مصارف تركيا بين سندان عدم اليقين السياسي ومطرقة إنخفاض الليرة

أثبت القطاع المالي التركي مرونة خلال الأزمة المالية العالمية في العام 2009؛ وكذلك في الفترة التي تلت الأزمة الإقتصادية، وذلك بفضل الإصلاحات التنظيمية والإصلاح الهيكلي الذي طبقته الحكومة في أعقاب الإنهيار المالي الخاص في البلاد في أوائل العام 2000. وفي الواقع، عززت الإصلاحات في القطاع ثقة المستثمرين كثيراً حيث اصبحت الخدمات المالية في القطاع الموقع المفضل للاستثمار الأجنبي المباشر، حيث جذبت أكثر من 45 مليار دولار خلال العقد الماضي. ولكن هل يستطيع هذا القطاع إجتياز حالة عدم اليقين التي تخيم على البلاد الآن؟

المصارف التركية: وضعها حرج
المصارف التركية: وضعها حرج

أنقرة – سليم رزق الله

تهيمن البنوك على القطاع المالي التركي، وهي تمثّل نحو 60 في المئة من الخدمات المالية الكلية، بينما تُظهر خدمات التأمين وغيرها من الأنشطة المالية أيضاً إمكانات نمو كبيرة. ويتكوّن القطاع المصرفي في تركيا من 34 بنكَ إيداع و13 مصرفاً للتنمية والإستثمار و5 بنوك مساهمة مع 21 بنكاً برأس مال أجنبي كبير.
تساهم قاعدة القروض الواسعة وظروف السيولة المواتية في النمو الصحي للخدمات المالية في تركيا حيث يتمتع القطاع بمكانة رائدة في العالم مع حجم الأصول المتنامية وحماية هيكل الأسهم القوي من الصدمات التي قد تنشأ من القروض أو ظروف السوق المضطربة.
وقد حافظ القطاع بشكل عام على توسعه بنسبة 19 في المئة كمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) بين عامي 2008 و2014، وبلغ إجمالي حجم الأصول فيه 1.4 تريليون دولار. كما تضاعفت على وجه الخصوص أصول القطاع المصرفي تقريباً خلال هذه الفترة بــ 860 مليار دولار على دفاتر الحسابات بحلول نهاية العام 2014.
ولكن، لم يصل هذا القطاع في تركيا إلى هذه المرتبة من دون إعادة تنظيم وهيكلة بعد إنهياره في أوائل العام 2000. لذا السؤال هنا، كيف تمت إعادة تنظيم وهيكلة العمل المصرفي في تركيا؟

إعادة هيكلة القطاع المصرفي

الواقع أن عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي في تركيا بدأت أولاً ببرنامج ضبط التضخم في أواخر العام 1999، وتبعه برنامج “إعادة هيكلة المصارف” في العام 2001. لقد تم توجيه الجهود الرئيسية نحو إحداث تعديلات واسعة في قانون المصارف. لذا تأسست هيئة التنظيم والإشراف على العمل المصرفي، التي مُنحت صلاحيات لوضع الأنظمة والضوابط المالية، الأمر الذي جعل القطاع المصرفي مستقلاً إدارياً ومالياً. كانت الواجبات والصلاحيات المتعلقة بالإشراف على المصارف سابقاً تتقاسمها الخزينة والبنك المركزي، وتم نقلها إلى الهيئة الجديدة التي بدأت عملها في آب (أغسطس) 2000. في هذه الفترة تم أيضاً إحداث الضمان غير المحدود لودائع المدخرات.
إن عملية الهيكلة وإعادة التنظيم شملت الأمور الخمسة التالية:
أولاً: حل المشاكل المالية للمصارف بموجب رقابة صندوق التأمين على ودائع المدخرات: كان المحور الأول في عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي البحث عن حلول للمصارف التي تواجه مشاكل مالية. في نهاية العام 1999، وُضِعت خمسة مصارف تجارية تعاني من مثل هذه المشاكل تحت رقابة الصندوق، وأُلغيت رخصة مصرفين للتنمية والإستثمار. وأصدرت الخزينة سلسلة من السندات، وإستخدمت المدفوعات المُقدَّمة من قبل المصرف المركزي. تم تحويل الموارد من الصندوق لدعم الهيكليات المالية وإعادة هيكلة 20 مصرفاً تحت إشراف الصندوق خلال الفترة 1996 ـ 2006. وفي الفترة عينها، أُلغيَت رخصة ثمانية مصارف ومن ثم تمت تصفيتها. وقد إرتفع إجمالي الموارد المحوّلة إلى المصارف التي يملكها الصندوق، بما فيها تسديدات الديون الرئيسية وتسديدات الفوائد إلى 40 مليار ليرة تركية (28.2 مليار دولار) بحلول شهر تموز (يوليو) 2003. وتم بيع بعض المصارف التي وضعت تحت إشراف الصندوق، في حين تم دمج أخرى في “مصرف الصندوق المتحد” الذي تم تأسيسه تحت ملكية الصندوق.
ثانياً: إعادة هيكلة المصارف الحكومية: كان هذا المحور الثاني لعملية إعادة الهيكلة، وتم بموجبها تحويل موارد حكومية كبيرة لتعزيز بنية رأس المال في المصارف الحكومية التي تدهورت بناها المالية بشكل كبير نتيجة التأخر في تسديد القروض المستعملة من قبل الخزينة في تمويل الموازنة، والإستخدام غير الكفؤ لمواردها بسبب التدخلات السياسية، والضعف الإداري. وفي هذا الإطار، تم تحويل ما مجمله 21.9 مليار دولار (28.2 مليار ليرة تركية) حتى نهاية العام 2001 إلى المصارف الحكومية، بما في ذلك دعم رأس المال وتسوية “خسائر الإلتزامات” التي وصلت إلى 50% من موازناتها الختامية في نهاية العام 2000. وتم تسريع الجهود نحو إعادة الهيكلة التشغيلية للمصارف الحكومية، التي عزِّزت أيضاً من خلال دمجها مع بعضها والتخطيط لخصخصتها في النهاية.
ثالثاً: تعزيز رأس مال المصارف الخاصة: إضافة إلى الآثار السلبية للأزمة، تعمّقت مشاكل المصارف الخاصة بسبب القروض المنعدمة الأداء والتقييد المفاجئ لتقديم القروض للسوق من قبل المصارف الحكومية خلال عملية إعادة هيكلتها وتحقيقها لمتطلبات كفاية رأس المال. لذلك، وفي نهاية مرحلة إعادة هيكلة المصارف تم تبني برنامج لتعزيز رأس مال المصارف ينص على ضرورة إجراء تدقيق محاسبي ثلاثي قبل منح الدعم لرأس مال المصارف الخاصة التي تدهورت أصول رأس مالها. وبموجب هذا البرنامج، جرت عمليات التدقيق على أساس قواعد محاسبة التضخم المختلفة عن الفترات السابقة. وظلت متطلبات رأس المال للقطاع المصرفي في مستوى محدود نظراً إلى المقاربات الإيجابية لزيادات رأس المال النقدي، وإعادة صياغة البنود الناظمة للقروض المنعدمة الأداء وتقييم مخاطر الأسواق في النظر في تقارير القطاع المُعدَّة بعد التدقيق المحاسبي. تم تحويل مصرف واحد إلى الصندوق بسبب قصور رأس المال. وقد بلغت الكلفة الإجمالية لإعادة هيكلة القطاع الخاص 7.9 مليارات دولار دفع منها الصندوق 5.2 مليارات دولار، في حين دفعت المصارف الخاصة 2.7 ملياري دولار.
إضافة إلى ذلك، تم تبني قواعد ناظمة لتأسيس آليات من شأنها تسريع إيجاد حل للأصول السيِّئة.
رابعاً: الإجراءات التشريعية: لقد كان أحد الأهداف الرئيسية لإعادة هيكلة النظام المصرفي هو وضع الأنظمة المؤسسية والقانونية اللازمة لتحسين أنظمة الإشراف والتدقيق، وتغيير عمليات إتخاذ المخاطر وإدارتها وتعزيز البنية التحتية التجارية. ونتيجة للتدابير التي نفذتها هيئة الإشراف على المصارف، باتت التشريعات المصرفية أكثر إنسجاماً مع الأنظمة والممارسات الفضلى الدولية، وخصوصاً توجيهات الإتحاد الأوروبي. أخذت الأنظمة الدولية بعين الإعتبار في تبني الأنظمة التي هدفت إلى زيادة شفافية الموازنات الختامية للمصارف، وضمان الإلتزام بالمعايير المحاسبية الدولية، وتعزيز البنية المالية للمصارف. وفي هذا الإطار، كانت تركيا قد شرعت في العام 2002 بالعمل على إدماج عناصر البنية التحتية لإتفاقية بازل لرأس المال (بازل2).
خامساً: برنامج إعادة الهيكلة المالية: أدت الأزمة الإقتصادية في العام 2001 إلى نشوء بيئة من إنعدام اليقين في القطاعات غير المصرفية. في القطاع الحقيقي، قلَّصت شركات كثيرة أنشطتها وإستثماراتها، وواجهت العديد من مشاكل إعسار مالي. وقد إرتفعت نسبة القروض المنعدمة الأداء إلى إجمالي القروض (قبل الإجراءات) في القطاع المصرفي إلى 29.5% في نهاية العام 2001. تم إحداث برنامج لإعادة هيكلة ديون الشركات للقطاع المالي، والمعروف بـ”مقاربة اسطنبول”، في حزيران (يونيو) 2002 ولفترة ثلاث سنوات. وحُدِّد الهدف من البرنامج على أنه تمكين شركات التصنيع- التي كانت تعاني من الإعسار المالي والتي كان بوسعها الإستمرار في أنشطتها فقط إذا تمت إعادة هيكلتها- من العمل بطريقة منتجة، وأن تزيد من توظيف العاملين والإستفادة من قدرات الإقتصاد، وتوفير النظام والصحة والشفافية في الموازنات الختامية للشركات سواء في القطاع الحقيقي أو القطاع المالي من خلال تنفيذ هذه الأنظمة، وبالتالي زيادة التحصيل الضريبي. وقد وُضعت 331 شركة، تكوَّنت من 219 شركة كبيرة (35 مجموعة) و112 شركة صغيرة ومتوسطة، في البرنامج. من بين هذه الشركات، وقّعت 221 شركة كبيرة (30 مجموعة) و151 شركة صغيرة ومتوسطة إتفاقات إعادة هيكلة، ما مجموعه 322 شركة. وبلغ إجمالي القروض التي أعيدت هيكلتها 6.02 مليارات دولار.
لا شك أن إعادة التنظيم والهيكلة للقطاع المصرفي في تركيا قد فتحت أمامه آفاقاً واسعة جعلته يصمد أمام عاصفة 2008 و2009 الإقتصادية والمالية العالمية، ولكن هل يستطيع أن يجتاز العاصفة التي هبت عليه من الداخل سياسياً ومن سوريا أمنياً؟

وضع المصارف التركية في 2015

مع زيادة من رقمين في الأرباح والأصول أُعلِنَت في منتصف العام الجاري، فإن القطاع المصرفي في تركيا يبدو سالماً نسبياً وسط الحالة المستمرة لعدم اليقين السياسي، وتجدد التهديدات الأمنية وتباطؤ الإقتصاد. ومع ذلك، فيما ترتفع تكاليف الإقتراض، فإن وكالة التصنيف الأميركية الدولية “ستاندرد أند بورز” تتوقع بأن المناخ المصرفي في البلاد سيبرد.
في أواخر تموز (يوليو) الفائت حذّرت الوكالة الأميركية الدولية عينها من عدم التوازن بين الودائع القصيرة الأجل والدين الخارجي المرتفع نسبياً في البنوك التركية، مع مساهمة ما يقرب من ثلث القروض التجارية المقوَّمة بالعملة الأجنبية في مخاطر الإئتمان.

التفاؤل بالربح

وفقاً لتقرير صادر عن المؤسسة المولجة بأمور القطاع في تركيا، “وكالة التنظيم والإشراف على العمل المصرفي”، فإن أرباح البنوك والأصول على حد سواء حققت نمواً قوياً خلال العام الماضي، فيما إرتفعت الأرباح الصافية للقطاع خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام بنسبة 11٪ في العام على أساس سنوي إلى 13.8 مليار ليرة تركية (4.2 مليارات دولار) ونمت موجودات البنوك بنسبة 21.5٪ لتصل إلى 2.2 تريليون ليرة تركية (669.3 مليار دولار). وبلغ إجمالي القروض المسجّلة 1.4 تريليون ليرة تركية (425.9 مليار دولار) في نهاية حزيران (يونيو) الفائت، بزيادة 25٪ على أساس سنوي.
وما زالت المصارف التركية أيضاً إلى حد ما مرسملة جيداً، وذلك بفضل الدروس المُستفادة من أزمة 2001 المصرفية، مع نسب كفاية رأس المال تحوم حول 20٪ في السنوات الثماني حتى العام 2010، وفقاً للأرقام الصادرة عن “وكالة التنظيم والإشراف على العمل المصرفي”.
في حين أن النتائج المالية الأخيرة للقطاع المصرفي تبعث على التفاؤل، فإن المحللين يشعرون بالقلق من أن يؤدي هبوط قيمة الليرة، التي إنخفضت 32٪ على أساس سنوي في آب (أغسطس) مقابل الدولار، والإضطرابات في قطاعات أخرى من الاقتصاد إلى تعرض البنوك إلى مخاطر العدوى.

ضغط الليرة

من جهتها حذّرت وكالة التصنيف “موديز” في منتصف أيار (مايو) من أن إنخفاض قيمة الليرة من شأنه أن يُرهق كاهل البنوك في تركيا، التي تعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي لدعم أنشطتها. ومع ما يقرب من 30٪ من قروض القطاع مقوَّمة بالعملات الأجنبية، فإن المزيد من تخفيض قيمة الليرة سيكون له تأثير سلبي على تكاليف السداد، كما تتوقع “موديز”.
إن تكاليف الإقتراض قد ترتفع أعلى بحلول نهاية العام إذا تحقق الحديث عن تخفيض تصنيفها الإئتماني. مصنَّفة “Baa3” من قبل “موديز”، فإن تركيا قريبة بالفعل إلى حالة غير مرغوب فيها، كما أن تصنيفاً سلبياً أكثر آخر قد يدفع إلى رفع أسعار الفائدة على الإقتراض من الخارج، مما يجعل الأمر حتى أكثر صعوبة بالنسبة إلى البنوك التركية لتمويل برامج التوسّع والإقراض.
ومع ذلك، نظراً إلى الصعوبات الإقتصادية المتنامية في الصين وإحتمال العدوى، فإن رفع سعر الفائدة من قبل بنك الإحتياطي الفيديرالي في الولايات المتحدة – الذي كان من المتوقع هذا الخريف – يبدو غير مرجح على نحو متزايد. وهذا يمكن أن يعطي تركيا فرصة لإلتقاط الإنفاس التي تشتد الحاجة إليها، ولا سيما في ضوء تعرضها إلى إعادة تسعير المخاطر العالمية.

الجمود السياسي

من جهة أخرى، إنتشر عدم يقين سياسي في 13 آب (أغسطس) عند إنهيار محادثات تشكيل إئتلاف بين حزب “العدالة والتنمية الحاكم وحزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، التي كانت في مناقشة منذ إنتخابات 7 حزيران (يونيو).
وقد أدت الأخبار عن توقف المحادثات إلى إنخفاض 3٪ في سوق الأوراق المالية، وفقاً لوسائل الإعلام المحلية، في حين بلغت الليرة التركية مستويات قياسية، غارقة إلى 3 ليرات مقابل الدولار.
وقد وضع هذا الأمر تركيا على طريق العودة إلى صناديق الإقتراع في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، مع حكومة تصريف أعمال تقوم بخدمة البلاد إلى حين تأكيد نتائج إنتخابات جديدة.
فيما تنظر الأسواق إلى نتائج إنتخابات أكثر تأكيداً لإستعادة ثقة المستثمرين، فإن البنوك التركية تبدو بأنها نجحت حتى الآن بإجتياز العاصفة.
“تركيا هي واحدة من الدول النادرة في العالم التي لم تقوم بإعادة رسملة بنوكها،” قال محمد علي أكبن، رئيس “وكالة التنظيم والإشراف على العمل المصرفي” للصحافة المحلية في منتصف آب (أغسطس). مضيفاً: “نحن لا نتوقع أن يحدث ذلك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى