وباء الكوليرا يهدّد الشرق الأوسط

صرّح مدير صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة “يونيسيف” في العراق بيتر هوكينز بأن تفشي مرض الكوليرا في العراق إمتد إلى سوريا والبحرين والكويت، وهناك خطر من تحوّله إلى وباء إقليمي مع إستعداد أعداد كبيرة من الزوار الشيعة للتوجه إلى العراق.
ورُصِد المرض، الذي يمكن ان يؤدي الى الوفاة بسبب الجفاف والفشل الكلوي خلال ساعات إذا لم يُعالَج، غرب العاصمة بغداد في أيلول (سبتمبر) وأصاب منذ ذلك الحين 2200 شخص على الاقل وتسبب بوفاة ستة.
وقال هوكينز: “إن الوباء نشط إقليمياً فعلياً، ويمكن أن تزيد مخاطر هذا الأمر بمجيء أناس من شتى أنحاء المنطقة إلى العراق والكويت والبحرين وسوريا التي فيها بالفعل حالات إصابات مؤكدة”.
وتتوافد أعداد كبيرة من الشيعة إلى العراق في كانون الأول (ديسمبر) لإحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين. وأفاد هوكينز أن “اليونيسيف” تعمل مع شخصيات دينية في مدينتي النجف وكربلاء الشيعيتين لتوفير المعلومات عن سبل الحماية من الكوليرا التي تتوطّن في العراق.

اللاجئون في لبنان: قد يحملون معهم الكوليرا
اللاجئون في لبنان: قد يحملون معهم الكوليرا

بيروت – كريستل بدروسيان*

كان آخر تفشٍّ كبير لوباء الكوليرا يضرب أفريقيا والشرق الأوسط في عامي 1997 و1998. وقد عانى جرّاء ذلك أكثر من 200،000 شخص وتوفي 8000 فيما إنتشر المرض من جنوب موزامبيق وصولاً إلى القرن الإفريقي وإلى الشرق الأوسط. الآن يبدو أن وباء الكوليرا قد عاد. وهذه المرة يمكن أن يكون أسوأ من ذلك بكثير.
كما في العام 1997، فإن تفشي اليوم، والذي بدأ يتكشّف في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا، يتزايد خلال حدث مناخ “النينيو” الذي يحوّل الأنماط الطبيعية للمطر والجفاف على الكوكب، ناشراً بكتيريا الكوليرا التي تنقلها المياه. لكن الإندلاع هذا العام له أبعاد خطيرة إضافية: إنه يتغذّى للإنتشار من الحرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ووجود مساحات واسعة غير محكومة، وضعف الحوكمة في المنطقة، وأزمة لاجئين هائلة.
على الرغم من أن نطاق الإندلاع الحالي ما زال معتدلاً حتى الآن، مع أقل من 11،000 إصابة مؤكدة، فقد إنتشر عبر فسحة أكبر بكثير من وباء العام 1997، حيث وصل إلى عدد أكبر في الشرق الأوسط، ولا يزال يهدد بالسفر مع اللاجئين إلى منطقة جغرافية أوسع. وعلاوة على ذلك، هناك سبب كافٍ للإعتقاد بأن إصاباته الرسمية أقل مما هي عليه بشكل صارخ.
لقد أُصيب 2000 شخص على الأقل في العراق بالكوليرا منذ منتصف أيلول (سبتمبر)، وقد لوّثت بكتيريا “الضمة” (Vibrio ) نهر الفرات، وربما دجلة كذلك. ويتفشّى الوباء وسط فشل قدرات الدولة في بغداد، وأسوأ “دولة” فاشلة في محافظة الأنبار وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، ومعسكرات الملايين من اللاجئين السوريين وغيرهم من النازحين الذين لا مأوى لهم، وأمطار قاسية تغلق أجزاء من أفريقيا والشرق الأوسط بفضل واحدة من أسوأ ظواهر النينيو” المناخية في المحيط الهادئ في التاريخ المُسجَّل.
في تشرين الأول (أكتوبر) قالت الجمعية السورية الأميركية الطبية، وهي منظمة غير حكومية تُقدم المساعدات داخل البلاد التي مزّقتها الحرب، أنه “من المرجح جداً” أن طفلاً يعيش خارج حلب قد توفي من الكوليرا، وربما يعود ذلك إلى عدوى على نطاق واسع في المنطقة. منذ كانون الثاني (يناير)، أفادت اليونيسيف عن وجود أكثر من 105،000 حالة إسهال حاد أصابت الأطفال السوريين داخل البلاد، على الرغم من عدم وجود مختبرات متاحة هناك لتحديد سبب العدوى لمعظم الأمراض. بعضٌ من هذه الحالات، وربما أكثرها، قد يكون بسبب الكوليرا.
وهناك سبب للخوف من إنتشار الوباء أبعد من ذلك أيضاً. وقد أكد مسؤولون أتراك لمواطنيهم بأن لا وجود لحالات الكوليرا بين اللاجئين السوريين الذين يعيشون في هذا البلد. في لبنان، حيث الملايين من اللاجئين يقيمون والفوضى الحكومية تواجه أزمة جمع القمامة منذ ما يقرب من أربعة أشهر، حذّر الأطباء من أن الظروف مهيأة لإنتشار هائل للمرض. في 2 تشرين الأول (اكتوبر)، وضع مسؤولو الصحة اليونانيون سائحاً هولندياً في العلاج في أثينا بعدما أُصيب بإسهال حاد في جزيرة كوس، التي تشكل نقطة وصول لآلاف اللاجئين السوريين. وعلى الرغم من أنه كان هناك تخوف من الكوليرا لكن ذلك لم يتأكد أبداً. ومع ذلك، هناك قلق متزايد في أوروبا من حمل اللاجئين لكوليرا الضمة (Vibrio cholera).
لكن أزمة الكوليرا هذا العام ذهبت بالفعل إلى أبعد من حدود العراق أو حتى نهري دجلة والفرات.

وباء إفريقي وشرق أوسطي

حتى 22 تشرين الأول (أكتوبر)، بلغ رسمياً عدد الإصابات في شرق أفريقيا والشرق الأوسط بهذا الوباء 10,700 حالة، مع 170 حالة وفاة في تنزانيا وجمهورية الكونغو الديموقراطية وأوغندا والعراق والبحرين وكينيا وجنوب السودان والكويت وإيران والمناطق الكردية والمناطق التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”، على الرغم من أن الأرقام بالتأكيد لا تقول القصة بأكملها نظراً إلى ظروف الحرب وتدهور الخدمات الطبية في المنطقة. تنزانيا، وحدها، أفادت بأن هناك 5000 حالة لديها منذ آب (أغسطس)، مع 74 حالة وفاة. وقد قام “أطباء بلا حدود” بحملة تطعيم واسعة النطاق في تموز (يوليو)، شملت 130،000 لاجئ داخل تنزانيا الذين تجرّعوا مرتين من جرعات التطعيم من طريق الفم المطلوبة للحماية. وذكرت الكونغو بأن لديها 4000 حالة، منها 95 حالة وفاة. (عرفت الكونغو جولات عدة من الكوليرا منذ العام 1994، عندما هرب أكثر من مليون لاجئ من الإبادة الجماعية في رواندا، الذين إستقروا على قمة منطقة بركانية خارج “غوما”، مع غياب كامل للمراحيض ومرافق المياه العذبة). في ضاحية واقعة في جنوب غرب أوغندا تُدعى “هويما”، حيث يعيش حوالي 20,000 لاجئ من الكونغو ورواندا وبوروندي وجنوب السودان والصومال وكينيا في مخيم في ظروف سيئة، إندلع وباء الكوليرا في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) عقب هطول أمطار غزيرة على نحو غير عادي. حتى 23 تشرين الأول (أكتوبر)، تم نقل 130 شخصاً مصاباً الى المستشفى، وتوفي ستة.

ما هي الكوليرا؟

الكوليرا، والتي تُعرف أحيانا بإسم الكوليرا الآسيوية أو الكوليرا الوبائية، هي أمراض معدية تُسببها سلالات جرثومة ضمة الكوليرا المُنتجة للذيفان المعوي، وتنتقل الجرثومة إلى البشر من طريق تناول طعام أو شرب مياه ملوَّثة ببكتيريا ضمة الكوليرا من مرضى كوليرا آخرين. ولقد كان يُعتقَد لفترة طويلة أن الإنسان هو المستودع الرئيسي للكوليرا، ولكن تواجدت أدلات كثيرة تفيد على أن البيئات المائية يمكن أن تعمل كمستودعات للبكتيريا.
ضمة الكوليرا هي جرثومة سلبية الغرام متحركة، وتهاجم خلايا الأمعاء عبر إنتاج ذيفان فتسبب فقدان الجسم لكميات كبيرة من الأملاح والمياه وبالتالي تسبب إسهالاً حاداً قد يؤدي إلى الوفاة. وقد ينخفض ضغط الدم بسببها في الشخص السليم إلى مستويات متدنية جداً في غضون ساعة من بداية ظهور أعراض المرض؛ وقد يموت المرضى المصابون في غضون ثلاث ساعات إذا لم يتم تقديم العلاج الطبي. وفي السيناريو الشائع، يتطور المرض من البراز السائل أولاً إلى صدمة في غضون 4 إلى 12 ساعة، حيث يأتي الوفاة في غضون 18 ساعة إلى أيام عدة، ما لم يُقدّم العلاج الإماهي من طريق الفم (أو في الوريد، في الحالات الأكثر خطورة).
يمكن لبكتيريا الكوليرا السفر من مكان إلى آخر عبر طريقتين: من خلال شبكات المياه أو من طريق شخص مصاب. عندما يتم التخلص من النفايات البشرية الملوّثة وإلقاؤها في نهر، تذهب الكوليرا إلى المصب. والمواد الغذائية التي يتم ريّها بالماء الملوَّث، ومن ثم تُشحن إلى منطقة أخرى أو بلد آخر، قد تحمل المرض إلى مناطق جديدة إذا أُكِلت المنتجات خاماً من دون غسل. في العام 1979، كنت في تنزانيا عندما إنتشر وباء الكوليرا بشكل هائل بواسطة “الكاجو” الذي تم تعبئته من قبل عاملين مُصابين بأيدٍ غير مغسولة. من ناحية أخرى، قد يحمل مسافرون دوليون الكوليرا من دون معرفتهم ويمررونها مع نفاياتهم، ناشرين بكتيريا الضمة (Vibrio ) من بلد إلى آخر.
“الكوارث التي هي من صنع الإنسان أو الطبيعية يمكنها أن تكثّف مخاطر الأوبئة بشكل كبير، كما يمكن أن تفعل ظروف مخيمات اللاجئين المزدحمة. إن التفشي المدمّر مع إرتفاع معدلات حالات الوفاة غالباً ما يكون النتيجة”، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. “بالإضافة إلى المعاناة الإنسانية الناجمة عن الكوليرا، فإن تفشي وباء الكوليرا يسبب هلعاً وتمزّقاً في البنية الإجتماعية والإقتصادية، ويمكن أن تعوق التنمية في المجتمعات المتضررة”، مضيفة.

دور المناخ والطقس

يلعب المناخ والطقس دوراً رئيسياً. في وباء 1997-1998، إنتشر المرض يسرعة بسبب الأمطار الغزيرة والإنهيارات الطينية الناجمة من تغيّر المناخ الدوري الذي يحدث عندما تتغير الرياح العابرة، لأسباب غير معروفة، دافعةً تيارات المحيطات الجارية خارج أنماطها العادية. ويُسمّى هذا النمط من المناخ “النينيو”. ويحدث هذا النظام عندما يظهر إنتفاخ في منطقة المحيط الهادئ الإستوائية وعندما تتوقف الرياح التجارية، الأمر الذي يتيح للمياه بالركود والتسخّن، ويولد ظواهر جوية دراماتيكية. إن غضب “النينيو” عادة يتميّز بالجفاف من القرن الأفريقي إلى الهند وأوستراليا؛ وعواصف غزيرة في شرق أفريقيا وعلى طول ساحل المحيط الهادىء من الأميركتين؛ وإنفجارات من البرد والعواصف الثلجية في الجزر البريطانية وشمال أوروبا. ويقول خبراء المناخ بأن “النينيو” لعام 1997 إحتل المرتبة الأقوى على الإطلاق، مولّداً واحدة من أكثر السنوات بللاً وسخونة لأميركا الشمالية منذ 1895.
ولكن ظاهرة “النينيو” التي تكوّنت على مدى العامين الماضيين في منطقة المحيط الهادئ من المنتظر أن تصبح حتى أكبر من تلك التي حدثت في فترة 1997-1998، التي سبّبها ويسبّبها تغير المناخ، الذي رفع درجات الحرارة في محيطات العالم. جنباً إلى جنب مع تغيّر المناخ الذي أدّى إلى إرتفاع حرارة البحر، فإن ظاهرة “النينيو” الحالية تبلغ في المتوسط 2-3 درجات مئوية فوق المعدل الطبيعي لهذا الوقت من العام في معظم المحيط الهادىء. ويعتبر العلماء بأن “النينيو” هو نمط للطقس الذي يحدث عندما تبلغ حرارة مجموعة كبيرة من مياه المحيط الهادئ أكثر من نصف درجة مئوية فوق درجات الحرارة العادية موسمياً. في آب (أغسطس)، أصدرت وكالة ناسا صوراً للأقمار الإصطناعية التي تقارن وضع “النينيو” في صيف العام 1997 إلى ما هو عليه قبل ثلاثة أشهر مضت: إن أي شخص يمكنه أن يرى أن تمدّد الإنتفاخ الدافئ الذي ينتشر على كامل خط الإستواء في المحيط الهادئ هو أكبر بكثير في العام 2015. وقد حذّر مسؤولون في حينه من أن الظواهر الجوية الضخمة ستبدأ تحدث في جميع أنحاء العالم.
بحلول منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، بدأت دراما “النينيو” تتكشّف بوضوح. فقد أُلقي اللوم على نظام الطقس لإحتواء الهواء السام في قبة راكدة فوق سنغافورة، التي أرسلت أعاصير قاتلة عبر الفليبين وجنوب شرق آسيا، مما تسبب بالجفاف في أجزاء مُشبعة بالماء عادة في غرب أفريقيا، وهطول أمطار متفرّقة على أجزاء من شرق أفريقيا بقوة وغزارة أدت إلى إنهيارات طينية وفيضانات. كما أُلقي اللوم على التغييرات التي حدثت في أنماط صيد طيور ملك البطريق على “النينيو”، جنباً إلى جنب مع جفاف عام قاسٍ للغاية في شرق أفريقيا بحيث أن الأمم المتحدة حذّرت من أن إنعدام الأمن الغذائي الحاد قد يلوح في الأفق. في 25 تشرين الأول (اكتوبر)، أفاد عَالِم في الغلاف الجوي من جامعة كولورادو بأن “النينيو” قد غذّى إعصار “باتريشيا”، الذي سجّلت رياحه رقماً قياسياً وصل إلى 200 ميل في الساعة.
كان لتأثير “النينيو” في منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب تغير المناخ، شقان: أولاً، وصلت درجات الحرارة من جنوب العراق حتى تركيا إلى مستويات قياسية هذا الصيف، بالغة أكثر من 122 درجة فهرنهايت. وتخيّم الآن على المنطقة كلها حالة جفاف شديد، أسوأ من تلك التي قال بعضهم أنها سبّبت الإنتفاضة السورية في العام 2011 والتي أدّت إلى قمع نظام الأسد والحرب الأهلية الحالية.
الخطوات التي إتّخذتها الحكومة التركية وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وكلاهما قد عرفت أراضيه ظروفاً غير عادية من الحرارة والجفاف بسبب السدود على طول نهر الفرات البالغ 1700 ميل، قد فاقمت تأثير “النينيو” في المنطقة. في أيار (مايو)، بث قادة “داعش” فيديو يُظهر مهاجمته سدود منبع نهر الفرات في تركيا وإعلان نية الجماعة المتطرفة خزن المياه المتبقية وراء سد الرمادي داخل أراضيها المصادرة. تبلغ مستويات المياه الآن نصف المستوى الموسمي المعتاد في العراق وسوريا. كما بانت ظروف بناء سدود مماثلة، ومياه منخفضة، للأسباب عينها، على طول نهر دجلة البالغ 1150 ميلاً، الذي يمتد أيضاّ من تركيا إلى الخليج العربي.

الكوليرا في العراق

بينما الأمطار الغزيرة قد تُعزّز تفشّي وباء الكوليرا، فإن بكتيريا “الضمة” (Vibrio ) تصبح أكثر تركيزاً عندما تنتعش في المياه العذبة التي لا تزال ملوّثة بالفضلات البشرية والحيوانية، مثل تلك الموجودة الآن في سد الفرات. مع كميات أقل من المياه، هناك أقل من التقطير والتخفيف. وهذا يعني إحتمال إحتواء أي كوب معيَّن من مياه نهر الفرات أو خضار مروية بواسطتها على جرعة خطيرة من “الضمة” (Vibrio) التي ترتفع مع إنخفاض مستوى المياه. منذ فترة، في كانون الأول (ديسمبر) 2014، كانت هناك تقارير عن حالات كوليرا داخل مدينة الموصل وفي محافظة الأنبار اللتين يسيطر عليهما تنظيم “داعش”. وذكرت تقارير غير مؤكدة من الموصل في كانون الثاني (يناير) الفائت أن المستشفيات تستقبل يومياً 15 حالة جديدة من الكوليرا. (لم يعلّق “الدولة الإسلامية” على إنتشار المرض). في منتصف شهر أيلول (سبتمبر)، تأكدت حالات الكوليرا الأولى داخل العراق، مع بعضها كان في بلدة أبو غريب، على بعد 15 ميلاً من بغداد. في غضون أيام، إنتشر المرض الى بغداد نفسها، وهناك معلومات تفيد بأنه وصل الآن إلى البصرة في أقصى جنوب العراق، وإلى المدن التي يسيطر عليها الأكراد مثل أربيل ودهوك في الشمال، وإلى مخيمات اللاجئين المجاورة، وإلى مناطق أخرى متعددة من العراق.
أبلغت حكومة بغداد منظمة الصحة العالمية رسمياً عن إندلاع الوباء في 12 أيلول (سبتمبر)، ونشرت فريقاً إستشارياً لوزارة الصحة العراقية. وقد تم حشد فرق النظافة بسرعة للحد من إستخدام مياه الشرب من نهر الفرات وتشجيع غسل اليدين بالصابون والماء النظيف. للأسف، فإن العراقيين معتادون الآن على إحتياطات الكوليرا، إذ أن هذا الإندلاع يمثّل الثالث لهذا المرض منذ الغزو الأميركي في العام 2003. وقد تسبّب الإندلاعان السابقان معاً ب4500 حالة كوليرا و30 حالة وفاة على الأقل. إن الإندلاع الأخير مثير للقلق بشكل خاص لأن قدرة الحكومة العراقية ضعفت بشدة بالنسبة إلى الحكم والحفاظ على البنى التحتية الأساسية، وذلك نتيجة لحربها مع “الدولة الإسلامية”. ولأن ظاهرة “النينيو” قد ولّدت أحداثاً في شرق أفريقيا التي تُسهم في الإنتشار القاري للكوليرا.
أكثر من 10 ملايين عراقي وسوري وكردي يعيشون الآن في ظروف مُزرية، نازحين داخل بلدانهم أو في مخيمات اللاجئين في المنطقة. بين اللاجئين على مدى السنوات الأربع الماضية كان هناك تفشٍّ للحصبة (1000 حالة حالياً داخل العراق)، حمى التيفوئيد وإلتهاب الكبد من فئة أ، حمى القرم-الكونغو النزفية، وحتى شلل الأطفال، الذي كان يُعتبر بأنه قد ولّى من غير رجعة من الشرق الأوسط. الواقع أن الظروف مهيَّأة لوباء الكوليرا الذي قد يستغرق بقاؤه فترة طويلة جداً. وقد ردّ متحدث بإسم منظمة الصحة العالمية على الأسئلة من خلال البريد الإلكتروني حول الأوضاع الراهنة للاجئين، قائلا: “إن الوضع الأمني المتدهور في العراق إلى جانب تعطل الخدمات الصحية العامة وزيادة نزوح السكان يجعل الظروف مواتية لنقل المرض”. وعلاوة على ذلك، فإن منظمة الصحة العالمية قد أكدت أخيراً على وجود لا يقل عن ثماني حالات مرضية بين العراقيين الذين يعيشون في مخيمات داخل البلاد.

المرض في سوريا

وباء الكوليرا الذي بدأ في العراق في منتصف أيلول (سبتمبر) تمدد إلى سوريا التي مزقتها الحرب. من هناك، يمكن لتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين اليائسين حمل المرض ونقله إلى عمق الشرق الأوسط وحتى إلى جنوب أوروبا.
أفاد أطباء الإغاثة الإنسانية العاملون في سوريا بأن ثلاث حالات تأكّدت في مدينتين يسيطر عليهما “الدولة الإسلامية”: دير الزور، شرق سوريا. وحلب، في الجزء الشمالي الغربي من البلاد. مما لا شك فيه أن هذه الحالات ليست سوى غيض من فيض. في ظل أفضل الظروف، يشخّص الأطباء عادة 30 في المئة فقط من حالات الكوليرا التي تحدث أثناء تفشّي الأوبئة؛ في سوريا، حيث تم تدمير المستشفيات والعيادات في غارات جوية، فمن المرجح أن تشخيصهم سيكون أقل بكثير.
إن هذا التفشي كان يمكن التنبؤ به. فكما أسلفنا، يتسبّب بالكوليرا مُمرِض جرثومي ينتشر إلى الناس من طريق الفضلات البشرية ويتفشّى بسهولة من خلال الطعام والمياه الملوّثة. إذا إنتشر إلى مخيمات اللاجئين المُزدحمة حيث مرافق الصرف الصحي بدائية، يمكن للمُمرِض أن يتفشى بسرعة. لقد شُرّد الملايين من الناس داخلياً في سوريا، وقُطعت إمدادات مياه الشرب المُطهّرة من المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة. وقبل ثمانية أشهر، أشارت منظمة الصحة العالمية إلى إمكانية تعرّض البلاد لمرض الكوليرا. ثم قبل شهرين، ضرب الوباء في العراق المجاور، حيث أصاب 15 من 18 محافظة. مع حدود يُسهل إختراقها ونزوح جماعي من السوريين والعراقيين وغيرهم، كان وصول الكوليرا إلى سوريا مجرد مسألة وقت.
الواقع أن هذا المرض قد وجد الآن موطناً في منطقة الشرق الأوسط، حيث مخيمات اللاجئين المكتظة والمستوطنات في بلدات ومدن محرومة من المياه التي توفّر أرضاً خصبة مثالية. في سوريا، أكثر من 13.5 مليون شخص في حاجة إلى المساعدة الإنسانية، بما في ذلك المياه النظيفة والمأوى الآمن، التي يمكن أن تحميهم من الآفات مثل الكوليرا. ما يقرب من مليوني شخص لجأوا إلى تركيا، حيث تعيش الغالبية العظمى في خيام أو في مبان مهجورة ومنازل شبه مهدمة، مع عدم وجود إمكانية الحصول على مياه آمنة أو صرف صحي. في لبنان، حيث لا توجد مخيمات رسمية للاجئين، أكثر من مليون سوري يقيمون في مستوطنات من الخيم غير رسمية ومدن الصفيح. مع وجود نقص فعلي أصلاً في إمدادات المياه — لبنان في خضم سنوات طويلة من الجفاف — فقد تمددت هذه الإمدادات إلى أكثر من طاقتها. في مستوطنة واحدة في بيروت، وصف لاجئون الإمدادات المتضائلة الملوّثة ب “مياه الجحيم”. وفي ظل هذه الظروف، يزدهر وباء الكوليرا وينتعش.
قد لا تصل الكوليرا إلى مستويات وبائية في الشرق الأوسط لأن بكتيريا الكوليرا تنتعش في المياه السطحية الدافئة؛ لذلك فمن الممكن أن تدفعها درجات الحرارة الأكثر برودة في فصل الشتاء إلى السكون. أو أنها تنتقل إلى أماكن يتمتع بها الناس بما يكفيهم من المياه النظيفة الصالحة للشرب والصرف الصحي بحيث لا يمكنها أن تترسخ.
ولكن قد تندلع أيضاً. وعندما تفعل ذلك، فإن عدد الحالات تنمو باطراد، مما يجعل احتواؤها صعباً ومُكلفاً، وغير مؤكد. وهذا هو السبب في أن الطريقة الأكثر فعالية وفعّالة من حيث التكلفة للسيطرة على مسببات الأمراض مثل الكوليرا هي بطردها وحصرها قبل أن يصاب كثير من الناس. لكن منظمة الصحة العالمية، المؤسسة الدولية الرائدة المُكلَّفة تنسيق هذه الجهود، سيئة التجهيز لهذه المهمة.

عدم جهوزية منظمة الصحة العالمية

على الرغم من التحذيرات بأن سوريا هي عرضة لتفشي وباء الكوليرا، فلم يتم إتخاذ الإحتياطات اللازمة. كانت منظمة الصحة العالمية غير قادرة على تنسيق حملة تطعيم جماعية ضد الكوليرا في العراق إلّا بعد ستة أسابيع من إندلاعها هناك، وتركت بلاد الشام عرضة لهذا المرض بشكل خطير. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه الحملة، كان المرض إمتدّ فعلياً خارج بلاد الرافدين إلى بلد مجاور مقسّم ومقطَّع الأجزاء. ولم تتخذ الوكالة الدولية أية تدابير لضمان أن الكوليرا يمكن ملاحظتها ورصدها اذا ظهرت في سوريا. لقد تم تدمير المختبرات القادرة على تشخيص الكوليرا في شمال وشرق سوريا من قبل نظام بشار الأسد. لكن الوكالة فشلت في وضع معدّات للمختبرات التشخيصية التي يمكنها أن تميِّز بسرعة الكوليرا من الأمراض الأخرى، مثل آلات “بي سي آر” (PCR)، في مناطق عبر الحدود يمكن الوصول إليها. لذلك، يتم الكشف عن حالات الكوليرا من خلال إختبارات أكثر بدائية، والتي لا تقبلها منظمة الصحة العالمية كدليل. ونتيجة لهذا الواقع، وعلى الرغم من وجود تدفق مستمر من التقارير عن الأمراض المنتشرة مثل الكوليرا من أطباء المساعدات الإنسانية، فإن سوريا رسمياً في الوقت الراهن، وفقاً للوكالة الدولية، “خالية من الكوليرا”.
والمشكلة مع منظمة الصحة العالمية هي أنها مُقيّدة سياسياً. يجب عليها الحصول على إذن من الحكومات للعمل في أراضيها. في حالة سوريا، هذا يعني أنه يجب على المنظمة العالمية تنسيق أنشطتها من خلال نظام الأسد (النظام عينه الذي دمر ما يقرب من 60 في المئة من المستشفيات العامة في البلاد من خلال الضربات الجوية). وهذا يجعل أنشطة منظمة الصحة العالمية تنحصر على الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة فقط.
من ناحية أخرى، إن منظمة الصحة العالمية أيضاً تعتمد مالياً على مانحين. لقد أفاد تقرير صدر في أيار (مايو) 2014 عن “تشاتام هاوس”، وهو مركز أبحاث بريطاني، إلى أن أكثر من 75 في المئة من موازنة منظمة الصحة العالمية يتم التحكم بها من قبل المانحين الخارجيين الذين يملون كيفية إنفاق تلك الأموال. وكشف تحليل لهذا الجزء من االجهات المانحة في موازنة منظمة الصحة العالمية 2004-2005 أن أقل من عشرة في المئة من هذه الأموال خُصِّصت للأمراض غير المعدية (أمراض القلب والسكري على سبيل المثال) التي تمثل أكثر من نصف جميع الوفيات في جميع أنحاء العالم، وأكثر من ثلاثة أرباعها تحدث في البلدان الفقيرة أو متوسطة الدخل.
هذه القيود تبطئ وتسيِّس عمل منظمة الصحة العالمية. وقد لا تعوق وتيرتها الواهنة جهودها للحد من ظروف إنتشار الأمراض غير المعدية مثل السمنة والسرطان، وإنما هي غير كفوءة بشكل عميق لمواجهة إنتشار أوبئة معدية وخفية التي تتحرك بسرعة. وبفضل تكثيف الإختلال البيئي، والصراع السياسي، والحراك العالمي المتسارع، نحن نواجه المزيد من هذه الأمراض اليوم أكثر من أي وقت مضى. بين عامي 1940 و2004، أكثر من 300 مسببات للأمراض إنتشرت حديثاً بين البشر أو ظهرت في أماكن لم يسبق أن عرفت مثيلاً لها من قبل. فيروس إيبولا والكوليرا، جنباً إلى جنب مع إنفلونزا الطيور، والإلتهاب الرئوي الشرق أوسطي، والإلتهاب الرئوي الحاد، وأشكال جديدة من بكتيريا مُقاوِمة للمضادات الحيوية، كانت من بينها.
مازالت تداعيات الإخفاقات الأخيرة لإحتواء فيروس إيبولا والكوليرا مستمرة بشكل ثقيل؛ لا تزال كلٌّ من هايتي وغينيا في غرب أفريقيا تكافح للسيطرة على هذه الجراثيم الواصلة حديثاً. فيما الكوليرا تأخذ طريقها عبر الأزقة وتتعرض لخيام اللاجئين الرثة في شمال سوريا، من المنتظر أن يتفشى وباء غير مسبوق على نحو مماثل في الشرق الأوسط. والفرق هو أن تجنبه لا يزال ممكناً. ولكن الوقت للعمل هو الآن.

نوع الكوليرا في المشرق العربي

وسط هذه الأزمة القاسية والخطيرة، هناك بعض الأخبار الجيدة. في البلدان الأفريقية والشرق أوسطية المتضررة، فإن نوع الكوليرا هو نفسه: سلالة إينابا. وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، إن ندرة القدرات المختبرية في البلدان المتضررة جعلت من المستحيل فعل التحليل الجيني المفصَّل الذي يستطيع تأكيد أن كل إندلاع ينطوي على طراز عرقي متطابق، ولكنها إفترضت أنه من الكونغو إلى الكويت، كان وباء مشتركاً. وحتى الآن فإن ال1942 عيّنة التي قامت بتحليلها منظمة الصحة العالمية لا تظهر أي علامة على مقاومة للمضادات الحيوية، لذلك فإنه يمكن معالجة المرضى بشكل فعّال إذا وصلوا بسرعة إلى مرافق المستشفى. إن الوفاة بسبب الكوليرا هو الجفاف: تسبب البكتيريا إسهالاً شديداً وفقدان السوائل. إذا تم علاجها في وقت مبكر، يمكن للمضادات الحيوية غير المكلفة والإماهة والترطيب مع مياه صالحة للشرب علاج المرضى في غضون أقل من أسبوع.
تأثر المنطقة كلها بسلسلة “إينابا” هو أيضاً من الأخبار الجيدة لإستخدام اللقاح. لدى منظمة الصحة العالمية مليون جرعة من اللقاح الفموي لمكافحة إينابا. وقد قامت المنظمة في تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري بحملة تطعيم واسعة النطاق في العراق، كما أفاد الناطق عبر البريد الالكتروني، “بإستخدام 510،000 جرعة من مليون المخزون العالمي” للوصول إلى ربع مليون من النازحين واللاجئين العراقيين. وقد إلتزمت الحكومة الأميركية بدفع 37 مليون دولار لحملات النظافة في جميع أنحاء العراق لوقف إنتشار وباء الكوليرا.
في العام 1854، ضرب وباء الكوليرا لندن، وتتبع الطبيب جون سنو الشهير إنتشاره إلى مضخّة مياه تقع في شارع “برود ستريت”. أقنع السلطات المحلية بتعطيل مقبض المضخة وأوقف الوباء. إن قصة مضخة “برود ستريت” يتم تدريسها حالياً كمبدأ أساسي للصحة العامة، ودليل على أن أفضل وسيلة لوقف أي وباء يكمن في منع إنتشار الجراثيم التي تسبب المرض. في الشرق الأوسط اليوم، فإن مضخة “برود ستريت” هي نهر الفرات، وربما دجلة، والذي يعادل كسر مقبض المضخة هو فتح جميع سدود المنبع، والسماح لتدفق المياه بتطهير “ضمة” الكوليرا للخروج الى الخليج العربي.

• خبيرة صحة وتغذية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى