. إن هذا النموذج الجديد لإعطاء المنتجين العالميين حصة أكبر في أيّ ربح من مشاريع النفط والغاز الخمسين المُقترَحة من طهران، يُعتبر تغييراً عن إتفاقات إعادة الشراء الحالية الأقل مواتاة التي تحظّر على شركات النفط الحصول على حقوق الملكية. وفي غضون ذلك، أعلن مسؤولون إيرانيون أن البلاد لن تفرض قيوداً على الإستثمارات الأجنبية في صناعات الطاقة في إقتصادها الجديد بعد رفع العقوبات.
مع ذلك، حتى لو قال الوزراء الإيرانيون أن البلاد تتحرك بعيداً من ملكية الدولة، فإن الدستور الحالي للجمهورية الإسلامية يقول خلاف ذلك. إن اللغة الدستورية لا تزال تحظّر الملكية الأجنبية للنفط والغاز، الأمر الذي يجعل عقود تقاسم الإنتاج مستحيلة وغير قابلة للتنفيذ، على الرغم من أن حصة في إنتاج حقل نفطي يمكن إعتبارها كدفعة مالية لإستثمار شركات النفط. لكن شركات النفط لا يمكنها وضع كميات محتملة ومتوقَّعة نظرياً من النفط الإيراني تحت الأرض في موازناتها العمومية.
ويُجمع العديد من الخبراء بأنه ينبغي على شركات الطاقة التي تعتزم القيام بأعمال تجارية في إيران أن تكون حذرة من الوقوع في مشاكل في قطاع الطاقة في البلاد. فهو قطاع يهيمن عليه فساد مزمن وسوء إدارة. كما أنه لا يزال هناك خطر ماثل أبداً وهو أن الإتفاق النووي قد ينهار وبالتالي ستعود العقوبات إلى مكانها. وهكذا فإن الإستثمارات في صناعة النفط الإيرانية تبقى محفوفة بالمخاطر، وقد تستغرق عشر سنين أو أكثر لتؤتي ثمارها. المستثمرون يعرفون ذلك، وليس هناك ما يدعو إلى الإعتقاد بأنهم سوف يتدافعون إلى البلاد.
إن إزالة العقوبات ربما تعزز الإقتصاد الإيراني، ولكن قبل أن يتم رؤية هذه الآثار، فإن تدفق السيولة في الإقتصاد الإيراني سيوفّر للمتشدِّدين في الحكومة وقوات الحرس الثوري الإسلامي رصيداً من النقد، مع كون الأخير المستفيد رقم واحد لنهاية العقوبات. وخلافاً لموقف واشنطن القائل بأن رفع العقوبات سيعزز الإقتصاد الإيراني، الذي من شأنه أن يخفف من حدة مواقف المسؤولين الإيرانيين وتعزيز سلوك أفضل داخل طهران، فإن تعزيز الإقتصاد من المرجح أن يزيد دخل المتشدّدين وتأثيرهم في السياسة المحلية والخارجية والإقتصاد الوطني. إن إزالة العقوبات ستعزز أيضاً قوات الحرس الثوري، الأمر الذي سيسفر عن خلق بيئة حيث يصبح إنتشار الأسلحة النووية وعدم الإستقرار في المنطقة أكثر إحتمالاً. إن سنوات من الركود ضمن قطاع النفط الإيراني لا يمكن أن تصحيحها وتصليحها بين عشية وضحاها، تماماً كما لا يمكن رفع العقوبات في يوم واحد. يجب على الحكومات والشركات النفطية أن تكون حذرة من الإندفاع إلى إيران عندما يكون رفع الأحمال الثقيلة لا يزال أمامنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى