أسعار النفط المضطربة تحثّ على إصلاحات في البنية التحتية وبرامج الدعم

فيما يعتبر بعض الخبراء بأن هبوط أسعار النفط والغاز أمر خطير بالنسبة إلى البلدان المنتجة للمواد الهيدروكربونية، فإن البعض الآخر يعتبر بأنه يشكل فرصة لهذه البلدان للإستثمار في البنية التحتية والإقدام على إصلاحات في مجال الدعم والإعانات الحكومية وتنويع الإقتصاد.

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان: فشل في إزالة الدعم
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان: فشل في إزالة الدعم

لندن – محمد سليم

في سنوات قليلة، تغيّرت سوق النفط العالمية بشكل كبير: لقد عززت ودائع النفط الجديدة المُكتَشفة قبالة شواطئ البرازيل وأفريقيا العرض، كما فعل التطور الهائل الذي أحدثه النفط الصخري في الولايات المتحدة. وبدلاً من خفض انتاجها، قررت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) الإبقاء على إنتاجها ثابتاً. إن المملكة العربية السعودية، التي تقود المجموعة، تريد حماية حصتها في السوق من المنافسة الأميركية وتسعى إلى إعاقة قدرة إيران من الإستفادة من إرتفاع أسعار النفط عندما يتم رفع العقوبات ضد طهران. وقد أدت هذه العوامل الثلاثة إلى زيادة إنتاج النفط في جميع أنحاء العالم  من 83.2 مليون برميل يومياً في العام 2010 إلى أكثر من 88.6 مليون برميل يومياً في العام 2014. ولقد حدث هذا في الوقت الذي تقلّص الطلب، وذلك بسبب تباطؤ النمو في الصين، والركود في أوروبا، و الركود المحتمل في البلدان الناشئة (مثل البرازيل، وروسيا، وتركيا).
في المقابل، إنخفضت أسعار خام برنت من 115 دولاراً للبرميل في حزيران (يونيو) 2014 إلى 45 دولاراً في كانون الثاني (يناير) 2015، حيث بلغ متوسطه 56 دولاراً منذ ذلك الحين. كان إنخفاض أسعار النفط قاسياً بشكل خاص بالنسبة إلى الدول المنتجة الأفريقية، مثل أنغولا ونيجيريا، اللتين تنتميان إلى “أوبك” ولكن تجاهلتهما عملية صنع القرار في المنظمة الدولية. لقد إستندت موازنات هاتين الدولتين الوطنية على أسعار مرتفعة لخام برنت، مما أوقعهما في ثغرات تمويل رئيسية. والواقع أن كثيرين يشعرون بالقلق إزاء احتمال الإضطراب الذي قد تسببه أسعار النفط المنخفضة في الإقتصادات التي ما زالت هشّة، والفرصة التي ستحمله لعنة الموارد على ضحايا مقبلة.

إحراج الثروات

نشأ مفهوم لعنة الموارد من الملاحظة بأن البلدان النامية في عصر ما بعد الإستعمار التي كانت تتمتع بموارد طبيعية تخلّفت عن تلك التي لم يكن لديها تلك الموارد. ويعود السبب كما يبدو إلى أن تلك الإقتصادات القائمة بشكل مفرط على الموارد الطبيعية كانت تصدِّر معظم مواردها بدلاً من إستخدامها وتحويلها محلياً. مع تدفق الدخل من السلع الأساسية، فلم تكن هذه الحكومات تحتاج إلى خلق نمو إقتصادي، وجمع الضرائب. ولأنها لا تفرض الضرائب على المواطنين، فإن حكومات هذه الدول لم تشعر بأنها مسؤولة أمامهم. بدلاً من ذلك، فإنها تحتاج فقط إلى الحفاظ على السلام والإستقرار من خلال تقديم الدعم ومنح الإعانات وإرضاء تلك الجماعات التي يُعتبَر تأييدها مهماً لقادة الحكومة للبقاء في السلطة، الأمر الذي يؤدي إلى المحسوبية والفساد. هذا النظام يسقط عندما يجف المال من الصادرات.
لعنة الموارد الطبيعية هي أحد التفسيرات المُقدَّمة ل”العقود الضائعة” التي خبرتها البلدان الأفريقية في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت: لقد هبط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للقارة السمراء من 900 دولار في العام 1980 إلى 740 دولاراً في العام 2000. وفي مطلع الألفية الجديدة، بدا أن الكثير من الإقتصادات في جميع أنحاء القارة قد تخلص من عقود من الفوضى ليس بفضل إرتفاع أسعار السلع فحسب ولكن أيضاً بفضل المزيد من التنويع الإقتصادي وتطوير طبقة وسطى. وقد أمل الخبراء في أن تصبح لعنة الموارد ذكرى بعيدة.
من المرجح أن كلام الخبراء جاء في وقت قريب جداً وقبل أوانه؛ ينبغي عدم التقليل من التأثير الطويل الأمد لإنخفاض أسعار السلع الأساسية.
العديد من البلدان الأفريقية الغنية بالموارد الأساسية قامت فعلياً بتحوّلات سياسية وإقتصادية مهمة، لكنها لا تزال عرضة للخطر. على سبيل المثال، كانت إنتخابات نيجيريا الأخيرة ناجحة: لقد نقلت الأمة االسلطة من حزب الشعب الديموقراطي إلى حزب المؤتمر التقدمي، حيث شكّل الأمر المرة الأولى التي تتحول فيها السلطة بين الطرفين منذ أعيدت الإنتخابات الديموقراطية إلى البلاد في العام 1999. ولكن نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد تباطأ إلى 2.35 في المئة في الربع الثاني من العام 2015، مقارنة مع 6.54 في المئة في الفترة عينها من العام الفائت، في الوقت الذي لا تزال البلاد تعتمد إلى حد كبير على النفط (الذي يشكل ما يقرب من 80 في المئة من الإيرادات الحكومية). وبالمثل، شهدت أنغولا نمواً إقتصادياً عالياً على مدى عشر سنين، ولكن 45 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي لا يزال يأتي من القطاع النفطي؛ سوف تحل إنتخابات رئاسية معقدة بعد عام ونصف العام، والظروف الإقتصادية صعبة بسبب إنخفاض أسعار النفط التي زعزعت إستقرار البلاد بشكل ملحوظ. وعلاوة على ذلك، قد يكون مبلغ 160 مليار دولار من إحتياطات العملات الأجنبية ضخماً في الجزائر، لكنه إنخفض بنسبة 20 مليار دولار في الأشهر الستة الأولى من العام 2015، مما تسبب في قطع 9 في المئة من الإنفاق في العام 2016.

قواعد الخطوط الفضية

الواقع أن خطر الإضطرابات مع تراجع أسعار النفط هو حقيقي، ولكن في الوقت عينه هو فرصة. إن إنخفاض أسعار النفط العالمية حاد بما فيه الكفاية لكي يكون واضحاً ومفهوماً من قبل الجمهور، ولكنه ليس حاداً بما يكفي ليشكل تهديداً خطيراً من الناحية الإقتصادية. وبالتالي فإن الحكومات لديها فرصة نادرة لصيانة وتعزيز جهودها الرامية إلى تطوير البنية التحتية وإصلاح السياسات — خطوتان حيويتان لتعزيز الإقتصاد الوطني وتقليل الإعتماد على أرباح السلع.
على جانب البنية التحتية، فإن الطفرة النفطية الأخيرة قد أنعشت تطوير ممرات التصدير من طرق، وسكك حديدية، وموانئ في المياه العميقة، وخطوط الكهرباء. وهذه الأمور بارزة في كينيا (مع ميناء لامو ومشاريع البنية التحتية في ممر النقل الذي يربط لامو بجنوب السودان وإثيوبيا)، وفي موزامبيق (ممر نَكَالا، الذي يربط حوض الفحم تيتي في الشمال إلى المحيط الهندي). وهذه المشاريع توفر قاعدة صلبة لمزيد من تطوير البنية التحتية في البلاد.
وبالمثل، فقد أدّت أسعار النفط المرتفعة إلى تأجيل البلدان لمشاريع إعادة تشكيل قطاع الطاقة. إن المسألة مع الطاقة ليست بأنها تحتاج فقط إلى إستثمارات ضخمة ولكن أيضاً تتطلب تغييرات تنظيمية: تفكيك الشركات العامة من أجل فصل الإنتاج والنقل والتوزيع؛ وتعريف صيغ التسعير؛ وخصخصة شركات الطاقة، من بين أمور أخرى. إن الشجاعة السياسية الكبيرة ضرورية هنا للمضي قدماً، ويمكن أن يكون الأمر مغرياً لتأخير العملية – التي تكون ممكنة عندما تكون عائدات النفط مرتفعة بما يكفي للسماح بإستخدام حلول غير قادرة على المنافسة في المدى القصير (محطات توليد الطاقة القديمة التي تعمل على الوقود وإستخدام المولدات).
وقد أدى عدم وجود العدد الكافي من خطوط أنابيب الغاز ومحطات الطاقة إلى حرق الغاز في خليج غينيا، حيث ينبغي على حقول النفط البحرية حرق الغاز الذي كان من الممكن إستغلاله بكفاءة لإنتاج الكهرباء. كما أنه يرتبط بالتدهور البيئي والخسائر المالية — قدِّرت قيمة الغاز المُشتعل ب870 مليون دولار في نهاية العام 2014، وفقاً لمؤسسة البترول الوطنية النيجيرية. في الوقت عينه، يمثل إنقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء المنطقة عنق زجاجة في الإقتصادات حيث قد ينتهي إلى خنق نموها، كما أصبح الحال في غانا. والآن بعدما أدخلت هذه الدول إصلاحات ديموقراطية أساسية، فإن سكانها من المرجح أن ينمو عددهم – كما توقعاتهم – الأمر الذي من شانه أن يتطلب من الدول تطوير بنيتها التحتية قبل فوات الأوان.
إن إرتفاع أسعار السلع الأساسية منعت أيضاً عدداً من الحكومات من إتخاذ خطوات لحل مسألة السلع المدعومة. إن نظام الدعم هو واحد من عدد قليل من الفوائد التي يجنيها المواطنون الذين يعيشون في الدول المنتجة للنفط، ولقد أثارت محاولات نادرة للإصلاح في الماضي (ولا سيما في الكاميرون ونيجيريا) أعمال شغب عنيفة. ولكن على الرغم من ذلك تبقى الإصلاحات ضرورية: يشكل الدعم عبئاً ثقيلاً على الموازنات الوطنية، وهو يحفّز الإستهلاك المفرط، والتهريب، والفساد، فيما يخفّض الإنتاجية الصناعية، لأن الكهرباء والطاقة رخيصتان.
الحمد لله على أن هبوط أسعار النفط يخفّض الإعانات تلقائياً لأن الفجوة بين أسعار السوق والأسعار المدعومة تقل، مما يجعل جهود الإصلاح أكثر قبولاً. عندما يتم جمع إصلاحات الدعم مع سياسات إجتماعية تقدمية، فإنها تصبح أكثر قبولاً لدى المواطنين. وفي هذا المجال تخدم مصر بمثابة مثال على هذه الظاهرة: بدأ الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروع توزيع البطاقات الذكية لفقراء مصر، والسماح لهم بشراء عدد محدود من المنتجات من خلال الإعانات. وبمجرد الوصول إلى الحد الأقصى، فإن حامل البطاقة يجب عليه بعد ذلك دفع أسعار السوق. الإصلاحات عادت مجدداً إلى الطاولة في نيجيريا بعد محاولة الرئيس السابق غودلاك جوناثان الفوضوية لتقديم تخفيضات جزئية، الأمر الذي أتى بنتائج عكسية في نهاية المطاف. إعتماداً على البلدان فإن هذه الدينامية تختلف: أعلنت الغابون قرارها خفض الدعم في وقت سابق من هذا العام، غانا تميل ذهاباً وإياباً بين القطع وخفض الدعم وإعادته (والذي قد لا يتغير قبل إنتخابات 2016)، في حين إنتقلت أنغولا بجرأة قدماً في نيسان (إبريل)، مع زيادة السعر تقريباً 30 في المئة. وفي الجزائر، على الرغم من الإعلان عن أن الدعم لن يُمَسّ، فإن الوضع يتطلب الآن زيادة الضرائب.

إنتهاز الفرصة

لا شك أن غرق أسعار النفط أمر مخيف، ولكنه أيضاً فرصة للإنتقال من الماضي. وهو مناسبة للبدء في إستخدام السلع كما ينبغي أن تكون دائماً: نعمة وليس نقمة. لا تزال أسواق النفط العالمية مضطربة، ولا تُظهر علامات تُذكر على تحقيق الإستقرار. ويمكن للبلدان الغنية بالنفط أن تتفاعل من خلال محاولة مواصلة تأجيل العمليات الإنتقالية الجارية حالياً. والأمل في أنها ستسعى إلى المسار المعاكس في الوقت الذي لا تزال الموارد المالية تسمح لها: الحفاظ على الإستثمارات في البنية التحتية التي من شأنها أن تجعل تحقيق التنويع الاقتصادي واقعاً، الأمر الذي يحدّ من مواطن الضعف في أسعار السلع الأساسية. كما أن إصلاح الدعم، جنباً إلى جنب مع سياسات إجتماعية هادفة وتحسين الإدارة، سوف يخلق أثراً إقتصادياً من شأنه أن يعزز رابط المساءلة بين الحكومات ومواطنيها، وبالتالي سيعزز تحوّل تلك البلدان إلى الديموقراطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى