الإنقاذ المصرفي المُعِيب في تونس

أعلن أخيراً وزير المالية التونسي سليم شاكر بأن تونس بدأت خطوات إصلاح في القطاع البنكي، وضخّت 440 مليون دولار لإعادة رسملة اثنين من البنوك العامة، وهما بنك الإسكان والشركة التونسية للبنك، وهي قرارات رحّب بها صندوق النقد الدولي. وأوضح شاكر أن خطة إنقاذ البنوك العمومية مستمرة، وسيتم إستقطاب شركاء فنيين يساعدون في الإقلاع بها. وأشار إلى أن الدولة لن تضخ مزيداً من الأموال لرسملة البنوك، مضيفاً أن الإصلاحات ستشمل أيضاً هيكلة البنك المركزي ليكون أكثر إستقلالية. ولكن إلى أي حد يصح هذا الكلام؟ وهل يتماشى مع ما يجري فعلياً في البلاد؟

الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي: مسؤولية كبيرة أمام حزبه لإعادة تنظيم الوضع المصرفي
الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي: مسؤولية كبيرة أمام حزبه لإعادة تنظيم الوضع المصرفي

تونس – الهادي بدر الدين

في بداية آب (أغسطس)، طالب العديد من البرلمانيين التونسيين الغاضبين حكومتهم بالكشف عن نتائج عمليات المراجعة السرية التي جرت لحسابات مصرفَين تملكهما الدولة. وبعد أيام فقط، وبالتحديد في 7 آب (أغسطس)، جرى تصويت في مجلس نواب الشعب على إنقاذ البنكين – الشركة التونسية للبنك وبنك الإسكان – اللذين كانت غالبية محافظ القروض فيهما قد إستُخدِمت بطريقة سيئة مخالفة للقانون أو هُدرت وضاعت من قبل نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، الأمر الذي أدّى إلى إحتفاظ هذين المصرفين ب”تسونامي” من الديون المعدومة التي بقيت من دون حلّ، وهذا بدوره أثار ضجة علنية وشائعات بأن البنكين متعثّران ومن دون سيولة، وربما مُفلسان.
إن تفاصيل عمليات التدقيق ألقت الضوء على نشاط الإقراض من البنكين خلال أكثر من عقدين من سوء الإدارة في ظل مسؤولين مصرفيين عيَّنهم الرئيس السابق زين العابدين بن علي. خلال تلك الفترة الزمنية، أُجبِرت البنوك على تمويل معظم، إن لم يكن كل، طلبات القروض المُقدَّمة من قبل بن علي وحاشيته. وقد فعلت ذلك من طريق عدّ وإعتبار هذه القروض كهدايا، وفقاً لأحد المصرفيين التونسيين الذي إطّلع على واحدة من عمليات التدقيق المصرفية السرية. عندما كانت تُمنح القروض فإن غالبيتها لم تكن تُسدَّد أبداً. ومنذ سقوط نظام بن علي بعد الثورة في العام 2011، ظلّ البنكان على حالهما ولم يتم إصلاحهما إلى حد كبير، على الرغم من أن الحكومة وعدت بتغيير الإدارتين على المستوى التنفيذي.
شخصيات عدة من داخل دائرة زين العابدين بن علي الداخلية مُدينة لهذين البنكين، ومنذ سقوط النظام القديم في أواخر 2011 تحوّلت هذه الشخصيات وإنضمت إلى صف الحلفاء الرئيسيين لحزب الغالبية الجديد “نداء تونس”، بقيادة الرئيس التونسي الجديد، الباجي قائد السبسي (88 عاماً)، من أجل حماية نفوذها السياسي ومعاملاتها المالية، على حد قول مسؤول مطّلع وعلى دراية بالمعاملات المصرفية في بنوك الدولة. ونتيجة لذلك، يقول، فقد صارت التغييرات فى الإدارة المُخطَّط لها متشابكة في لعبة السلطة، حيث كان على “نداء تونس” وأقرب حلفائه الإقدام على تغيير المعيَّنين الرئيسيين في البنكين بعد 2011 من أجل خلق “توزيع جديد للكعكة”.
وبالتالي فإن خطة الإنقاذ التي يموّلها دافع الضرائب في تونس تسمح للمسؤولين الحاليين والسابقين وحلفائهم بمسح وإلغاء ديونهم بسرية وتحت البساط. في الواقع، كما قالت سعاد بيولي، من حزب الجبهة الشعبية، أمام البرلمان، كان الإنقاذ “محاولة لتمويه الحقيقة”. وإقترح النائب حافظ الزواري من حزب “آفاق تونس” وضع المسؤولين الذين لم يسدِّدوا قروضهم على القائمة السوداء العامة، وقال انه لا يمكنه أن يدعم عملية الإنقاذ خلاف ذلك. وأعلنت النائبة سامية عبو، من “حزب التيار الديموقراطي”، أن إنقاذ البنكين سيكون معيباً من دون معرفة “الوضع الحقيقي”.
في النهاية، لم تُنشَر نتيجة عمليات التدقيق رسمياً أبداً. مع ذلك، قبل التصويت على الإنقاذ، برزت معلومات جديدة تفيد بأن مراجعة حسابات بنك الإسكان عُهدت إلى شركة إستشارية يملكها المنجي بكار الذي كان شقيقه، توفيق بكار، يشغل منصب وزير المالية في عهد زين العابدين بن علي في العام 1999، وبعد ذلك عُيِّن محافظاً للبنك المركزي التونسي من 2004 حتى العام 2011، عندما تمت إقالته من منصبه. ويدّعي بعض المعلومات، أنه في عهد بن علي، مارس توفيق ضغوطاً على الرئيس التنفيذي السابق للشركة التونسية للبنك لمنح شقيقه المنجي قروض غير مضمونة ليتمكّن من شراء ممتلكات كانت ستؤجَّر إلى مؤسسة حكومية (وهو إدعاء نفاه توفيق).
وقد غضب الجمهور التونسي جراء هذه المعلومات. وحتى مع ذلك، بعد بضعة أيام، صوَّت مجلس نواب الشعب في تونس بغالبية ساحقة لصالح خطة الإنقاذ البالغة 867 مليون دينار (440 مليون دولار) المموّلة من دافعي الضرائب لمساعدة البنكين على القضاء على الديون المعدومة.
بعد تمرير خطة الإنقاذ في البرلمان، أعرب كبار المستشارين في الحكومة التونسية عن قلقهم من أن قضايا هيكلية رئيسية – مثل عمليات الشراءات ومراجعة تدقيق الحسابات، فضلاً عن وجود شركات مملوكة للدولة مُثقلة بالديون كعملاء رئيسيين لهذين البنكين – تبقى من دون حل. وهم يعتقدون أنه قبل مرور فترة طويلة، فإن المصرفين سوف يطلبان المزيد من الأموال.

كبيرٌ جداً لكي يفشل

إذاً، لماذا مُرِّرَت خطة الإنقاذ؟ قال لي مستشار حكومي رفيع المستوى أن بعض أعضاء البرلمان الذين كانوا يعارضون خطة آب (أغسطس) للإنقاذ على أساس أنها تفتقر إلى بنود تتعلق بمسؤولية رموز النظام السابق لمساءلتهم، شعروا بأنهم مُلزَمون للتصويت بنعم. مثل الولايات المتحدة، بدت تونس واقعة في وضع “أكبر من أن يفشل”: إن بنوك الدولة الثلاثة الكبيرة لديها بصمة كبيرة في النظام المالي للبلاد، وذلك لأنها تشكل نحو 40 في المئة من إجمالي الأصول المصرفية، حيث أن جزءاً كبيراً منها هو قروض.
وقد أفاد عاملون في القطاع المصرفي التونسي أن إجمالي محفظة القروض المعدومة لمصارف الدولة الثلاثة (هناك بنك دولة واحد لم يشمله الإنقاذ، لأنه لم تجرِ بعد عملية تدقيق لحساباته) حوالي 6.7 مليارات دينار (3.4 مليارات دولار). وفي الوقت عينه، صرّح وزير المالية السابق حكيم بن حمودة ومصادر مصرفية أخرى للدورية “أفرِقا كونفيدنشل” (Africa Confidential) في أواخر العام الماضي أن هذه البنوك تمتلك ما يقرب من 5 مليارات دينار (2.64 ملياري دولار) من الودائع.
من جهة أخرى يبدو أن 40 في المئة من الديون المعدومة تأتي من قطاع السياحة. لقد ذكر النائب فيصل التبّيني خلال جلسة برلمانية أن بعض المقرّبين من زين العابدين بن علي في قطاع السياحة أخذوا قروضاً بقيمة 10 ملايين دينار (5.1 ملايين دولار)، ومن ثم سرقوا نصفها. كما أن بن علي قدّم فنادق إلى عشيرته وحاشيته لإستخدامها كضمان مقابل قروض من بنوك الدولة. وقال لي عضو سابق في لجنة إصلاح القطاع السياحي في تونس أنه بدلاً من تسديد هؤلاء المقرَّبين قروضهم فإنهم إشتروا سيارات لصديقاتهم وعشيقاتهم وزادوا ثرواتهم الخاصة من خلال إستثمارات أخرى. الواقع أن العديد من “أصحاب هذه الفنادق” لا يزالون يرفضون الإعلان عن دخلهم الكامل، وفقاً للمصدر عينه في لجنة إصلاح السياحة، ولم يعد لديهم الأموال للعمل وإدارة فنادقهم أو تسديد قروضهم. لقد أصيبت صناعة السياحة بإنتكاسة كبيرة بعد ثورة 2011، وضُرِبت مرة أخرى هذا العام بهجومين إرهابيين – الأول في المتحف الوطني بباردو في العاصمة، وبعد ذلك في منتجع شعبي في سوسة. لقد هبطت السياحة الآن إلى 76 في المئة مما كانت عليه في العام 2010، قبل عام من سقوط بن علي، وفقاً للبنك المركزي. وقال صندوق النقد الدولي في تقرير في الشهر الماضي أن هذه الهجمات قد أدّت إلى إلغاء ما يقرب من نصف حجوزات الفنادق القائمة وكانت المنتجعات فارغة في ذروة موسم الصيف. ويقدِّر المكتب الوطني للسياحة أن نحو 90 في المئة من أكثر من 800 فندق مسجّل في تونس تعاني بالفعل من صعوبات مالية أو هي في عملية إغلاق. بالنسبة إلى السنة ككل، يتوقع صندوق النقد الدولي أن الخسائر من تدفقات السياحة ستكون حوالي 1.1 مليار دولار، أي بإنخفاض 45 في المئة، مع تداعيات “مهمة” سلبية على الإقتصاد الأوسع.
من السهل أن نرى، إذاً، لماذا ما يقرب من 30 في المئة من الديون المستحقة على الشركة التونسية للبنك، أكبر البنوك الثلاثة المملوكة للدولة، “على الارجح” لم يتم تسديدها وفقاً للمدير التنفيذي للبنك، عبد الوهاب ناجي. وأوضح على الإذاعة الوطنية بعد أسبوعين على تصويت البرلمان على عملية الإنقاذ في آب (أغسطس) بأن الشركات المعتلَّة المملوكة للدولة ومجموعة متنوعة من القطاعات المتضرِّرة من التباطؤ الإقتصادي في تونس لا تزال تواجه تحديات في سداد ديونها.

خطوات في الظلام

بعد شهر واحد فقط على تصويت آب (أغسطس)، تحدثت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد ومحافظ البنك المركزي التونسي الشاذلي العياري معاً في مؤتمر صحافي عن عملية إنقاذ أخرى. قال العياري إن مفاوضات جارية للحصول على قرض يبلغ على أقل تقدير 1.7 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لحالات الطوارئ. وبحلول نهاية ذلك الشهر، سلّم صندوق النقد الدولي لتونس قرضاً يزيد قليلاً على 300 مليون دولار، وبعد ذلك، في بداية تشرين الأول (أكتوبر)، وافق البنك الدولي على قرض طال إنتظاره يبلغ 500 مليون دولار لمساعدة إعادة هيكلة بنوك الدولة التونسية وللمساعدة على تحفيز النمو الإقتصادي. وكانت هذه القروض في جزء منها مشروطة ببعض الرسملة الأولية وإعادة هيكلة بنوك الدولة الثلاثة في تونس، إلا أن العملية لإعادة الرسملة كانت مُبهمة.
إن إعادة رسملة بنوك الدولة كانت أولوية ملحّة منذ سقوط زين العابدين بن علي. إن أموال الإنقاذ، والتي تأتي من جيوب دافعي الضرائب، سوف تقلّل من عجز رؤوس أموال بنوك الدولة عندما تنشر موازناتها العمومية قبل نهاية هذا العام. ولكن من حيث إستراتيجية الدولة الجديدة لهذه البنوك، التي لا فائدة منها كمصدر للإئتمان لتحفيز النمو الإقتصادي، قال لي مستشار حكومي رفيع المستوى أن لا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. “حتى الوزراء ليست لديهم معلومات بسبب غياب وإنعدام الشفافية. نحن حقاً نتخذ خطوات في الظلام”، مضيفاً.
هناك أيضاً عدم وضوح بشأن ما إذا كانت إعادة هيكلة البنوك سوف تساعد على إصلاح القطاع المصرفي. في أيلول (سبتمبر) الفائت، أكد ناجي للصحافة أن خطة إعادة الهيكلة جارية. جنباً إلى جنب مع عملية إنقاذ آب (أغسطس) التي تعتمد على دافعي الضرائب، قال أن إعادة الهيكلة ستسمح للشركة التونسية للبنك للبقاء سائلة أي قادرة على الدفع. وقد وعد وزير المالية التونسي، سليم شاكر، بالمثل بإعادة هيكلة البنوك الثلاثة بحلول نهاية هذا العام، وفي حزيران (يونيو) عُيِّن جمال الدين الشيشتي رئيساً لمجلس إدارة الشركة التونسية للبنك. وقرّر مجلس إدارة البنك الفصل بين صلاحيات رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي، والذي من شأنه أن يزيد ظاهرياً إستقلال المجلس ويسمح بالتالي مراقبة الإقراض غير اللائق أو الفاسد. ولكن الشيشتي كان المستشار المالي لزين العابدين بن علي، وأيضاً الرئيس التنفيذي السابق لشركة الطيران المملوكة للدولة، الخطوط التونسية. المرشحون الآخرون الذين إقترحهم شاكر كرؤساء تنفيذيين أو رؤساء لمجالس إدارات البنوك الحكومية الثلاثة رُفِضوا لأسباب المحسوبية السياسية، وفقاً لمسؤول كبير شارك في هذه العملية. وعلاوة على ذلك، لأن مشاكل الحكم الأساسية هي من دون حل أصلاً، قال، فإن أي تغيير هيكلي أو تغيير في القيادة هو مجرد عملية إعادة توزيع لعائدات البقرة الحلوب.
في الواقع، إن عملية الإنقاذ المعتمدة على أموال دافعي الضرائب سوف تخفّض العجز في رؤوس أموال البنوك بدلاً من إستخدامها في إستثمارات أخرى لتحفيز الإقتصاد التونسي. لا يزال عاملون كثر في القطاع المصرفي يشكّون من أنه لا الثقة في القطاع المصرفي قد تحسّنت، ولا الثقة زادت في سياسة البنك المركزي. ومع ذلك، فإن الإصلاح المصرفي أمرٌ ضروري، لأنه من دونه سوف لن يكون هناك بالتأكيد إنتعاش إقتصادي لتونس.
في تقريره في الشهر الفائت، قال صندوق النقد الدولي إن إصلاح الرقابة المصرفية نفسها يبقى “أولوية مطلقة”. وكما قال النائب فيصل التبّيني في البرلمان، تحتاج تونس إلى جعل محاسبة المّقرَّبين من النظام السابق وتحمّل مسؤولية أعمالهم في خضم الإصلاح المصرفي ليس “أقل أهمية من مكافحة الإرهاب”. هذه البنوك ، قال، هي الرمز الجلي والواضح للفساد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى