من هو الأفضل إستراتيجياً: أوباما أم بوتين؟

بعدما إقتحمت القوات الروسية شبه جزيرة القرم وسيطرت عليها قيل الكثير عن أبعاد خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتحديه لأميركا، وعندما بدأ غاراته وإطلاق صواريخه في سوريا، قال عنه بعضهم أنه رجل إستراتيجي وقد تفوّق بذلك على الرئيس باراك أوباما. ولكن هل هذا الكلام صحيح؟ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد الأميركية الدكتور ستيفن م. والت يحاول الإجابة عن هذا السؤال.

القوات الروسية تحتل شبه جزيرة القرم: من أهداف بوتين الناجحة
القوات الروسية تحتل شبه جزيرة القرم: من أهداف بوتين الناجحة

بقلم ستيفن م. والت*

من هو الإستراتيجي الأفضل والأهم: باراك أوباما أو فلاديمير بوتين؟
بطبيعة الحال، هذا ليس تماماً السؤال الصحيح، لأن كلا الزعيمين يعتمد إلى حد ما على التقارير الإستخباراتية والمشورة من مستشارين موثوقين وليس فقط على رأيه. وبناء على ذلك، فإن أي تقييم لأدائهما النسبي هو إلى حد ما تقييم ليس فقط للرئيسين ولكن أيضاً لخبراء السياسة الخارجية المحيطين بكلٍّ منهما. ومع ذلك، فإن المسؤولية في نهاية المطاف تتوقف في القمة، وتحرّك روسيا الأخير في سوريا جعل الكثيرين من الناس يتساءلون ما إذا كان الكرملين قد إلتفّ، وإحتال، وتفوّق على البيت الأبيض مرة أخرى.
هل هذا صحيح حقاً؟ هل أن الضابط الماكر السابق في المخابرات السوفياتية سجّل نقطة لصالحه ضد أستاذ القانون والمنظِّم المجتمعي السابق؟ وماذا يخبرنا هذا التطور الأخير في الأحداث عن قدرة كل بلد في صياغة وتنفيذ سياسة خارجية فعّالة؟
طريقة واحدة للإجابة عن هذا السؤال وتكمن في إلقاء نظرة أوسع على كيفية أداء كل بلد على مدى السنوات السبع الماضية أو نحو ذلك. ويبدو سجل بوتين هنا جيداً لفترة: لقد نما الإقتصاد الروسي بسرعة حتى 2012 (بسبب إرتفاع أسعار النفط والسلع)، وإنضمت روسيا الى منظمة التجارة العالمية، وإستعيدت درجة من المودّة إلى العلاقة المتوترة بين واشنطن وموسكو. لكن السجل العام لبوتين منذ ذلك الحين يبدو أقل إثارة للإعجاب بكثير: الإقتصاد الروسي هو الآن في حالة ركود خطيرة، في حين أن الإقتصاد الأميركي يسير جيداً إلى حد معقول. والنظر أعمق في هذا الأمر: كان الناتج المحلي الإجمالي في روسيا في العام 2014 أقل من تريليوني دولار، فيما نما الإقتصاد الأميركي على مدى السنوات الست الماضية بحجم أكبر من الإقتصاد الروسي بأكمله. والإقتصاد الأميركي هو أيضاً أكثر تنوعاً ومرونة بكثير من نظيره الروسي.
بالقدر عينه من الأهمية، إن الولايات المتحدة لم تفقد أيّاً من حلفائها الرئيسيين على مدى السنوات السبع الماضية، وعلاقاتها مع عدد من البلدان (على سبيل المثال، الهند، فيتنام، الخ) قد تحسّنت بشكل ملحوظ. من جهتها تتعاون روسيا مع الصين أكثر قليلاً ولكن بالكاد هما حليفان وثيقان، في حين أن أزمة أوكرانيا قد أنتجت ضرراً كبيراً في علاقات موسكو مع أوروبا وأدّت إلى تعليق عضوية روسيا في مجموعة الدول الثماني (G-8). على المنحى الآخر، وقّعت الولايات المتحدة “إتفاق التجارة الحرة عبر المحيط الهادىء” مع 12 دولة آسيوية، في حين أن جهود بوتين لبناء “الإتحاد الأوراسي الإقتصادي” قد أجهضت ولم تنجح. كما أن حقيقة أن بوتين يشعر بأنه مضطر لإنقاذ نظام (الرئيس) بشار الأسد في سوريا يُعلِمنا بأن الوضع العام في الشرق الأوسط هشّ وغير واضح المعالم.
على النقيض من ذلك، وعلى الرغم من بعض الإحتكاكات الأخيرة، فإن أميركا لا تزال تتمتع بعلاقات وثيقة مع إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية والكويت والأردن والبحرين والإمارات العربية المتحدة، وعلاقتها السيئة منذ وقت طويل مع عدوتها إيران هي أفضل نوعاً ما. خلاصة القول: من الأفضل لك أن تضع يدك مع الولايات المتحدة، وأي تقييم مُنصف وعادل ينبغي أن يعطي أوباما وفريقه بعض الفضل على مضض للإستمرار في بناء علاقات مفيدة في الخارج لتجنب المستنقعات المُكلفة التي سقط فيها الرئيس السابق جورج دبليو بوش والمحافظون الجدد والتخلّي عنها والهروب بذعر وجهل.
ولكن، من الصعب الهروب من الإنطباع بأن بوتين إستطاع اللعب بيده الضعيفة أفضل مما إستطاع أوباما اللعب بيده القوية. وتنشأ هذه المفاهيم في جزء منها من وراثة أوباما لإخفاقات عدة في السياسة الخارجية، كما أنه من الصعب على ساكن البيت الأبيض الحالي التخلّي عن مجموعة من المشاريع الفاشلة السابقة من دون إتهامه بالتراجع. إن خطأ أوباما الرئيسي يكمن في أنه لم يذهب بعيداً بما فيه الكفاية لتصفية مواقف وأوضاع غير سليمة ورثها من سلفه: كان ينبغي عليه الإنسحاب من أفغانستان بشكل أسرع، وعدم الإقدام على تغيير النظام في ليبيا على الإطلاق. على النقيض من ذلك، يبدو بوتين ناجحاً للوهلة الأولى، لأن روسيا تلعب دوراً أكثر نشاطاً مما كان عليه الأمر عندما كانت دولة نفطية كبيرة. نظراً الى الوضع الذي كانت روسيا فيه في العام 1995 أو حتى في العام 2000، لم يكن هناك مكان للذهاب ولكن إلى أعلى.
لكن بوتين قد فعل أيضاً شيئاً واحداً صحيحاً: لقد سعى إلى أهداف بسيطة حيث كانت سهلة التحقيق نسبياً والتي لعبت على نقاط القوة الروسية المتواضعة. في أوكرانيا، كان لديه هدف رئيسي وحيد: منع هذا البلد من التقرّب أكثر من الإتحاد الأوروبي، ليصبح في نهاية المطاف عضواً كاملاً فيه، ومن ثم الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي. لم يكن مهتماً في محاولته لدمج كل أوكرانيا أو تحويلها إلى دولة تابعة لروسيا، و”الصراع المجمّد” الموجود هناك الآن يكفي لتحقيق هدفه الأساسي. ولم يكن هذا الهدف السلبي أساساً صعب التحقيق، لأن أوكرانيا كانت فاسدة، ومنقسمة داخلياً، وهي مجاورة لروسيا. هذه الميزات جعلت من السهل على بوتين إستخدام درجة متواضعة من القوة من الصعب على أي دولة أخرى الرد من دون بدء دورة تصعيد لا تستطيع فيها الفوز.
الواقع أن أهداف بوتين في سوريا على حد سواء بسيطة وواقعية، وتتماشى مع وسائل روسيا المحدودة. فهو يريد الحفاظ على نظام الأسد ككيان سياسي ذي معنى، لكي يبقى وسيلة للنفوذ الروسي، وجزءاً من أي تسوية سياسية في المستقبل. فهو لا يحاول مهاجمة سوريا للسيطرة عليها، وإعادة سيطرة العلويين الكاملة على البلد كله، وهزيمة الدولة الإسلامية، أو القضاء على النفوذ الإيراني بأكمله. كما أنه بالتأكيد لا يسعى إلى تحقيق نوع من الحلم الوهمي لبناء الديموقراطية هناك. إن إنتشاراً محدوداً للقوة الجوية الروسية وحفنة من “المتطوعين” قد يكون كافياً للحفاظ على الأسد ومنع هزيمته، وخصوصاً إذا إعتمدت الولايات المتحدة وغيرها في نهاية المطاف نهجاً أكثر واقعية بالنسبة إلى الصراع أيضاً.
على النقيض من ذلك، كانت أهداف واشنطن تجاه كل من هذين الصراعين مزيجاً من التمنيات الحسنة والتناقضات الإستراتيجية. في أوكرانيا، أقنع تحالف مألوف من المحافظين الجدد (على سبيل المثال، مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند) وليبراليون دوليون أنفسهم بأن إتفاق الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي هو عمل حميد بحت، حيث لا يستطيع أحد أن يسيء فهم وتفسير فضائله وحياده المزعوم. ونتيجة لذلك، صُدِم الجميع تماماً عندما إستمرت موسكو بإستخدام قواعد لعبة السياسة الواقعية، ورأت الأمر كله بشكل مختلف جداً. (كان هناك عنصر من النفاق والعمى هنا أيضاً؛ كانت روسيا ببساطة تتصرف بالطريقة عينها التي تصرفت فيها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة في التعامل مع نصف الكرة الغربي، ولكن تمكّن المسؤولون الأميركيون بطريقة أو بأخرى تجاهل تحذيرات واضحة صدرت من موسكو). وعلاوة على ذلك، إن الهدف الأساسي الغربي – إقامة دولة أوكرانية ديموقراطية تعمل بشكل جيد — كان مهمة جديرة بالثناء ولكنها متطلبة بشكل كبير منذ البداية، في حين أن هدف بوتين كان أكثر محدودية بكثير – إبقاء أوكرانيا خارج حلف “الناتو” – وهذا بالمقارنة أمر سهل نسبياً.
وغنيٌّ عن القول، أن سياسة الولايات المتحدة في سوريا هي حتى أكثر تشوّشاً وإضطراباً. منذ أن بدأت الإنتفاضة لأول مرة، وواشنطن تحاول عبثاً تحقيق سلسلة من الأهداف الصعبة وغير المتوافقة. تقول: “الأسد يجب أن يرحل”، لكنها في المقابل لا تريد أياً من الجماعات الجهادية (أي المجموعات الوحيدة التي تقاتل نظام الأسد فعلياً) أن تحل مكانه. إنها تريد “تدمير “داعش” والقضاء عليها”، ولكنها تريد أيضاً ضمان عدم نجاح المجموعات المعادية لتنظيم “الدولة لإسلامية” مثل جبهة النصرة. إنها تعتمد على المقاتلين الأكراد للمساعدة على التعامل مع “الدولة الإسلامية”، ولكنها تريد من تركيا أن تساعد أيضاً، وأنقرة من جهتها تعارض أي خطوة قد تؤجّج وتنعش نيران القومية الكردية. لذا فإن أميركا قد بحثت عبثاً عن “سياسة صحيحة” للتعامل مع المتمرّدين السوريين – الذين يدّعون أنهم “معتدلون”- حيث لم تعثر الآن على أكثر من حفنة منهم. وبصرف النظر عن الرغبة بإطاحة الأسد، لم تكن الرؤية الأميركية الطويلة الأجل بالنسبة إلى مستقبل سوريا واضحة أبداً. وبالنظر إلى كل هذا الإتجاه المشوّش والمضطرب، فلا عجب أن إجراءات بوتين تبدو جريئة وحاسمة بينما يبدو أوباما مرتبكاً؟
هذا الإختلاف هو هيكلي جزئياً: لأن روسيا هي أضعف بكثير من الولايات المتحدة (ومتجهة إلى أن تكون حتى أضعف مع مرور الوقت)، فإنه يجب عليها أن تلعب أوراقها المتبقية بعناية ومتابعة الأهداف الحيوية فقط التي يمكن تحقيقها بتكلفة متواضعة. من جهتها تتمتع أميركا بموارد أضخم بكثير ل”رميها” في المشاكل العالمية، وموقعها الجيوسياسي المؤاتي يسمح لها بتجنب معظم تداعيات أخطائها. أضف إلى ذلك ميل المحافظين الجدد والليبراليين الدوليين على حد سواء إلى الإعتقاد بأن نشر إنجيل “الحرية” في جميع أنحاء العالم هو أمر ضروري، ومن السهل القيام به، ولن يولّد عواقب غير مقصودة أو مقاومة جدية، ولديهم وصفة لهذه الطموحات الضخمة لكن تنقصها موارد من المبادرات السياسية. ولا شك هنا في أن هذه هي الوصفة المثالية للفشل المتكرر.
بعبارة أخرى، يبدو بوتين أكثر نجاحاً لأن أهدافه تتناسب مع موارده المحدودة. يحب أن يشكو من الهيمنة الأميركية، ولكن لا تسمع منه كلمة رنانة حول كيف أن مصير روسيا هو ممارسة “القيادة” على الكوكب بأسره. من ناحية أخرى، تسمح قوة أميركا وأمنها الجغرافي الأساسي لقادتها بوضع أهداف طموحة، ولكن في الواقع تحقيق معظمها ليس أساسياً لأمن الولايات المتحدة أو إزدهارها. أحياناً تنجح الديبلوماسية الأميركية على الرغم من سياسييها (على سبيل المثال، الإتفاق النووي الايراني، المعاهدة التجارية مع آسيا، إعادة العلاقات مع كوبا، وما إلى ذلك)، ولكن غالباً ما تسحب البلاد إلى صراعات وتعقيدات لا نستطيع الفوز فيها ولا الهرب منها.
إذن من هو أفضل إستراتيجياً؟ من جهة، لدى أوباما شعور ضمني من الواقعية، ويدرك أن مصالح الولايات المتحدة في العديد من الأماكن محدودة. وهو يعلم أيضاً أن قدرة واشنطن على إملاء أي نتائج مقيَّدة على حد سواء، وخصوصاً عندما ينطوي الأمر على مسائل معقدة من الهندسة الإجتماعية في المجتمعات المنقسمة والمختلفة جداً عن عادات الغرب وتقاليده. وبعبارة أخرى: إن بناء بلد وأمة مكلف، وصعب جداً، وبالنسبة إلى الجزء الأكبر لا لزوم له. ولكن ينبغي على أوباما قيادة مؤسسة السياسة الخارجية التي تدمن على “القيادة العالمية”، ويواجه حزباً معارضاً يسخر ويهزأ من أي شكل من أشكال “التقاعس عن العمل،” حتى عندما تكون البدائل المُقترحة منه “مامبو جامبو”، أي بلا معنى.
بوتين، على النقيض من ذلك، قام بعمل أفضل بالنسبة إلى مطابقة أهدافه مع الموارد المتوفّرة لديه، وهذا الأمر يُعدّ واحداً من السمات المميزة لإستراتيجي جيد. لكن فشله يكمن في أن كل شيء هو للمدى القصير ودفاعي في الأساس. إنه يقاتل من خلال سلسلة من الإجراءات من أجل مواقعه الخلفية المصمَّمة لمنع تدهور موقع روسيا العالمي أكثر، بدلاً من إتباع البرنامج الذي قد يعزّز قوة بلاده ووضعها في المدى الطويل.
لذلك دعونا نسمّي النتيجة تعادلاً. والخاسر الحقيقي، للأسف، هم أولئك التعساء في أوكرانيا وسوريا وأماكن أخرى عديدة.

• ستيفن م. والت هو أستاذ العلاقات الدولية في كلية روبرت ورينيه بيلفر في جامعة هارفارد الأميركية.
• كُتِب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى